شعار الموقع (Our Logo)

 

 

الفيلم, في الأصل, اسباني, صدر في اسبانيا عن موضوع يتعلق ببعض البائسين المحرومين من أبنائها. والمخرج اسباني, كان في ذلك الحين في بداياته, لكنه لاحقاً سوف يصبح واحداً من أكبر السينمائيين الاسبان, ومع هذا فإن الفيلم ظل ممنوعاً من العرض في وطنه الأم طوال فترة حكم فرانكو. وهو إذا كان قد منع من العرض في فرنسا أيضاً خمس سنوات بعد تحقيقه, لأسباب تختلف عن أسباب الاسبانيين, فإنه عاد وعرض في فرنسا في العام 1937, أي مع اطلالة حكم "الجبهة الشعبية" اليسارية فيها. وهو إذ عرض هناك في ذلك الحين فإن عرضه صوحب بضجة كبيرة واهتمام واسع, خصوصاً أن هذا العرض ركز على الجانب السياسي من الأمر برمته, وقدم على أساس أنه جزء من نشاط سياسي واسع لـ"التضامن بين المعادين للفاشية, في شتى أنحاء العالم, المناهضين لحكم فرانكو وحلفائه". ونعرف أن فرانكو هو الجنرال الفاشي الذي تغلب على اليساريين والديموقراطيين في الحرب الأهلية الاسبانية, وحكم اسبانيا حكماً مطلقاً حتى أواسط سنوات السبعين.

الفيلم الذي نتحدث عنه هو "لاس هورديس". ومخرجه هو لويس بونويل. أما زمن تحقيق الفيلم فهو العام 1932, أي أنه ينتمي الى بدايات هذا المخرج الذي سيرافق تاريخ الفن السابع حتى العقود الأخيرة من القرن العشرين, وستتخذ أفلامه الكبيرة سمات تزداد غرابة وسوريالية مع الوقت, هو الذي كان في بعض أول أعماله, مثل "العصر الذهبي" و"كلب أندلسي" قد بدأ بدايات سوريالية في السينما. غير أن "لاس هورديس" ليس سوريالياً على الاطلاق, بل هو فيلم اجتماعي مناضل, يستبق في الحقيقة, تلك الأفـلام الواقعيــة الكبيــرة التي سينتجها الايطاليون الواقعيون الجدد, لاحقاً.

و"لاس هورديس" التي يتحدث عنها الفيلم منطقة جبلية شبه جرداء ووعرة تقع في اسبانيا الى الشمال من منطقة تعرف باسم "استرامادورا". وكان يقطن المنطقة في ذلك الحين شعب لا يتجاوز تعداده الثمانية آلاف نسمة, يتميز بقسوته, المستمدة من قسوة الطبيعة, ويعاني بأساً رهيباً قد يصعب العثور على ما يضاهيه إلا في سهوب آسيا... وكأن الطبيعة الجرداء لم تكتف هناك بإلقاء ظلها على حياة السكان, فصاحبتها الأوبئة الدائمة وسوء التغذية وتشوه المواليد الجدد, وموت الأطفال المبكر... وكل أنواع تلك المساوئ التي كان يمكن على أية حال القول ان الطبيعة لا يمكن أن تكون وحدها المسؤولة عنها, في بلاد أوروبية يعيش القرن العشرين بكل زخمه وتقدمه. وهذا كان, بالطبع, ما أراد لويس بونويل قوله من خلال هذا الفيلم الذي أتى ذا طابع انثروبولوجي يحمل قدراً كبيراً من الصدق والمرارة الناتجة من ذلك الصدق. ذلك أن "لاس هورديس" لم يأت كبيان ضد الطبيعة وظلمها بل أتى على شكل منشور "دعائي" عنيف ضد الدولة الحديثة, كما ضد الكنيسة الكاثوليكية, اللتين كانتا هما, في رأي المخرج, من يسمح بوجود كل ذلك البؤس في قلب الحضارة.

من هنا لم يكن من المصادفة أن يفتتح الفيلم مشاهده, على منظر في منتهى الهمجية, يمثل قطع رأس ديك من الديكة العاديين, في زاوية من قرية "البركة" الواقعة وسط تلك المنطقة. صحيح أن قطع رأس ديك لا يمكن اعتباره أمراً اجرامياً في حد ذاته... ونعرف أن ملايين الديكة تقطع رؤوسها في العالم المتمدن كل يوم. لكن الصورة أتت هنا من القوة التعبيرية ما حملها ألف رسالة ورسالة, خصوصاً ان السينمائي ينطلق بعدها, الى سبر أغوار الحياة هناك في شكل يجعل الديك مجرد رمز وكناية عما يحدث للسكان, معنوياً على الأقل, فالذي نكتشفه بعد مشهد الديك انما هو أرض تلك المنطقة: أرض جرداء مليئة بالحصى والصخور... ثم أكواخ مهترئة... فمجاري مياه تملؤها الحشرات ومع هذا تشرب منها الحيوانات الأليفة, كما يسبح فيها الأطفال ويلهون غير دارين بالأخطار المميتة التي تحيط بهم... ثم تتوالى الصور التي تبدو كل واحدة منها, في حد ذاتها, وكأنها لقطة من مشهد سوريالي: جثة حمار ميت يلتهمها النحل في احتفال وحشي مرعب, صورة رجل مطعون يهذي, صورة موكب من أناس يبدو الجنون مهيمناً عليهم, صورة طفل ميت حملت جثته فوق عربة تجتاز الغابات... صورة امرأة عجوز تدور في حواري القرية وأزقتها وهي تتمتم بأن كل شيء يزول إلا الموت الذي يحيط بنا ويبقى في رفقتنا الى الأبد.

فيلم "لاس هورديس" يتألف من عشرات المشاهد المشابهة... لكن المخرج عرف كيف ينظمها مع بعضها البعض بحيث ينتهي بها الأمر الى أن تتخذ دلالة متكاملة... ولكن كقصيدة للبؤس. ولعل هذا ما كان عليه مأخذ بعض النقاد المتقدمين على الفيلم في ذلك الحين, حيث أن لويس بونويل حقق - ومن دون أن يدري على الأرجح - فيلماً أقل ما يقال فيه أنه يستنبط الجمال والشاعرية من قلب الموت والحزن والألم والجوع. فهل كانت هذه هي - بحسب أولئك النقاد - الطريقة الفضلى لفضح ممارسات دولة تزعم الحداثة وتزعم الحضارة فيما تترك جزءاً من مناطقها عرضة لكل هذا؟ والأدهى من هذا أن الفيلم, حتى بمشاهده المرعبة, يمر من دون أي تعليق من المخرج: لقد أراد بونويل أن يجعل الصورة تنطق باسم الصورة, إذ كان يرى أن أي تدخل من جانبه, تعليقاً أو ما شابه, سوف يفقد جزءاً من الصورة دلالته وقوته. فهل كان محقاً في ذلك؟ ان بعض النقاد رد بالسلب على هذا السؤال, ولكن كان هناك نقاد آخرون ردوا بالايجاب. ومع هذا فإن السلطات الاسبانية, وحتى من قبل حكم فرانكو, رأت ان الفيلم قوي وعنيف - من دون تعليق أو به - وان من شأن عرضـه أن يؤلب الناس, في الداخل وفي الخارج, ضـدهـــا.

غير ان لويس بونويل نفسه لم يبال بذلك كله... بالنسبة اليه كان ينقل ما يشاهد. وهو لئن كان قد واكب المشاهد كلها بمقاطع من السيمفونية الرابعة ليوهان براهمز, فهو انما أراد من ذلك, أن تأتي روعة الموسيقى, مناقضة لقسوة الواقع وفاضحة له. والنتيجة أن موسيقى براهمز هذه أتت سوريالية الاستخدام هنا بدورها... أتت وكأنها من خارج الفيلم ومن خارج مكانه... بل انها أتت لتحرك تلك المشاعر المزدوجة - بحسب رأي الباحث كلودبيلي - بحيث أنها أثارت في علاقتها مع مشاهد الفيلم, لدى المتفرجين رعباً وإعجاباً في الوقت نفسه, وتأملاً هادئاً وغضباً صارخاً في آن معاً.

وبالنسبة الى بونويل كان هذا كله أقرب الى أن يكون تمريناً سينمائياً حقيقياً... إذ نعرف أنه سوف يستعيد شيئاً من أسلوبية هذا الفيلم, في بعض أعمال له لاحقة, ومنها مثلاً فيلم "لوس اولفيدادوس" الذي سوف يحققه العام 1950, خلال سنوات منفاه المكسيكية... حيث في الفيلمين معاً نجدنا أمام نتيجة واحدة, قد لا تكون على أية حال ذات طابع انثروبولوجي على الاطلاق: ليس ثمة من يقــين ســوى المـــوت.

والحال أن هذا اليقين الذي يُستنتج على ذلك النحو, سرعان ما نجده يبعدنا عن الواقع الاسباني الاجتماعي, ليصلنا بالموت كحقيقة مطلقة ووحيدة في فن لويس بونويل - كإرث من حضور الموت القوي في الفنون الاسبانية قاطبة -. ولويس بونويل, الذي كان "لاس هورديس" واحداً من أول أفلامه ومعاركه, عاش بين العام 1900 والعام 1983... وهو بدأ حياته في مدريد صحافياً وكاتباً ورساماً, قبل أن ينصرف الى السينما. وهو تعاون في فيلمه الأول "كلب أندلسي" (1929) مع الرسام الذي كان صديقه في ذلك االحين, سلفادور دالي... ما أعطى فنه سمة سوريالية لم تفارقه أبداً, ولا سيما خلال النصف الثاني من مسار سينمائي غني, حفل بأفلام حققت في اسبانيا ثم المكسيك ففرنسا... واسبانيا أخيراً بعد رحيل فرانكو. ومن هذه الأفلام "حسناء النهار" و"فيريديانا" و"تريستانا" و"يوميات خادمة" و"إل" و"شبح الحرية" و"سحر البورجوازية الخفي".

جريدة الحياة في 31 مايو 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"لاس هورديس" للويس بونويل

عالم ثالث في قلب أوروبا

إبراهيم العريس