عندما اكتشفت السينما في أواخر القرن التاسع عشر وأقيم العرض العام الأول لأفلام “الأخوة لوميير”، انبهر المتفرجون العاديون والنقاد الفنيون كذلك، بالخاصية الجديدة التي تفردت بها السينما، خاصية تصوير الحركة عن طريق ضخ الدم في عروق الصور الثابتة. وعندما اكتشف الصوت بعد ثلاثة عقود من الزمن من عمر السينما، أضيف بعد جديد للحركة جعلها أكثر تكاملا، إذ أصبحت الحركة مرئية ومسموعة. وهكذا، ونتيجة لقدرة السينما على مخاطبة السمع والبصر معا، بات بمقدور الباحثين في ماهية وآفاق السينما ان يتذكروا حلم الإبداع القديم بجعل الجماد حيا، مكتشفين في السينما ما هو أبعد من مجرد نقل الحركة والصوت والإيهام بالواقع وسرد الحكايات، جانبا جديدا يشكل أحد خصائصها الأساس وعمقها الروحي، إنه نبض الحياة التي تقترحها السينما فلا تكتفي بأن تعرض على المشاهدين ظلال الأشياء منعكسة على الشاشة بل تجعلهم يعيشون تجربة العيش في عالمها. هذه القدرة التي تمتلكها السينما والمتمثلة في جعل المشاهدين يعيشون تجربة العيش في عالمها هي التي حافظت على استمرار سحر السينما وتأثيرها المتغلغل في حواس المشاهدين، رغم أن سر السينما، سر تقنياتها قد انكشف وبات معروفا للجميع. يتجلى سر نبض السينما بشكل خاص من خلال أفلام هي عبارة عن تحف سينمائية مملوءة بالحساسية، يصنعها فنانون مبدعون كبار يبثون عبر المرئيات والأصوات التي تشكل الفيلم روحا غير مرئية، لكن المشاهدين يستقبلونها باعتبارها محسوسة ملموسة. واحد من الإنجازات الحقيقية لفن السينما في القرن العشرين يكمن في أنه نجح في أن يحقق أو يقارب تحقيق هذا الحلم القديم بإنطاق الأشياء الجامدة من خلال الفن، وهو الحلم الذي عبر عنه ذات يوم شاعر ياباني من القرن الثاني عشر بسطرين عميقين من الشعر: “آه لو كان لي ان أرسم أزهار الخوخ برائحتها”. نجد مثل هذا الحلم في التجربة الشعرية التي خاضتها الفنانة النحاتة منى السعودي وهي تتأمل في الحجر الجامد الصامت، وترى خلف شكله البدائي الخام جسدا مخبأ، تشتغل عليه مستخدمة المطرقة والإزميل، تزيل عنه الزوائد لكي يخرج الجسد من مخبئه ولكي تبعث فيه الحياة. يسيطر هاجس بعث الحياة في الحجر الجامد على منى السعودي وهي تؤكد على هذا الهاجس في تجربتها الإبداعية الموازية التي تكمل وتتكامل مع إبداعها في مجال النحت وهي كتابة الشعر. تقول منى السعودي في ديوان شعري قديم لها بعنوان “رؤيا أولى” الذي يتضمن قصائد قصيرة مصحوبة برسومات للشاعرة وصدر في بيروت في العام 1972 : “وكأن الحجارة تسعى فوق الأرض وكأن الحجارة روح الأرض” والحجارة المقصودة هنا ليست الحجارة العادية في شكلها الطبيعي البدائي الخام، بل في تحولها، عبر النحت، لأعمال فنية معبرة تنبض بالحياة. ونجد في هذين البيتين من الشعر اللذين تعبر فيهما الشاعرة النحاتة منى السعودي عن علاقتها بالحجر كمشروع لولادة عمل فني، انعكاسا لحلم قديم طالما راود المبدعين عبر التاريخ في مجالات الفنون والآداب يطمح إلى جعل الإبداعات الفنية والأدبية عامة تمتلئ بنبض الحياة وتشبع الحواس كلها او، على الأقل، ما أمكن من الحواس، أي جعل الصور الأدبية / الفنية الذهنية تمتلك تأثير الخواص المرئية / المسموعة المحسوسة مباشرة. وفي الديوان الثاني الذي أصدرته منى السعودي تحت عنوان “محيط الحلم” ثمة محاولة لتحقيق هذا الحلم القديم الذي يريد من الشعر ألا يكتفي بتصوير الأشياء اعتمادا على مخيلة المتلقي بل يحلم بتجسدها وبأن يجعلها محسوسة. إننا نرى بوضوح هذه المحاولة في العديد من قصائد الديوان. تقول منى السعودي في قصيدة بعنوان “تماثيل”: “وسأنحت لكما حبيبين، دائما اثنين، الأم والأرض، وشكل يعانق شكلا، حوار صمت وما يوجد في الحلم يوجد على الأرض والإنسان نبات حلمه”. وتقول في قصيدة “الورق الأسود” : “هل كلام الحب يصعد في الحجر ويكون الحجر حركة للصمت، وكيف نجمع بين الحب والحجر، بين كلام يقال وكلام لا يقال”. وتقول أيضا معبرة عن سعيها نحو بعث الحياة في الحجر الأصم: “.. كنت آخذك بين يدي، ونبدأ حوارنا الجميل، وتتشكلين بين رنة الإزميل ومطرقة الروح، ويولد الشكل الحي، في الفعل الحي، في الحلم الحي..”. في مقدمته للديوان أشار الناقد الراحل جبرا إبراهيم جبرا لهذه الخاصية السينمائية في قصائد منى، فكتب عن النحاتة الشاعرة “التي” تدخل الزمن في ثنايا الحجر و”تمزج الحلم بالأرض”، وتبني بالكلمة تجاويف وانحناءات وسطوحا واستدارات، لتجعل تكويناتها، كتكوينات الحجر المنحوت بين يديها”. إذا كانت الصورة الأدبية والفنية صورة ذهنية بطبيعتها، فإن الإنجاز الأكبر للمبدع يكمن في جعل الصورة الذهنية محسوسة ملموسة، تفعل فعلها في نفس ووجدان المتلقي بطريقة غامضة، هي أقرب ما تكون الى السحر. هذه الخاصية السحرية للسينما، هي على الأغلب ما تثير شهية المبدعين في شتى الأنواع الأدبية، وبشكل خاص، كتاب الرواية والقصة القصيرة والشعر الذين يعترفون صراحة بمحاولاتهم لنقل تقنيات وسائل التعبير السينمائية إلى حقل الكتابة السردية الروائية، وهي التقنيات التي يجربون اقتباسها لا من الصياغة الأدبية للفيلم السينمائي على شكل سيناريو مكتوب على الورق، بل من الفيلم السينمائي نفسه كعرض متحرك مرئي مسموع. الخليج الإماراتية في 5 يوليو 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
نبض الحياة بين السينما والشعر عدنان مدانات |
|