شعار الموقع (Our Logo)

 

 

لا ينصاع هذا الفيلم التسجيلي الطويل الي شروط ومعطيات الأفلام الوثائقية العادية، ولا يمكن قراءته قراءة نقدية بصَرَية علي وفق الثوابت المتعارف عليها لأكثر من سبب. فلابد من الأخذ بعين الاعتبار أن طارق هاشم هو المصوّر والمونتير والمخرج في آن معاً، وقد اشترك الي جانبه في التصوير كل من لمياء العبادي وزياد تركي، وهو الي حد ما كاتب السيناريو المُفترض بصرياً في الأقل، حتي في حال عدم توفر النص، أو انعدام الحاجة اليه. من هنا فان الفيلم برمته يخضع أو يكاد يخضع بمجمله لرؤية المخرج طارق هاشم. وهذا المخرج للذين لا يعرفونه هو مجموعة اختصاصات مصهورة في كائن ابداعي واحد، فقد درس الاخراج السينمائي والتلفازي والمسرحي في ثلاث دول وهي العراق، وبلغاريا، والدانمارك، كما تخصص في التمثيل والتصوير والمونتاج، وأفاد كثيراً من عمله كمساعد مخرج مع المخرج البلغاري المعروف Nicola Rodarov الذي أخرج الفيلم ذائع الصيت الثعلبة البرونزية وهو يميل نزعة وأسلوباً الي تقنية الصدمة وما تنطوي عليه من تحديات فنية عسيرة، هذا اضافة الي تمسِّكه الشديد بالتصعيد الدرامي الذي يضفي جواً آخر علي معطيات الفيلم التسجيلي الذي ينتمي الي تجربة طارق هاشم الفنية. لابد من التنويه الي أن طارق هاشم قد عاد الي بغداد بعد ثلاث وعشرين سنة من النفي القسري، اذ أُقصي أو أُبعِد أو هُمِّش أو صُودر حقه في الحياة هناك، في بلاد ما بين النهرين المشتعلة أبداً، وغادرها مُضطراً، أو مُقتلعاً من الجذور من دون ارادته، ثم عاد اليها، شغوفاً، حانياً، متلهفاً ينتظر المفاجآت أو المصادفات العمياء التي تتكشف عن جوهرها في اللحظة المسكونة بالفخاخ أو الألغام الموقوتة، أو بمصائد المغفلين. لا أريد أن أتحدث عن ثيمة الفيلم، فهي معروفة للجميع. فما الذي ينتظره القارئ من عاصمة سقطت في رمشة عين كما لم تسقط أية مدينة أخري في العالم!؟ اذاً، سأترك لمخيلة القارئ أن ترسم صورة بغداد علي هواها في الفوضي والخراب والعبث الذي لا يتناسب مع مدينة تمتد بعيداً في التاريخ، وتضرب جذورها في أعماق ستة آلاف سنة أو يزيد؟

براعة المونتير

لا أريد أن أركِّز علي عناصر الفن السينمائي وقواعده الأساسية المعروفة للمتخصصين أو المعنيين بالفن السابع في الأقــــل الــــذين يعرفون التكوين composition أو زاويـــة الكامــيرا Camera's angle أو اللقطـــة المقرّبة Close up ولكنني أود التركيز علي العنصرين الأكثر أهمية في المونتاج وهما التقطيع Cuing والاستمرارية Continuity المكمِّلان للعناصر آنفة الذكر. فبعد أن صوّر طارق هاشم مع لمياء العبادي وزياد تركي ست عشرة ساعة كاملة فيها من المفاجآت الأشياء الكثيرة، وفيها من المادة الخام التي قد تحمل عناصر فنية لم يُكشف عنها النقاب حتي هذه اللحظة الكثير من الأبنية والتكوينات البصرية الثاوية بين أشرطة التصوير. المونتيرة والباحثة المصرية صفاء الليثي حجاج تقول في كتابها المعنوّن (ناديا شكري، سيدة الصحبة) فالفيلم كطفل وليد سنِّه يبدأ كفكرة، ثم يشب وتظهر ملامحه في السيناريو، ويصل الي سن الشباب مع المادة المُصورة، يظهر بكل عنفوانه، بطولاته وأخطائه قبل الوصول الي مرحلة النضج مع النسخة النهائية بعد المونتاج والمكساج وعمليات الطبع والتصحيح . ان الخطوة الأولي التي تدوزن ايقاع المونتاج هي قراءة السيناريو قراءة متأنية في حال الأفلام الروائية أو التسجيلية التي تعتمد علي السيناريو، ولكن في حال عدم توفر السيناريو، واعتماد المخرج علي التصوير العفوي فلابد من مراعاة ايقاع المونتاج بدقة. في غرفة المونتاج وما يجري في داخلها من تحميض للصور وللمكساج تظل المادة المُصورة التي يعمل عليها المونتير قابلة للتشكّل أو البناء من جديد، وهذا البناء يعتمد في الأساس علي المخرج والمونتير والمصور في بعض الأحايين. ان اختيار اللقطة الفنية، وحجمها، وطبيعة حركتها، ووصل اللقطة بالتي تليها هي التي تحدد ايقاع الفيلم. وبما أن طارق هاشم هو المصوّر مع لمياء العبادي وزياد زكي والمونتير والمخرج، فهو الذي يحدد طبيعة الفيلم الايقاعية، وغالباً ما تكون مشدودة، متوترة، معبِّرة، مليئة بعناصر الايحاء المُستشفة من اللقطات العفوية، غير أن طارق هاشم لا يترك الحبل علي الغارب لهذه التلقائية، فثمة هدف تعبيري يسعي لاقتناصه سواء عن طريق التصوير أو المونتاج أو عبر الرؤية الاخراجية العامة التي يتبناها، وغالباً ما تنطوي هذه الرؤية علي نوع من التحدي الذي يميز تجربة طارق عن غيره من المخرجين العراقيين. وذات مرة دار بيني وبينه حديث معمّق حول طبيعة هذا التحدي الذي زرعه في داخله أحد أساتذته الذين تتلمذ علي أيديهم، اذ كان يطلب منه الأستاذ أن يصوّر جريمة قــــتل من دون قاتل أو قتيل أو أداة جريمة من خلال الايحاء فقط! فكم سيحتاج المخرج الي قوة تعبيرية وايحائية متفجرة لتصور مشهدا من هذا النوع أو توحي به الي المشاهد سواء عن طريق الحركات الجسدية للممثل (القديس) أو الموسيقي الوصفية أو التعبيرية، أو بقية المؤثرات الصوتية الأخري؟ في فيلم (16 ساعة في بغداد) الذي تابعته لقطة اثر لقطة لم أشعر فيها بالملل علي الاطلاق، ليس لأن الأحداث صادمة، ومؤثرة، وقادرة علي اصطياد المتلقــــي أو الأخذ بتلابيبه، وانما لنجاح المخرج في الحفاظ علي نسق ايقاعي درامي ظل يتصاعد طوال مدة الفــــيلم، ولم يختل أو ينكفئ أو يتراجع، بل أنه لم يمنح المتلقي فرصة لالتقاط الأنفاس وهو يصور اللحظات الصادمة واحدة اثر الأخري بمشاهد صادقــــة، معبرة تثير من دون شك شجن المشاهد، وتحرّك مؤشر أساه الي أقصي حـــدود الاستنفار. هذا ناهيك عن حسابه الدقيق لحركة الشخوص الذين صوّرهم (وهم في الأعم الأغلب أناس بسطاء اعترضهم علي قارعة الطريق، واستدرجهم للحديث عن الفاجعة التي حلّت بالعراق في أثناء الاحتلال وما بعده). ان محتوي اللقطات كان مدروساً في المَشاهد المسرحية التي يمكن قراءتها وتأويلها علي وفق المعادلات الموضوعية المتوافرة في الشوارع والأرصفة البغدادية المضمخة بدماء العراقيين، ويمكن قراءة هذا الفحوي الدال من خلال حركة الممثل، أو طبيعة الحوار الذي يدور علي لسانه بكل ما يحملـــه من أسيً وشجن وحسرة. كما لعبت الخلفيات المنتقاة بدقة عالية دوراً مهماً في تعزيز مصداقية فحوي هذه اللقطات، وربمــــا كان دورها أكثر أهمية وصدقاً حينما كانت الكاميرا تصور حركة الأشخاص الذين يقـــفون في قلب الخراب الذي التهم البنايات الحكومية، وواجهات المحال التجارية، فالمخرج هنا لا يحتاج الي (ديكور) خلفيات مدمرة لكي يوحي بما تتركة الحرب من آثار مروّعة، فالعاصمة برمتها، أو ربما البلد برمته قد أصبح خلفية صالحة لمَشاهد الحرب التي تدفع بأرواح المتلقين لأن تبلغ التراقي أينما أداروا أبصارهم المذهولة.

البنية السردية وآلية البوح الصادمة

ان المتلقي الذي يتابع الفيلم عن كثب سيجد من دون عناء كبير أن هناك بنية سردية تحكم أطراف الفيلم، وتحدد بدايته، وذروته، ونهايته، غير أن هذه المُحدِدات ليست صارمة، فثمة مساحات مختفية تركها المخرج لمخيلته المشاهد العضوي الذي لابد له من أن يشارك في صنع الحدث، أو يكون طرفاً فيه، فلا مجال للتلقي السلبي في الأفلام التي يصنعها طارق هاشم. صحيح أنه يقدّم جرعات جاهزة أحياناً، أو يخز المشاهد الي الدرجة التي قد يصل فيها رأس الدبوس الي العظم، ولكنه لا يحسم الأمر لأنه يعوّل علي عين المتلقي، وذهنه، وبصيرته، واستشعاراته الحسية. فبنية الفيلم تتضح معالمها القوية، الواخزة، الصادمة من المشهد الافتتاحي للفيلم، اذ ما أن يلتقي طارق هاشم نفسه باحدي صديقاته القديمات التي تأخذها المفاجأة حتي تنخرط في لحظات بكاء معبرّة يختنق فيها صوتها الراعش الذي يقول بما معناه بالفصحي تصورنا أنهم أعدموك فتنهمر دموع الاثنين معاً. تتسارع هذه البنية السردية معتمدة علي بوح الناس بكل شيء من دون خوف أو تردد. فالحقيقة تقف دائماً علي طرف الشفاه المتأهبة للكلام، تنتقد بشكل لاذع كل المظاهر الملفقة الجديدة، وتقول بجرأة ان اليوم ليس أفضل من البارحة، وان غداً سيظل مجهولاً للجميع حتي ذاكرة الجنود المحتلين لا تعرف ماذا يخبئ لهم الغد. المرأة العجوز تقول بتلقائية عجيبة احنا نريد انسان شريف وابن أوادم يحكمنا! وكأن الذاكرة الجمعية للناس تقول بأن كل الذين حكمونا أو أغلبهم هم غير شرفاء، وليسوا أبناء أوادم! في أثناء تصوير الفيلم اندلعت مظاهرة عفوية مؤيدة لصدام حسين عرف طارق هاشم كيف يعالجها بذكاء، اذ صوّرها بحيادية، ناقلاً هتافات، وشعارات المتظاهرين من دون زيف أو تحريف، غير أن اللقطة الأخيرة في هذه المظاهرة هي التي لوي من خلالها آلية التعاطي مع (هذه المظاهرة التي اقتحمت عين الكاميرا، وداهمت المخرج نفسه) بأن صوّر احدي النساء التي أرادت أن تهتف بحياة الرئيس المخلوع قائلة كل العراق ينادي، صدام عز بلادي.. غير أن المخرج المرهف اقتنصها وهي تقول بعد أن لعثمها الخطأ يا صدام شيل ايديك. . ثم تنكفئ باكية. قد يتصور المتلقي بأن المخرج قد تعمّد تصوير المظاهرة أو التعاطي معها ليقول شيئاً، ولو كان كذلك لحذف أثناء المَنْتجة اللقطة الأخيرة من التظاهرة التي تفرقت لاحقاً جراء المواجهة مع جنود الاحتلال. أغلب العوائل التي التقاها المخرج كانت تبوح عبر أنساق سردية ما حل بالعراق، وما سيؤول اليه وضع البلد الجريح متوعدين بمقاومة المحتل ان لم تصدق الوعود التي قطعها علي نفسه أمام المحافل الدولية. ربما كان المثقفون أكثر قسوة وتوتراً في التعاطي مع العراقيين المغتربين الذين اضطرهم النظام السابق الي الهجرة القسرية، وحينما عادوا لكي يكحلوا أهداب عيونهم برؤية الوطن والأهل والأصدقاء والأمكنة الحميمة، كان البعض من هؤلاء المثقفين، يحيّدون دور المغترب العراقي، بل ويجابهونه بقسوة غير مسبوقة (أنتَ لا يحق لك الكلام عن العراق طالما أنك تركته في وقت الضيق والشدة) وكأن هؤلاء المغتربين أو المُقتلعين من جذورهم ليسوا ضحايا الدكتاتورية والارهاب، وأكثر أعداء النظام البائد استهدافاً من أولئك الذين فضلوا البقاء في الوطن لكنهم لاذوا بالصمت، وعلقوا آمالهم علي حبل الانتظار، والخلاص القادم حتي وان كان علي ظهر دبابة أمريكية! ربما يكون المشهد الختامي هو الأكثر تحدياً أو تفاؤلاً لأنه يعبّر عن دخيلة الفنان الذي كشف عن تمنياته وهمومه الذاتية، وتساءل في ختام الفيلم قائلاً: هل ستعود بغداد الي سابق عهدها؟ فيجيب نفسه أو ربما يطمْئن المتلقين: نعم، ستعود! ينطوي هذا الفيلم التسجيلي علي آلية البوح التي يسرد من خلالها قصصاً وحكايات ومصادفات كثيرة يمزج فيها العناصر الثقافية والسياسية والاجتماعية والنفسية والمثيولوجية مزاوجاً فيها بين الصورة الفنية المكثفة، وما تشتمل عليه حس درامي متصاعد يفضي الي تفجر الأحداث وتشظيها في ذاكرة المتلقي، واذا كان المُؤسس، بتعبير حاتم الصكر، يستــــلهم ويقترح، فان الرائد يجترح ويقـــرر. وقـــد كان طارق هاشم في هذا الفيلم تحديداً، مُجترحاً ومُقرراً لاتجاه جديد في القص والتصوير واسقاط المُشاهد في دائرة الذهول الفني.  

هامش:

سيعرض هذا الفيلم في مهرجان الفيلم العربي في روتردام، ومهرجان السينما العربي في باريس هذا الشهر

القدس العربي في 1 يونيو 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

المخرج طارق هاشم في فيلمه التسجيلي الطويل:

16 ساعة في بغداد .. تقنية الصدمة وآلية الذهول!

عدنان حسين أحمد