أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الأيام البحرينية

أندرجراوند

ذات مرة.. كان هناك وطن

ترجمة: أمين صالح

امير كوستوريكا، المخرج اليوغوسلافي، حقق فيلمه (underground) وهو انتاج فرنسي، ألماني مجري، في العام 1995، وقد اثار جدلا وخلافا، فالبعض، وبالذات ضمن الاوساط السياسية والثقافية في البوسنة - اتهمه بمناصرة الصرب (هو صربي مسلم) وعدم ادانته او فضحه لجرائم الصرب، وتصويره في براغ وبممثلين كلهم من الصرب بدلا من البوسنة. كما اتهموه بالخيانة لأنه باع نفسه ووطنه للصرب ولأنه غادر موطنه سراييفو واقام في باريس.

وقد رد كوستوريكا قائلا: امر غريب ولا يصدق ان يهاجمني الناس بسبب هذا الفيلم. هاجموني لنفس السبب الذي ناضلت ضده في فيلمي، والذي هو الجنون الأخير، النهائي، الذي يوجد اليوم.

وقد بلغ به التأثر، ازاء النقد السلبي والهجوم العنيف، ان قرر الاعتزال غير انه عاد بعد عامين ليحقق فيلمه التالي (قط ابيض، قط اسود).

وعلي الرغم من كل شيء فقد استطاع فيلمه (اندرجراوند) ان ينتزع الجائزة الكبري في مهرجان كان اضافة الي جائزتين اضافيتين في المهرجان نفسه.

امير كوستوريكا المولود في سراييفو في نوفمبر 1954، بعد تخرجه من معهد السينما ببراغ، حقق عددا من الافلام الهامة أولها: هل تتذكر دولي بيل؟ (وقد حاز علي الجائزة الكبري في مهرجان فينيسيا 1981)، عندما كان أبي في رحلة عمل (الجائزة الكبري في مهرجان كان 1985)، زمن الغجر (جائزة افضل اخراج في مهرجان كان 1989)، حلم اريزونا (الجائزة الثانية في مهرجان برلين 1993(.

في فيلمه (تحت الارض underground) وعبر ساعتين و47 دقيقة، هي مدة الفيلم، يقدم كوستوريكا مرثية لبلدة كان يدعي يوغوسلافيا قبل ان يتمزق، مفتتحا الفيلم بعنوان جانبي تهكمي لكن يتسم بالحنين: ذات مرة كان هناك بلاد، وعاصمتها بلغراد. انه عن تاريخ بلاد كفت عن الوجود او انشطرت الي اجزاء، ممتدا - الفيلم - عبر فترة زمنية تستغرق خمسين عاما من الغزو النازي لبلغراد اثناء الحرب العالمية الثانية وحتي الحرب الاهلية الدامية مرورا بحكم الرئيس تيتو.

ماركو وبلاكي صديقان من الصرب يقومان بأعمال غير مشروعة من بينها المتاجرة في السوق السوداء لكن بعد قصف بلغراد في ابريل 1419 والاحتلال النازي، يبدأ الاثنان في بيع الاسلحة للمقاومة مما يعرضهما لمطاردة المخابرات النازية (الجستابو) لهما، الامر الذي يفضي الي لجوئهما مع عائلتيهما، الي الدور الواقع تحت الارض حيث ينشئان معملا لصنع الاسلحة - من اجل بيعها في السوق السوداء - بعد التحاق المزيد من اللائذين الي المكان. ماركو هو الوحيد الذي يخرج، ليشكل الرابط الوحيد لهم مع العالم الخارجي، بينما يمكث البقية تحت الارض. ينهزم الالمان وتنتهي الحرب لكن ماركو الانتهازي والاناني يخفي عنهم هذه الحقيقة من اجل الاستفادة من مجهودهم في انتاج الاسلحة، متحولا بفضلهم الي تاجر اسلحة ذي نفوذ تؤهله لأن يصبح مستشارا للرئيس تيتو ولأن يحرز سلطة واسعة، موهما اصدقاءه والمقاومين بأن الحرب لم تنته بعد وذلك باسماعهم صفارات الانذار والاغاني النازية والانباء الملفقة.

في العام 1961 وبعد عشرين سنة، يقوم ماركو - الذي يعتبر بطل حرب - برفع الستار عن تمثال مصنوع لصديقه بلاكي تخليدا لبطولته ولذكري مقتله اثناء مقاومته للاحتلال، في حين ان بلاكي والاعداد المتزايدة من المختبئين تحت الارض لا يزالون يعتقدون بأن الحرب لم تنته بعد. وبعد موت الرئيس تيتو تبدأ يوغوسلافيا في التمزق الي دول، وماركو يجد صعوبة متزايدة في اطالة امد الاكذوبة التي بثها وكرسها عبر سنوات طويلة.. خصوصا وانهم يتأهبون لشن هجوم كبير علي قوات الاحتلال (النازيين) في الخارج، وهذا يترافق مع رغبة فريق من السينمائيين تصوير بطولات المقاومة، وبالتالي يفضي الي مقاتلة الممثلين معتقدين - بسبب ازيائهم العسكرية - انهم نازيون ثم يعودون الي المخبأ.

بعد ذلك ننتقل الي الوقت الحاضر، أوائل التسعينات، حيث تنطلق بالخطأ قذيفة وتحدث فجوة في القبو، ومنه يخرج بلاكي والآخرون ليجدوا انفسهم في انفاق سرية تحت الارض، وليكتشفوا عجزهم عن معرفة وتمييز بلادهم التي دمرتها الحروب الاهلية، فالقنابل والخرائب وحمامات الدم في كل مكان. وتتضح لهم الخديعة المرعبة. وعندما يقبضون علي ماركو المقعد وزوجته، يأمر بلاكي باعدام صديقه حرقا فيقول هذا قبل ان يموت: الحرب لا تكون حربا حقيقية إلا عندما يقتل الأخ أخاه. وينتهي الفيلم بمشهد طوباوي متخيل يلتقي فيه الاحياء والاموات في وليمة جماعية علي قطعة ارض جرداء تنفصل عن البر الرئيسي لتطفو علي المياه وتنجرف علي مهل فيما الاشخاص يحتفلون. ثم تنزل كتابة تقول: هذه القصة ليس لها نهاية.

ولأن هناك الكثير من الدلالات السياسية والاجتماعية خلف مشاهد الفيلم، والذي يحتمل العديد من القراءات والتأويلات، فان الفيلم يقتضي من المتفرج تركيزا ومتابعة دقيقة لمجريات الاحداث. بالامكان تقسيم الفيلم الي ثلاثة فصول، او مشاهدته كثلاث قصص منفصلة، مختلفة في الموضوع والاسلوب: سنوات الحرب العالمية، نظام تيتو والحرب الباردة، الحروب الأهلية. لكن جوهريا الفيلم يعمل علي عدة مستويات من التعقيد والتركيب المتواشج، الذي يتراوح من السياسي الي السيكولوجي. والمخرج امير كوستوريكا يستنطق الرغبة الانسانية في امتلاك السلطة السياسية، وفي الوقت نفسه ينسج بنية مركبة فيها يعمل الفيلم كتحليل سيكولوجي للنظام السياسي.

لعنوان الفيلم اندرجراوند أكثر من دلالة، وفقا للتأويلات المتباينة. فللكلمة ذاتها معان متعددة يمكن استنباطها من تحليل وتأويل الاحداث.. هي حرفيا تعني القبو (تحت الارض) الذي تختبئ فيه شخصيات الفيلم. وهناك المعني السياسي: المقاومة وكذلك المعني السيكولوجي حيث الاندرجراوند مرادف لحالة اللاوعي الجمعي. بالتالي فانه فيلم مركب، متعدد الطبقات، لا يتبع خطا سرديا طوليا بل يعتمد علي الانتقالات في الزمان والمكان.

المخرج عبر فيلمه هذا يوجه مرثية شخصية لبلاد (يوغوسلافيا) لم تعد موجودة بعد ان مزقتها التناحرات العرقية والايديولوجية، والتي بدورها مزقت كل الروابط الانسانية من حب وصداقة واخوة وتعايش سلمي. لقد تحولت تلك الدولة الي جمهوريات متصارعة نتج عن انقساماتها وتناحراتها: الحروب المدمرة، الجرائم الجماعية، التطهير العرقي، تدمير القري والبلدات، معسكرات الاعتقال، النزوح الجماعي، المقابر الجماعية والجروح النفسية العميقة.. وكل ذلك التدمير والانشقاق حدث لأن الدولة كانت قائمة علي سياسة الكذب وثقافة الكذب معا. تقول احدي الشخصيات: الشيوعية كانت مجرد قبو كبير. وفي هذا نجد تماثلا صريحا بين يوغوسلافيا والقبو الذي اقامت فيه شخصيات الفيلم سنوات طويلة، ضحية الكذب والخداع، وعندما خرجت وجدت كل شيء في انهيار.

وهنا ثمة تناقض في رثاء المخرج لانهيار يوغوسلافيا وتقريره بأنها كانت بلادا قائمة علي الاكاذيب. وربما مبرر ذلك نجده في حقيقة ان شعوب البلقان بشتي انتماءاتها العرقية والدينية والثقافية كانت متحدة ومتعايشة فيما بينها حتي لو اجباريا وتحت قبضة حديدية وضمن نسيج من الكذب والخداع. اضافة الي ذلك فان يوغوسلافيا، بالنسبة لكوستوريكا، ليست مجرد بلاد بل عالما من الطقوس والشعائر والعادات والاعراف والطبائع والحلم والخيال والموسيقي واللعب.

المخرج يقدم فيلمه عبر مزيج من الدعابة السوداء والتراجيديا حيث يطرح معالجة ساخرة، تهكمية، لأحداث تاريخية مأساوية، معتمدا علي مخيلة خصبة وغنائية اخاذة. لينتج في الاخير عملا ممتعا ومحركا للمشاعر في آن. 

الأيام البحرينية في

07.09.2003

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004