شعار الموقع (Our Logo)

 

 

يعد العمل الأول للفنان السينمائي جملة التعريف التي يقدم نفسه من خلالها للجمهور النقاد على السواء لذلك يظل هاجسا يتمنى المبدع ان يتخطاه بنجاح، وان تكون آثاره ايجابية على المتلقين، لكن هذا النجاح للعمل الأول قد يشكل عائقا كبيرا أمام مبدعه، لأنه يلزمه بنجاحات متتالية تفوق النجاح الأول، وهو ما لا يحدث بالضرورة، فيصبح العمل الأول عندها نصا يتمنى الفنان تجاوزه حتى لا يبقى اسيره. ومن الطرائف التي تروى هنا ـ مع أنها في غير السينما ـ ان الفنان الكبير عاصي الرحباني شوهد حزينا بعد اول مسرحية قدمها، مع انها حققت نجاحا باهرا، فسئل عن ذلك فأجاب ـ بعمقه المعروف ـ : المسرحية نجحت، شو بدي أعمل بعدها.

ليس معنى هذا أن الفنان سيقصد الى تقديم عمل متواضع بداية ثم يصعد في نجاحه، لأن النجاح فيه من الحظ ما فيه من الإبداع. لكن نجاح العمل الأول ـ للمخرج خاصة ـ يشكل له تحديا كبيرا، ويفرض عليه ان يتأنى في حساباته، وان يجتهد في المحافظة ـ إن لم يكن التقدم ـ على مستوى ذاك العمل، حتى لا يقال إن نجاحه كان ضربة حظ، او ان الشهرة والمال جعلاه باحثا عن الربح السريع دون الالتفات الى جماليات العمل.
لنا على هذا الكلام مثالان من السينما المصرية مع مخرجين راحلين، اولهما اشرف فهمي، الذي كان باكورة أعماله الفيلم الرائع «ليل وقضبان»، المأخوذ عن رواية نجيب الكيلاني، والذي يعد واحدا من أهم أفلام السجن في السينما المصرية، وقد توافر لفهمي في هذا العمل عوامل عديدة للنجاح، ابرزها النص الجيد، والتمثيل المتقن «محمود مرسي ومحمود ياسين وسميرة أحمد» مما آذن بولادة مخرج كبير يتقن عمله ويعرف كيف يختار موضوعه وممثليه. الا أن المرحلة اللاحقة لم تثبت هذا التوقع فقد ظل ليل وقضبان أجمل أعمال فهمي، وهو وإن كان لم يدخل نطاق سينما المقاولات التجارية في أغلب الأحيان، الا أن أفلامه ظلت تقليدية تتأرجح بين التشويق والمغامرات التي ينساها المتفرج بعد انتهائها، مع استثناءات نادرة لعل فيلم «المجهول» الذي مثله عادل ادهم وسناء جميل، يكون أبرزها.

المثال الثاني الاوضح على هذا الموضوع هو الراحل الشهير حسين كمال، أحد أنجح المخرجين المصريين تجاريا وأكثرهم إثارة للجدل في الوقت ذاته. فبينما شكلت أفلامه الاولى «البوسطجي، شيء من الخوف، المستحيل» دهشة ومفاجأة لكل من شاهدها، لما حملته من أساليب متميزة ومقاربات رائعة لنص أدبي «الأعمال الثلاثة مأخوذة من قصص وروايات»، إذا بكمال يغير وجهته، ويبتعد عن أفلامه الاولى اسلوبا ومضمونا، فبدأ بإخراج أفلام تجارية ـ ميلودرامية في غالبيتها ـ ومع أنه حافظ في مرحلته الثانية هذه على مقاربة  النصوص الادبية، الا أنه درج فيها على الشائع في السينما المصرية من مبالغات عاطفية، واختيار ما في الرواية من مشوقات تجارية كالرقص والمشاهد الساخنة. وهكذا ظهرت لكمال أفلام عن قصص نجيب محفوظ «ثرثرة فوق النيل، الحب تحت المطر»، وإحسان عبدالقدوس «أنف وثلاثة عيون، دمي ودموعي وابتسامتي» ويوسف ادريس «النداهة، على ورق سيلوفان»، وقد ساهمت هذه الأفلام في صنع نجومية عدد من جميلات السينما آنذاك، مثل ميرفت امين ونجلاء فتحي، لأنها تركز تركيزا واضحا على الخطاب الجسدي الذي تمتلكه هؤلاء الفنانات، قبل ان يشكل كمال ثنائيا مع نبيلة عبيد، ويخرج لها أفلاما لا قيمة لها على المستوى الفني «أرجوك اعطني هذا الدواء، أيام في الحلال، ديك البرابر ...» والغريب ان المشاهد يشعر بقصدية واضحة لكمال في الاتجاه الى النمط التجاري من الأفلام، وقد اعترف هو نفسه بذلك، إذ برر تغير توجهه في الفشل التجاري التي حققته اعماله الاولى، الأمر الذي دفعه الى البحث عن الربح بصرف النظر عن القيم الفنية للفيلم.

على الجانب الآخر لحسين كمال يقف المخرج الكبير توفيق صالح، الذي لاقى فيلمه الاول «درب المهابيل» بتمثيل شكري سرحان وبرلنتي عبدالحميد، فشلا لا تجاريا فحسب، وإنما نقدي ايضا، قبل ان يعاد اكتشافه مع مرور الوقت ليصبح من كلاسيكيات السينما المصرية.

وقد كان من الممكن بعد هذه الصدمة ان يتجه صالح للنمط السهل المربح من الأفلام، الا أنه آثر الصمت السينمائي لما يزيد على عقد من الزمان، قبل ان يخرج فيلمه الثاني «صراع الأبطال» من تمثيل شكري سرحان ايضا، الذي اعاد الاعتبار لصالح على المستويات كافة، وأكسبه مزيدا من الاحترام لثباته على مواقفه الفنية الرافضة للأعمال السطحية التجارية.

وقد ظل صالح محافظا على نمطه الخاص من الأفلام، مما جعله احد اقل المخرجين أفلاما «7 أفلام في أكثر من 50 عاما» لكنها أفلام وضعته على خارطة الفن السابع بقوة، واصبح اسمه دالا على الالتزام السينمائي، ليس في العالم العربي فحسب، وانما بين كثير من نقاد السينما في العالم.

لكن مخرجين آخرين لا يشعر الواحد منا، عندما يشاهد اول افلامهم، بأنه امام موهبة متميزة تنبئ عن ولادة مخرج كبير، لكننا نفاجأ بإبداعاتهم المتتالية التي تغير فكرتنا عنهم تماما.

ولعل هذا ما يحدث مع اكثر المخرجين، لأن العمل الاول يكون ـ عادة ـ مجرد اختبار للمخرج، يحاول فيه ان يمارس دوره بأقل الخسائر الفنية الممكنة، ولا تكون ادواته السينمائية قد اكتملت بعد. نرى هذا الكلام مع مخرجين راحلين: عاطف الطيب وصلاح ابو سيف. فالفيلم الاول لعاطف الطيب هو «الغيرة القاتلة» الذي مثله نور الشريف ونورا ويحيى الفخراني، وهو من الأفلام الساذجة التي تحكي قصة صديقين يفتقران بسبب امرأة، ومن يشاهد الفيلم لا يصدق بأن مخرجه هو نفسه الذي سيخرج بعد ذلك «سواق الأتوبيس» و «ناجي العلي» مع نور الشريف، و «البريء» و «الحب فوق هضبة الهرم» مع احمد زكي، التي جعلته واحدا من أهم المواهب التي ظهرت في مصر في عقد الثمانينات.

أما صلاح ابو سيف فلم يكن الامر محصورا بفيلمه الاول فحسب، بل ان مجموعة افلامه الاولى كانت متماشية مع السائد في السينما المصرية، من ميلودرامات ورقص ومبالغات، وذلك مثل «شارع البهلوان» و «لك يوم يا ظالم» قبل ان يصبح ابو سيف نفسه علما من اعلام الواقعية في السينما المصرية، ويكون مع نجيب محفوظ «كاتبا للسيناريو» ثنائيا مهما، فضلا عن الافلام التي اخرجها عن روايات نجيب محفوظ ذاته والتي تعد من انضج المقاربات السينمائية لروايات نجيب، وذلك مثل «بداية ونهاية» مع فريد شوقي وعمر الشريف، و «القاهرة الجديدة» مع سعاد حسني وحمدي احمد.

الرأي الأردنية في 5 يونيو 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

المخرج السينمائي والعمل الأول

التأرجح بين الإبداع والحظ

عمر خليفة