أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 
 
 

ملفات خاصة

 
 

لاحق

<<

07

06

05

04

03

02

01

>>

سابق

 
 

ملف الأيام البحرينية

 
 
ملف عن أمين صالح في الأيام البحرينية
22 ديسمبر 2007
 

نديم المرفأ.. هذا هو لا أقل بل أكثر

 

أمين صالح.. بحر صداقة

 

أمين صالح: الوردة تذبل إن لم تعرها إلتفاتة

 

أمين صالح.. قنديلنا الأزلي

 

هنا الوردة.. هنا نرقص

 

أيقونة الأرشيف السماوي

 

منح أمين صالح هذا الوسام.. تقدير صحيح من قبل القيادة

 

 

أيقـــونـــــــــة الأرشـيــــــف الســـمـــــــاوي

 

رؤى - قاسم حداد

 

( 1 ) 

ستتمنى لو أن لديك المزيد من الجراح لتعالجها بهذا البلسم المسمى أمين صالح.

هذا شعور سينتابك بعد أن تتعرف على أمين صالح، وهذا هو بالضبط الوصف الذي أحب أن أتمثل به كلما طلب أحدٌ مني وصف هذا الصديق.

منذ أن تعرفت عليه، قبل أكثر من ثلاثين عاماً، صار يشكل الشقيق الأجمل لحياتي.

تشاركنا في كل لحظة من لحظات هذه السنوات القاسية كما لو أنها النزهة الخرافية لكائنات لا تحسن النوم إلا في المستقبل، وهذا ما صاغ لنا عائلتنا الصغيرة، التي يشكل أمين صالح سماء رؤوفة لها. لقد نشأت علاقتنا من خلال الكتابة والحياة مثلما تنشأ الشجرة طالعة من كتاب لكي تصبح حديقة في بيت.

( 2 )

هذه شهادة شخصية خالصة، يجب الاعتراف بذلك منذ الوهلة الأولى، وخصوصاً منذ أن طلب مني، أنا بالذات، الكلام عن أمين صالح. لأنهم يدركون جيداً أن شهادة (مجروحة) كالتي أقولها عن أمين صالح، هي بالضبط ما يريدون، فهي شهادة الصديق على الصديق، شهادة يمكن أن ابدأ بها نصاً لا ينتهي أبدا، لو يعلمون. فهي الشهادة التي لن يتاح لنا فيها معرفة الحدود بين التجربة المشتركة في الكتابة والعلاقة الحياتية الممتزجة بالأفق الإنساني المطلق.

لم أعرف معنى أن يكون لك صديق، بالمعنى النهائي المطلق، إلا مع أمين صالح. حيث (المعنى النهائي المطلق) للصداقة عندي، هو أن تشعر باستحالة أن تجد في الأرشيف السماوي كائناً في مرتبة بين المرتبتين: الملاك والإنسان.

أحب أن ازعم أن ذلك يمكن أن يحدث، وإلا كيف يمكننا الكلام عن اجتراح المعجزات.

هذا صديق لا يمكن تفاديه. خصوصاً إذا وضعنا في اعتبارنا أن الكتابة، بالمعنى الأسطوري للإبداع، هو ضرب من عمل الآلهة، وهو خلق مضاعف للحياة سوف تزعمه المضاهاة الجسورة للفعل المقدس، والصداقة التي تنشأ في كينونة خلق من هذا النوع، هي أيضا مرشحة (أو هي مطالبة بالضرورة) باجتراح المعجزات، التي أشعر بأننا (معاً) لم نتوقف عن اكتشافها كل يوم وكل نص.

مع أمين صالح أزعم أننا نذهب هذا المذهب في حقل الكتابة، إذا تفادينا الحدود التقليدية للتواضع المفتعل، ففي لحظة الحقيقة لا تتنازل الآلهة عن أوجها الشاهق.

( 3 )

بين مخلوقات هذه الحياة ليس من المتوقع أن تصادف، بسهولة، شبيهاً لأمين صالح، شبيهاً بالمعنى الشعري الذي نتورط فيه منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وصداقتي معه هي واحدة من المكونات التي صاغت حياتي، ليست الأدبية فحسب، ولكن الإنسانية خصوصاً. فالدرس الحميم الذي أقرأ فيه الكون معه يتجاوز البعد الثقافي والأدبي، لأن في شخصية أمين من السحر ما يجعلك تشعر بأن ثمة ميزاناً رهيفاً يقدر على أن يسعفك في اللحظة التي تحتاج ذلك. لذلك فإننا لم نكن نكتب الكتب معاً، بل كنا نصقل المرايا التي تستعصي على الوصف.

( 4 )

منذ اللحظة الأولى في عالم الكتابة كان أمين صالح قد قطع (علينا) الطريق نحو الشعر، بالرغم من شهرته بكتابة القصة، فطاقته الشعرية في التعبير وضعته في الجوهر الجميل من النص الشعري، حتى أن أحد النقاد وصفه مبكرا بأنه شاعر ضل الطريق، وفات هذا الناقد أن أمين صالح كان يعرف ماذا يفعل، خصوصاً وأنه سوف يصوغ لنا النزوع المبكر للخروج على النوع الأدبي الموروث، حتى أنني رأيت في روايته (أغنية ألف صاد الأولى) واحدة من الاقتراحات المبكرة الواضحة نحو النص الحر.

لقد كان شاعراً، بالمعنى العميق للكلمة، وربما كان هو أكثرنا شعرية. والشعرية التي اقصدها سوف تتجاوز هنا النص المكتوب ليطال الطبيعة الإنسانية للشخص، حيث سيبدو أمين صالح، حسب معرفتي به، كائناً شعرياً بامتياز في سلوكه اليومي، فهو من الرهافة والشفافية والحميمية، بحيث تستطيع أن تكتشف الطفل المتحكم في طبيعته منذ اللحظة الأولى لتعرفك عليه. وبهذا المعنى، فانه، حين يكتب، لم يكن يخرج عن حدود طبيعته، حتى أنك سوف تواجه صعوبة في معرفة الحدود بين أمين الشخص وأمين النص. وهذه طبيعة يندر أن نصادفها في حياتنا الأدبية. لكن أمين صالح استطاع أن يقترح علينا طوال هذه السنوات إمكانية أن يحافظ الكاتب على حقيقة التماهي في نصه إلى الدرجة التي تجعله طاقة هائلة من الحب الذي سيفيض دائماً على من حوله، فيقع في حبه كل من يتعرف عليه.

( 5 )

دقيق في تفاصيل حياته تماماً مثل دقته في صياغة كلماته، والكتابة عنده هي المبرر الوحيد لكي يرى الحياة ممكنة. يسهر على جملة واحدة أياماً ولياليَ، ولا يقبل النص بسهولة، تؤرقه الكلمة فيما يكتبها، وتدمره كلمة فيما يسمعها أيضاً.

معه تتأكد بحق من القول الذي يشير إلى: أن الحياة ضرب من كلمات تعاد صياغتها بين وقت وآخر.

( 6 )

الحوار العميق الذي دار بيننا في الكتابة والعمل الأدبي، هو بمعنى ما، انعكاس شفيف للحوار الإنساني المشترك الذي صهرنا طوال السنوات، فعندما كتبنا (الجواشن) لا اذكر أننا احتجنا إلى نقاش للاتفاق على الفكرة والمشروع وطريقة الكتابة، كان كل شيء يحدث بسلاسة وبمعزل عن التحكم العقلاني أو الذهني، ربما كنا نمشي في حلم، وأعتقد أن الأمر برمته كان ضرباً من المغامرة التي تبدأ بدعابة وسرعان ما تأخذ شكل الدرس والاستحواذ والمتعة والتحرر من الحدود التي أرهقتنا في الحياة. في الكتابة، نشأ بيننا ما يمكن وصفه بمضاهاة الحلم. تدربت مع أمين صالح على رؤية الواقع من شرفة الحلم، وهي الطريقة الفاتنة في جعل النص نقيضاً مستمراً للواقع وليس انعكاساً له، كما ظل الآخرون يحاولون إقناعنا.

عندنا، النص هو نقيض للواقع، بالمعنى الجمالي العميق للإنسانية، فأنت لكي تصوغ ذاتك في مواجهة ضراوة العالم وبشاعته، لابد من التحصن ضده بطاقة مخيلتك الحرة التي لا تكون فاعلة ونشيطة وصادقة إلا في الحلم، ذلك الحلم الذي أحسن أمين صالح وضعه في المكان الشاهق من سعيه الإبداعي وهو يصوغ تجربته الأدبية. لقد تعلمت مع أمين صالح أنه كلما صارت الكتابة متعة حقيقية بالنسبة للكاتب، تسنى لها أن تكون كذلك عند القارئ. ومضاهاة الحلم، إذن، هو الظهير القوي لتجربتنا في الكتاب. وبسبب من هذه المضاهاة الفاتنة، أصبحت الكتابة بالنسبة لنا آلية الاستمرار في الحياة في سبيل وضعها في مهب المستقبل الأجمل، ولا أظن أن ثمة أسمى من أن تكون الكتابة متمثلة في هذا التوق الإنساني النبيل. لقد منحني أمين صالح، فيما كنت أخرج من تجاربي الدامية وكثيفة الألم، قدرة الصمود ضد كافة أنواع السلطات التي أرهقتني روحاً وجسداً، ومقاومة شتى أشكال الكبح الفكري والسياسي الذي رافقت تجربة انهماكي المبكر في العمل الحزبي والسياسي، وهو عمل أستطيع الزعم أنني كنت أقوى منه بما لا يقاس منذ اللحظة التي تعرفت فيها على أمين صالح، حيث أصبحت الكتابة هي قوتنا ضد كافة السلطات، الكتابة بوصفها حرية الكائن وجنته. منذ تلك اللحظة بدأت فكرة الجمال الفني تأخذ بعداً أكثر عمقاً ومسؤولية ومتعة. وعندما تجد صديقاً مثل أمين صالح، سوف تدرك معنى تبادل أنخاب الكتابة، في ما يشبه المضاهاة المشتركة نحو النص، كما لو أننا كنا نكتب لإثارة إعجاب بعضنا البعض، فمن هنا يبدأ نجاح النص أو فشله بالنسبة لنا.

لأن تحقق ذلك الإعجاب لم يكن سهلاً لأحدنا، كأننا كنا نطلب النص المستحيل، النص غير المكتوب على قياس نص سابق.

( 7 )

في سياق التجربة الأدبية في هذه المنطقة من العالم، شكلت تجربة أمين صالح طاقة تأثير حميمة لكتابات عربية كثيرة، لا تزال ترى فيه المحرض الصادق على كتابة مختلفة، في بنية النص، شعراً ونثراً. وهي مسألة يعترف بها شباب كثيرون ويرون في مقترحات نصوصه الأفق الذي تطمح له كتاباتهم منذ البدايات. فهو من بين أهم التجارب العربية التي ساهمت في تأسيس حساسية جديدة في الكتابة العربية منذ بداية سبعينات القرن الماضي، بصمت خفر لكن بثقة رصينة الانجاز.

( 8 )

نزوعه الشعري يجعله يعبر عن حسده للشعراء، حتى أن اهتمامه بالشعر يبدو مثيراً ولا يستقيم مع شخص عرف عنه أنه كاتب قصة وروائي. غير أن هذا هو الطبيعي منذ أن عرفته. فالشعر عنده لم يكن مقتصراً على القصائد، وهذا هو البعد الذي أشرت إليه قبل قليل، عن عمق حساسية أمين صالح الشعرية، فهو منذ بدأ كان يرى الشعر في كل تفاصيل الحياة، حياته وكتابته خصوصاً. فبالإضافة إلى ولعه الجنوني بفن السينما منذ بدايته الثقافية، كان قانون الشعر وقيمته هما اللذان حكما علاقته بالمكونات الأساسية لمعرفته الأدبية والفنية. فهو أحب الشعراء في كل فنون التعبير التي انهمك في التعرف والتقاطع معها، لقد أحب تاركوفسكي وبيرغمان في السينما، وأحب ماغريت وميرو في الرسم، وأحب جورج شحادة في المسرح،  وأحب ديستوفسكي وكافكا وكونديرا في الرواية، وأحب بارت في النقد، وأحب سان جون بيرس ولوتريامون وأدونيس وسليم بركات في الشعر. وهذا ما جعل علاقتنا اشتباكاً شعرياً متواصلاً ساهم في صقل وتأجيج متعتنا المشتركة في الكتابة، وساهم بالضرورة في الاحتكام الصارم للذائقة المشتركة تجاه ما نكتب، وسوف نتبادل صراحة القراءة لكل ما نكتب.

( 9 )

إن تفاهمنا في الحياة منقطع النظير، حتى أننا في مواقف كثيرة لم نكن بحاجة للكلام لكي نقرر أو نتفق أو نذهب أو نعود أو نفعل الأشياء. يكفي أن نتبادل النظرات لكي نعرف ما نريد. ثمة حوار روحي عميق من شأنه أن يفتك بنا إذا ما تعرض أحدنا لأي مكروه.

لا أحد يحسن العودة من السفر مثلما يفعل أمين صالح. فهو بعد أن يقيم ورشة الاستعداد لسفر إلى مكان ما، مستغرقاً أياما في ذلك، وبعد ان نغادر ونصل إلى ذلك البلد، سرعان ما يقف في اقرب شرفة في الفندق، لكي يلتفت ناحيتي، وقبل أسمع سؤاله قائلاً: (ما رأيك؟).

سوف أدرك أنه يفكر جدياً في العودة إلى البحرين. والمشكلة أنني أجد في هذا السؤال جواباً يمسّ الشغاف عندي، فبالنسبة لي العودة إلى البيت (من أي مكان في العالم) هي نعمة تضاهي الجنة. فنجد أنفسنا بعد قليل في مقعد الطائرة عائدين مثل أطفال يهرعون خارجين من أسوار المدرسة ناحية الدار.

بالنسبة لأمين صالح، البيت هو المكان الآمن الوحيد في الكون، وبالمناسبة فان أمين صالح هو الذي اكتشف لي جملة كافكا المعبرة التي تقول (ان مجرد عبور عتبة البيت مغامرة غير مأمونة العواقب).

لا أحد مثل أمين صالح يحسن العودة من التجربة، فما من مرة عدنا من تجربة إلا وكنا مفعمين بالحكمة والحب والمعرفة والكتابة التي نعشق. وأحب هنا الإشارة إلى ضرورة تجاوز المفهوم الحرفي للمشاركة المتواصلة في ورشة الكتابة بيني وبين أمين، فالأمر لم يكن مقتصراً على النصوص التي أنجزناها مطبوعة معاً، مثل (الجواشن) و(موت الكورس) و (الدم الهاطل)، فما أعنيه في الواقع تلك الروح الغامرة التي لم تتوقف طوال هذه السنوات من الاستغراق في مباهجها الفنية، فثمة تداخل غامض يمكن رصده والحديث عنه في العديد من نصوصنا التي نشرت لنا في كتب منفصلة، حيث أجواء الحوار العميق بين تجاربنا اليومية، سوف تجعل كلا منا قريبا من تجربة الآخر ومساهماً فيها بشكل من الأشكال، فهناك مثلاً ملاحظات مهمة على نصوص لي طرحها أمين بعد الكتابة أفادت الصورة النهائية للنص، كما أن هناك اقتراحات متبادلة لبعض عناوين النصوص، وأشكالا غير قابلة للرصد نقبلها من بعضنا في المراجعات الأخيرة للنص. بهذا المعنى أستطيع الزعم أن مثل هذه التجربة هي بمثابة الدرس الفاتن للمفاهيم الفنية التي نسعى دائماً لبلورتها ومغادرتها، على صعيد الكتابة المشتركة من جهة، وصعيد النص المفتوح على مختلف الآفاق من جهة، وعلى صعيد تجاوز أنواع التعبير من جهة، وخصوصاً على الصعيد الأشمل وهو مفهوم النص غير النهائي، حيث الحلم الباذخ الذي يشكل بالنسبة لنا  وضع الكتابة في مهب المخيلة الحرة.

( 10 )

لكن هذا لا يعني أننا متشابهين في طبيعة الظاهر، على العكس، فطبيعتي الانفعالية سوف تحتاج دائماً لطبيعته المتبصرة التي تقارب الحكمة. ونحن مختلفان في بعض التفاصيل التي لم تكن مدعاة لأي اختلاف أبداً، فهو مثلاً قد أعلن ذات مقال عن ضجره من المسرح الذي (كنت) أحبه، وهو أشار إلى خلودي إلى النوم في قاعات السينما التي يعشقها حد الجنون.

دائماً، ستتمنى لو أن لديك المزيد من الجراح لتعالجها بهذا البلسم المسمى أمين صالح.

أقول ذلك، لأن أحداً لم يضمد جراح حياتي مثل أمين صالح، ولم أعرف أحداً يصعّد مفهوم الصداقة الإنسانية بالمعنى الأمين والصالح.. مثل أمين صالح، وما عليكم إلا أن تبحثوا عن هذه الأيقونة في الأرشيف السماوي.

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)