شعار الموقع (Our Logo)

 

 

* تهمة العداء للمرأة في أفلامه ظالمة .. إنه زوج مثالي جدا .. متعاون جدا .. يحترم المرأة جدا

* استغربت من ترشيحاته لبطولة «مواطن ومخبر وحرامي» وسألته بدهشة: شعبان عبد الرحيم ياداود؟! ثم صفقت له بعد الفيلم

* فيلمه الذي لطمت الرقيبة علي وجهها عندما شاهدته .. وعاد إلي البيت في قمة السعادة

-1-

اثنان أدين لهما بفضل دخولي إلي عالم داود عبد السيد .. أولهما هو الناقد الكبير رجاء النقاش، فداود عنده ليس مجرد مخرج بل يستحق لقب مفكر سينمائي .. وكان النقاش يري في «الكيت كات» فيلم داود الأشهر أفضل دواء لتهدئة الأعصاب وأحسن علاج لـ«القرف»، وفي مكتبته كان رجاء النقاش يحتفظ بنسخة من الفيلم يضعها بلا تردد في جهاز الفيديو لتكون أنيسه في ليالي الأرق والزهق.

دلني رجاء النقاش علي مواطن الجمال في داود المخرج، أما صديقي الفنان الشاب الموهوب فتحي عبد الوهاب فقد قادني إلي داود الإنسان ومن خلاله اقتربت من عالمه الخاص وشخصيته الساحرة وتأملاته المدهشة وإنسانيته المرهفة.

ومن حينها وأنا أحتفظ له بود خاص ووداد خالص واحترام لا ينقطع تقابلنا كثيرا وتحاورنا طويلا علي امتداد نحو تسع سنوات، ولكن لم أدخل بيته إلا قبل شهرين فقط،ولم أكن بمفردي بل كانت معي مخرجة الفيديو كليب اللبنانية اللامعة نادين لبكي.

كانت نادين في زيارة للقاهرة وأفصحت عن نيتها في الاتجاه إلي السينما، مجالها الأثير الذي حرمتها الظروف منه.. باختصار فإن نادين تخرجت في قسم السينما بالكلية اليسوعية في بيروت، وانجزت فيلما قصيرا عند تخرجها حاز علي عدة جوائز ولفت إليها الأنظار كمخرجة واعدة وسرعان ما انصرفت تلك الأنظار نظرا لمحدودية صناعة السينما في لبنان .. وجربت نادين السفر إلي أمريكا والمشاركة كممثلة في عدد من الأفلام والعروض المسرحية، ولكن التجربة لم ترض طموحها فعادت لتفرغ موهبتها من خلال الفيديو كليب، واستطاعت في زمن قياسي أن تصبح أشهر مخرجاته في العالم العربي عبر بصماتها علي كليبات نانسي عجرم وكارول سماحة.

بعد هذا النجاح عاودها الحنين إلي السينما وسألتني عن المخرج الذي يستطيع أن يقدمها سينمائيا ويعيد اكتشافها كممثلة وبلا تردد أجبت : داود عبد السيد.

وفي بيت داود نسيت نادين المهمة الأصلية التي ذهبت من أجلها أخذها سحر المكان، وهي المخرجة التي طافت الدنيا .. ارسلت عينيها إلي كل ركن وكل لوحة وكل تحفة .. ولاحظت دهشتها وهمست لي ذوقه هايل وفهمت من كلماتها اللبنانية السريعة أن المكان يذكرها بجو البيوت في الأفلام المصرية القديمة وهي عاشقة لها وبان عشقها في الكليبات التي تحمل رؤيتها وتوقيعها.. لم تنتظر نادين حتي تخرج إلي الشارع، فعلي درجات السلم أعلنت رأيها سريعا: إنه مخرج هادئ .. رزين .. متأمل وإنسان متحضر.

رأي نادين أعادني إلي السؤال القديم الذي لم أجد له إجابة منذ أن دخلت عالم داود عبد السيد: كيف جمع الرجل بين هذه المتناقضات الصعبة .. هذا الهدوء والرزانة والتأمل في شخصيته .. ثم هذا التمرد والثورة والانطلاق في أفلامه؟!

من يعرف داود لا يتصور أبدا أن هذا الرجل الذي يزن كل كلمة يقولها، وكل ابتسامة ترتسم علي وجهه وكل لفتة ولو عفوية يفعلها، هو نفسه مؤلف ومخرج «الكيت كات» و«الصعاليك» و«سارق الفرح» و«مواطن ومخبر وحرامي» بكل ما فيها من انطلاق وشقاوة وتمرد علي الحياة وتحد للظروف وتعرية بلا رحمة للواقع.

هذا المتأمل الرزين الذي ترتسم علي ملامحه سيماء الفلاسفة، وسمت المفكرين .. كيف يكون هو نفسه المعارض الأكبر للرقابة، المطالب بهدمها الرافض لمحاكمة الفن أخلاقيا ودينيا، وهو ما ظهر عمليا في أزمة فيلم «بحب السيما» والكلام عن اعتراض الكنيسة علي الفيلم .. تأمل كلماته وهو يقول:«فالفن يجب أن يكون حرًا وليس عليه رقابة، فما بالك ونحن نتحدث عن رقابة إدارية وهذا ما يأخذني للتساؤل حول صلاحية المؤسسة الدينية لتقوم بهذا الدور، وعلينا أن نعود للتاريخ لنستفيد، فتاريخ المؤسسة الدينية مع الفن والعلم معروف، فجاليليو عندما اختلف مع المؤسسة الدينية تمت محاكمته، وتسييد المؤسسة الدينية يمنع التطور في الفكر بشكل عام ومسئولو المؤسسة الدينية يرددون بأن ما يقولونه هو كلام الله، ولكني علي ثقة بأن كلام الله أوسع من فهم البشر، فنحن عمليا نطبق فهم البشر وتحليلهم لكلام الله وهذا خطر علي مستقبل البلد، ما يحدث حاليا هو سلسلة من الأخطاء فالفن لا يقيم علي أساس الديانة أو الأخلاق».

هذا الرأي الجريء الذي تشم فيه رائحة التمرد وعشق الحرية اللا محدود كيف يتناسب مع شخصية صاحبه الوقورة، المهذبة، العاشقة للصمت والتأمل؟! أسئلة حائرة عندي ، ضاعفتها ملاحظة نادين لبكي واختزنتها طويلا حتي عثرت علي من يقدم إجابة شافية عنها.

إن داود عندها كتاب مفتوح تعرف سطوره وصفحات، نقاطه وحروفه، أسراره ومفاتيحه. هي باختصار نصف داود عبد السيد الآخر .. زوجته ورفيقة حياته وأم ابنه الوحيد يوسف .. طلبت من زميلتنا الصحفية اللامعة كريمة كمال أن ترسم لي بورتريهاً عن داود الذي عرفته وعاشرته وفكت شفرته .. وأظنها قدمت جوانب إنسانية عنه وإضاءات مناطق قد تبدو غامضة في شخصيته وأعماله .. وقادتنا إلي داود عبد السيد الذي لا يعرفه أحد .. وتركتها تتكلم.

-2-

داود شخصية هادئة جدا .. مهذبة جدا لدرجة أنه أحيانا يحرجني من فرط هذا التهذيب إذا رآني عصبية ومندفعة .. هذا الأمر يتعلق بعلاقاته الإنسانية العادية .. أما إذا تعلق الأمر بشغله فإنه يتحول إلي إنسان حاد جدا .. قاطع جدا لا يعرف المجاملة ولا الرقة .. وربما يكون ذلك وراء علاقاته المتوترة أحيانا بالصحافة أو المنتجين أو السوق .. داود في هذه الحالة لا يعترف بمبدأ مشي حالك .. لا يستطيع أن يبلع بعض الأمور التي يرها غيره بسيطة ولا تستحق الوقوف عندها في بعض الحوارات الصحفية قد يستفزه سؤال يراه عبيطا فيتوقف عنده ويرد عليه بحدة شديدة.

أذكر مرة أنه فوجئ باسمه علي بيان موقع من أقباط المهجر .. بدون أن يستئذنه قام كاتب البيان - وهو صديق قريب له - بإضافة اسم داود إلي الموقعين علي اعتبار أن داود لن يمانع بدافع الصداقة علي الأقل .. ويومها ثار داود وهاج وماج واتصل به صارخا في وجهه: أنا محدش يحط اسمي أو رأيي من غير ما يسألني .. أنا مش موافق علي اللي انتو عملتوه ده ولازم تصلحوا الغلط فورا!

داود يعتز بوجهة نظره ودائما تراها متميزة ومتفردة .. ومن جواه تجد حالة تمرد علي كل ما هو تقليدي وسائد، ولا يقول إلا ما يقتنع به فعلا ولا يقدم علي خطوة أو عمل يتناقص مع قناعاته مهما كان بسيطا .. يعني لو صرفت جنيهاً من غير موضعه يشيط ويزعل .. وممكن فجأة يقرر أنه يدفع كل ما في جيبه لشراء «فازة» أو تحفة يراها جميلة وستضيف لمسة ما في البيت.

ربما يكون داود هو الزوج الوحيد الذي لا يعتقد أن البيت هو مملكة الزوجة، ومن حقها أن تنظمه بالشكل الذي يروق لها هي .. يعني لو اشترينا سجادة جديدة لابد أن ندخل في مناقشات مطولة لنختار مكانها المناسب ولو اختلفنا نتصل بصديقنا مهندس الديكور الفنان أنس أبو سيف ونستدعيه فورا ليقوم بدور الحكم.

يهتم داود بكل التفاصيل في البيت لأنه مكانة المفضل  ويقضي فيه أغلب وقته .. ولذلك يستغرب كثيرون ويتساءلون: طالما أنه يعشق البيت ولا يغادره إلا قليلا فمن أين يأتي بهذه الشخصيات الحية النابضة في أفلامه وهي شخصيات يحتاج التقاطها إلي واحد «صايع» بمعني الكلمة .. مؤلف طاف وشاف وعاش عن قرب في تلك المجتمعات الهاشمية ولابد أن داود اختزنها في ذاكرته منذ أن رآها في السنوات الي استغرقته فيها السينما التسجيلية، وتطلب انجازه لأفلامه أن يذهب إلي القري والعشوائيات ويخالط بشرا ويقابل نماذج تحولت في معمله إلي شخوص سينمائية أضف إلي ذلك أن داود بطبعه شغوف بالقراءة والمعرفة وعنده وقت يومي للقراءة والمتابعة .. وحتي لو لم يكن مشغولا بكتابة سيناريو جديد فلابد أن يدخل مكتبه ولو قضي نهاره كله في قراءة رواية.

وعند داود القدرة علي أن يعمل في أكثر من سيناريو في الوقت نفسه . ويمكن أن تواجهه مشكلة ما.. عقدة ما في سيناريو فيتركه، وأتصور أنه نساه فإذا به يعود إليه بعد شهور طويلة يكون خلالها قد بدأ في عمل جديد، وتظهر علامات الفرح عليه لأنه توصل إلي حل للمشكلة وفك للعقدة.

ولا يشعر داود بالانزعاج من قلة أعماله والفترات الطويلة التي تفصل بين فيلم وآخر.. أذكر أنه بعد زواجنا ظل لمدة ست سنوات بلا عمل، كان وقتها قد انتهي من كتابة الكيت كات وطاف به علي شركات الإنتاج فلم تتحمس له واحدة.. وصارحوه بأنه فيلم كئيب وغير جماهيري وسيسقط حتما ولا يمكن أن يغامر منتج بفلوسه في فيلم بطله كفيف .. هكذا قالوا له ومع ذلك لم يهتز وظل علي حماسه وبدأ في اتمام سيناريو آخر «البحث عن سيد مرزوق».

في أحلك أزماته وأصعب أوقاته لم يكن داود عنده استعداد للتنازل .. وفي تلك السنوات العجاف عشنا بمرتبي من مجلة «صباح الخير» ومرتبه «من المركز القومي للسينما» كان الدخل قليلا، ومع ذلك كنا في غاية السعادة وكنا وقتها نعيش في شقته القديمة بمنشية البكري وهي الشقة التي ورثها عن والديه.

عمرنا ما شعرنا بالقلق بعد أن طالت السنوات التي تلت فيلمه الأول «الصعاليك» دون أن يتم عملا جديدا .. مرة واحدة فقط هي التي كاد فيها داود  يتنازل عن قناعاته ويتخلي عن مبادئه .. كان ذلك عقب ولادة يوسف ابننا .. انتابت داود حالة من الرعب وتأنيب النفس، فقد كان يري أن هذا الطفل لا ذنب له ولا يجوز أن يدفع ثمن مبادئ أبيه وفقره .. ووقتها جاءه سيناريو فيلم، وفوجئت به يقول: أنا مش مقتنع بالسيناريو ولا هو سكني .. بس لازم أعمله لأن الولد ده لازم يتربي كويس ويعيش كويس!

وحاولت أن أراجعه رغم أن الأجر المعروض عليه يومها - قبل نحو 17 عاما - كان يزيد علي 12 ألف جنيه وهو مبلغ ضخم  بمقاييس تلك الأيام ويعني الأمان لأي زوجة ولكن لأنني مؤمنة بداود وبأفكاره وبفنه أثبت له أن مخاوفه ليست في محلها، وظللت وراءه حتي أعاد السيناريو إلي منتجه.

وبدأ بعدها في تصوير «البحث عن سيد مرزوق» وبذل فيه مجهودا فوق طاقته حتي أنه وقع بعد تصويره مريضا من شدة الارهاق .. وصادفت الفيلم ظروف سيئة حالت دون عرضه بسبب خلافات وقعت بين منتجته سميرة أحمد وزوج ابنتها وقتها شريف شعبان، ومع ذلك بدأ داود في تصوير «الكيت كات» وكان من حسن حظه أن عرض الأخير أولا ، فقد كان نجاحه الكبير سببا في لفت الأنظار إلي موهبة داود وساهم في تقبل الجمهور لـ«سيد مرزوق» وما يحمله من أبعاد فلسفية.

-3-

أنا شخصيا فوجئت أن داود يطلب مني الزواج، فهو من النوع الذي لا تظهر عواطفه علي ملامحه حتي أثناء العمل تجد أن توتره داخلي ولا تبدو آثاره عليه، بداية علاقتنا كانت علي أثر كتاب لي صدر حينها اسمه «السرايا الصفرا»، قرأه داود فأعجبه، وأبلغ إعجابه لزميلي الناقد طارق الشناوي، وتصادف وقتها وجود فيلم مصري عن مستشفي المجانين تم تمصيره عن فيلم أمريكي وكان من رأي داود أنه كان من الأفضل لصناع الفيلم لو استعانوا بكتابي وما فيه من حكايات صادقة بدلا من النقل عن عمل أمريكي.

واستأذنني طارق الشناوي في أن يعطي رقم تليفوني لداود خاصة بعد أن علم أنني بصدد كتابة سيناريو فيلم سينمائي، ولما عرضت عليه الفكرة أبدي إعجابه بها، إلا أنه اعتذر عن التعاون معي بحجة أنها ليست سكته، ووقتها كان داود مشغولاً بكتابة سيناريو أسماه «الوباء» أعطاني نسخة منه، وتناقشنا حوله، وظهر لي وله أن أفكارنا متقاربة ووجهات نظرنا في الأمور تكاد تتطابق.. ومع أن مشروعي السينمائي لم ير النور، وكذلك فيلمه «الوباء» الذي مازال قابعا في أدراجه، إلا أن علاقتنا تطورت سريعا وظننتها ستقف عند حدود الصداقة، حتي فوجئت به يعرض علي الزواج مع أن  مشاعر الحب لم تكن بادية عليه، ولم يعلنها صراحة.

ومن طول العشرة أستطيع أن أقول إن داود يعبر عن مشاعره عمليا يعني مش بتاع كلام.. أذكر أنه بعد أن فاز فيلمه «الكيت كات» بجائزة في مهرجان سوريا  وبمجرد أن حصل علي القيمة المالية للجائزة ذهب واشتري بها كوليه ليهديه لي فور رجوعه. وفوجئت بالسيدات من أفراد الوفد المصري في المهرجان يتصلن بي ليحكين لي القصة التي اعتبرنها قمة الرومانسية منه... وبعدها كنت أداعبه وأقول: انت أخدت «سوكسيه».... وأنا أخدت الكوليه.

ولأنني أعرف رومانسية داود واحترامه للمرأة أشعر بانزعاج من الكتابات النقدية التي تتهمه بالتعصب ضد المرأة في أفلامه، وتؤكد إصراره علي تقديم النماذج المنحرفة... داود لا يعمل أفلاما ليرضي بها المجتمع والناس، بل ليكشف من خلالها سلبيات وظواهر ويعري ما يراه فسادا وانحرافا.

ولأنه يعرف أن المرأة هي أس الصراع ومحور الحركة ومركز الأحداث في المجتمع المصري بالذات فإنه يستخدمها ويوظفها لكي يوصل أفكاره من خلالها وهو لا يقصد إهانتها أو إدانتها عندما يقدم امرأة منحرفة أو خائنة، بل لكي يقول إن هذا المجتمع مازال يخفي عوراته ويخشي من إظهارها ومناقشتها، إنه يضع عليها ستارا كثيفا ليوهم الجميع أنها غير موجودة، ولأن داود عنده جرأة الكشف وحرية الكتابة فإنه يدخل في مناطق وموضوعات تثير ضده العواصف... والرقابة.

ولا أنسي منظره عندما عاد من العرض الخاص بفيلم «مواطن ومخبر وحرامي» وضحكاته لا يستطيع أن يكتمها لأنه فوجئ برقية تلطم علي خديها من جرأة أحد المشاهد... داود فنيا وإنسانيا ـ يتعمد علي أن يصدم المجتمع بآرائه ووجهات نظره وأفكاره الجديدة المتجاوزة للروتين والتقليدية.

تعصب داود ضد المرأة هو إذن اتهام أرفضه.. وقد يكون مفاجأة لمن يرددون هذا لاتهام أن أقول إن داود زوج متعاون جدا، ولا يري غضاضة مثل بعضهم أن يساعد زوجته في شغل البيت... داود يفعلها بحب وتلقائية وهو ما أثار فضولي ودهشتي في البداية لأنني أعرف أنه ابن وحيد لوالديه، والابن الوحيد يشب مدللا وغالبا لا يستطيع أن يسقي نفسه  شربة ماء.

وعرفت منه أنه هو الذي حرم نفسه من «الدلع» في صغره، فعقله الناضج حتي في تلك السن المبكرة جعله يرفض  أن يحمل والدته، ناظرة المدرسة، أعباء إضافية فوق ما هو مطلوب منها في العمل والبيت فألزم نفسه بأن يتولي هو تصريف شئونه ولذلك بعد رحيل والديه عاش نحو خمس سنوات قبل الزواج أعزب، يتولي كل أموره بنفسه.

لم يفكر داود أبدا بمنطق «سي السيد» ولا يحمل أي توجهات سلبية تجاه المرأة.. فيه إيه أكثر من أنه أحيانا عندما يجدني مرهقة أو متعبة يتولي نشر الغسيل بنفسه... فعلها مرة وكنا مازلنا في شقة منشية البكري... وداود له طريقة عجيبة في تلك المهنة المنزلية فلابد أن يضع المشابك متناسقة الألوان... وكأنه يرسم لوحة تشكيلية، أو يصور مشهدا سينمائيا... وشاهدته سيدة تمر من أمام البلكونة فوقفت تراقبه، وفوجئ  بها وهي تصفق له بحرارة إعجابا بشهامته وتعاونه.

لا أذكر أننا تخانقنا يوما.... ممكن «نشد» في لحظة ولكن عمرنا ما عدي علينا يوم واحنا  متخاصمين... بيني وبين داود حالة من التفاهم الكامل.. وربما لهذا السبب يحرص علي أن يجعلني أقرأ سيناريوهاته قبل تصويرها ثقة في رأيي، وأنني لن أخدعه أو أجامله...  والشخص الآخر الذي يحرص علي أن يمنحه هذا الشرف هو صديقه الأقرب أنس أبوسيف.... فهو يثق في رأي أنس بشدة، ويستشيره  في أمور كثيرة، من أول سيناريوهاته الجديدة حتي مكان وضع السجادة الجديدة.

«4»

هناك عدد من الكتاب يحرص داود علي قراءة مقالاتهم بصورة منتظمة، أذكر منهم: محمد السيد سعيد، سلامة أحمد سلامة، صلاح الدين حافظ، مأمون فندي، وباحثي وأساتذة مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام... وقبلهم الكاتب الكبير محمد  حسنين هيكل، وفي مكتبة داود مؤلفاته وأعماله.

ويحرص يوميا علي متابعة قنوات الأخبار العربية وفي مقدمتها «الجزيرة» و«العربية»... هذا واجب يومي يقوم به... إن تلك المتابعات والتحليلات تجعله علي دراية واسعة بما يحدث في العالم، وتعينه في تأملاته، ومراقباته لأحوال المجتمع والناس.

يفعل داود ذلك علي اعتبار أنه مواطن مصري، قبل أن يكون مخرجا له فكر... وأنا أضع أكثر من خط تحت كلمة مصري هذه، ذلك أنه من أكثر ما يضايق داود بشدة أن  تنظر إليه علي أنه «قبطي».. عندما يجلس داود ليكتب ينسي تماما هذا الأمر، ولذلك يدخل أحيانا في مناطق خطرة.. ففي أفلامه مثلا لا يتورع عن مهاجمة التطرف الديني حتي ولو كان إسلاميا... إنه ينظر للأمر علي أنه مواطن مصري من حقه أن يقول رأيه كاملا.. ولا أنسي في فيلمه الاخير فوجئت أن بعض أقاربنا خرجوا مخضوضين بعد مشاهدتهم للفيلم، لأنه يعلن رفضه للتطرف الديني.

وفي أزمة «بحب السيما» كان داود مع عرض الفيلم كاملا ووقف إلي صف الإبداع بلا رهبة وبدون حساسية وأعلن رأيه بوضوح في الصحف.

وعلي ذكر «مواطن ومخبر وحرامي» فقد كنت من بين الذين أصابتهم الدهشة حينما اختار شعبان عبدالرحيم لبطولة الفيلم.. سألته يومها باستغراب: شعبان يا دواد؟ ولم تهتز ثقته في اختياراته، ولما شاهدت الفيلم صفقت له، فقد كان شعبان مناسب جدا للدور ولا يستطيع غيره أن يلعبه.

صفقت للاختيار ووضعت يدي علي قلبي من جرأة الفيلم، إنه كارثة بكل المقاييس... فالفيلم من أوله حتي مشهده الأخير يعري المجتمع بقسوة، ويفضحه بلا رحمة.. وحتي في الأغاني التي كتبها إسلام خليل كان داود يجلس معه ليقول أفكاره حتي يصيغها إسلام شعريا، وجاءت الأغاني أيضا بمثابة كارثة، فضيحة، إنها أقرب إلي منشور سياسي ثوري.. وحمدت الله أن كثيرين توقفوا فقط عند القراءة الأولي للفيلم، ولم يتعمقوا كثيرا في المعاني الخطرة التي يتضمنها.

ومن سمات سينما داود المميزة أنك تجد لكل فيلم مستويات للقراءة كل يفهمه حسب ثقافته ومرجعيته.. ولذلك كثيرا ما يكون داود غير راض عن المقالات النقدية التي تتناول أفلامه، لا يزعجه النقد ولا حتي الهجوم بل الجهل.

لا يستطيع داود أن يتمالك أعصابه عندما يقرأ نقدا عبيطا أو توجه له سؤالا ساذجا.. إنه عندها يرد بعصبية، وحدة وقد يحرج السائل.... ورغم أن تلك الحدة تضعه كثيرا في أزمات ومشكلات وتسبب له عداوات لأن أغلب الصحفيين اعتادوا علي الفنان الظريف المجامل الذي يقبل كل الأسئلة، ويجيب بنعومة حتي علي الأسئلة التافهة، إلا أن داود مصمم علي موقفه.. ولا أظن أنه سيغيره.

عندما تعرض داود مؤخرا لحملة صحفية ظالمة بسبب فيلمه «رسائل بحر»، واتهامه بأنه باع صديقه أحمد زكي، ورشح غيره لبطولته بمجرد أن دخل صديقه في دوامة المرض، قابلني الناقد الصديق علي أبوشادي في الإسكندرية، ولأنه يعرف الحقيقة كان مستغربا جدا، ويكاد يشد شعره وهو يسألني بغضب: داود ساكت ليه؟!

وأنا نفسي طلبت منه أن يرد ولكنه ترفع لأنه يرفض أن يوضع في خانة المتهم المطلوب منه أن يدافع عن نفسه حتي ولو كان يملك البراهين القاطعة علي براءته.

إنه داود... ولن يتغير

-5-

انتهت شهادة نصف داود الآخر... زوجته ورفيقة رحلته... وأسعد الناس بجائزة «التفوق» في الفنون والتي حصل عليها هذا العام عن مجمل أعماله التي فوجئ  كثيرون أنها سبعة أفلام فقط.. واستغربوا أن كل هذه الشهرة تصنعها  سبعة أفلام فقط!

كانت كريمة كمال أكثر الناس فرحا بالجائزة، لأنها أثبتت لها أنها كانت علي حق يوم قررت أن تتزوجه وأن تقف إلي جواره، وأن تعينه علي التمسك بمبادئه وأفكاره، ولا تتركه لحظة يضعف أمام متطلبات الحياة وضغوطها.

أظهرت هي ابتهاجها، أما هو فقال: أبدا.... أنا لم أقدم بعد كل أفكاري... لهذا أشعر بالتعادل... لا مهزوم ولا منتصر.... إنه داود ولن يتغير.

جريدة القاهرة في 6 يوليو 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

نصف داود الآخر تتكلم:

المرة الوحيدة التي كاد فيها داود عبد السيد يبيع ضميره

أيمن الحكيم