في واحدة من أعمق الدراسات التي توقفت بالتفصيل عند العلاقة بين السينما التعبيرية الألمانية وظهور النازية في ألمانيا سنوات العشرين, يقول الباحث سيغفريد كراكور في بحثه المسمى: "من كاليغاري الى هتلر" ان السينمائيين الألمان انما عبروا من خلال شخصية الغيلان, ولا سيما دراكولا ونوسفراتو وما شابههما عن ذلك الرعب من مجيء هتلر, كوحش نازي سيمتص دم الشعوب ويدمر أوروبا. والغريب في الأمر ان كراكور, على رغم صواب مقولته, لا يأتي في كتابه كله على ذكر امر كان يتعين عليه ان يلفت انتباهه, وهو ان الكاتب الذي أحيا اسطورة دراكولا, عند نهاية القرن التاسع عشر, وهو الايرلندي الأصل برام ستوكر, كان حين كتب ونشر روايته الأولى والأشهر في هذا المجال "دراكولا رجل الليل" عضواً في تنظيم ايرلندي سري يسمى "الفجر الذهب", ويحمل من المبادئ ما مكن من القول لاحقاً ان الفكر النازي نفسه قد غرف منه ومن العديد من منطلقاته على أساس مبادئه. والحال اننا حتى يومنا هذا - وقد يكون في الأمر عذر لكراكور -, لا نعرف الكثير عن نشاطات تلك المنظمة حتى ولو كانت ثمة شبهات تفيد بأن فكر المنظمة, الوثني والسحري, كان وراء العديد من الكتابات الغرائبية والتنبئية التي كثر صدورها في ذلك الحين وبالتالي وراء ظهور النازية, أي الفكر القومي - الاشتراكي لاحقاً. والحقيقة ان هذه الشبهات لن يفوتها ان تطرح العديد من التساؤلات حول تلك "الصدفة" التي جعلت برام ستوكر يصدر روايته في وقت كان ينشط فيه بقوة داخل اطار تلك المنظمة. < ومهما يكن من الامر, لا بد من الاشارة هنا الى ان كثراً من القراء قد ظلوا يجهلون اسم برام ستوكر لعقود طويلة من الزمن, حيث ان شخصيته المبتكرة (دراكولا) سرعان ما استقلت بنفسها في القرن العشرين, لتنسي "المعجبين" بشكرها "المناضل" الايرلندي, خصوصاً أن "دراكولا" نفسه عاد وتسمى بالعديد من الأسماء, في الأفلام السينمائية, كما في الروايات وفي ضروب الفن الأخرى. ولقد احتاج الأمر الى فيلم عن "دراكولا" حققه المخرج الأميركي فرانسيس فورد كوبولا أواخر القرن العشرين وجعل عنوانه "دراكولا برام ستوكر" حتى يعود الى الأذهان اسم ستوكر هذا ويربط اسم دراكولا باسمه. < المهم ان برام ستوكر عاش في انكلترا عند نهايات القرن التاسع عشر, في زمن كان فيه ظل الملكة فيكتوريا يخيم على البلاد كلها, خالقاً العديد من الخيالات والأفكار المرعبة. ولقد أتيح لستوكر الشاب في ذلك الحين ان يلقي بالعديد من الشخصيات الغربية, التي سيقول في آخر أيامه ان كلاً منها كادت تكون "دراكولا" حقيقياً. ومن هنا, انطلاقاً من تلك اللقاءات تمكن الكاتب من صياغة الشخصية. غير ان دراكولا لم يأت من العدم, ولا من خيال ستوكر, ولا من لقاءاته, بل أتى في أبعاده الحقيقية من عمق التاريخ. أي ان ستوكر غاص في تاريخ أوروبا الوسطى خلال القرون السابقة ليعثر على شخصية تاريخية حقيقية تمكن من استخدامها رمزاً للعديد من المخاوف التي كانت تعصر الروح الأوروبية في ذلك الوقت. ولسوف يقول ستوكر ايضاً انه ما كان في إمكانه ان يعثر على تلك الشخصية إلا في الخرافات والأساطير الشعبية التي كانت, في جوهرها, تعبر عن رعب عام. ومن هنا رمز مصّ الدماء - ككناية عن مرض الطاعون الذي كانت تنقله الجرذان وشكل رعباً لأوروبا كلها منذ العصور الوسطى, ورمز الثوم والصليب كوقاية وترياق - ويجب ان نذكر هنا ان الثوم كان منذ العصور الوسطى مستخدماً لابعاد الجرذان والجراثيم, ولا يزال مفعوله هذا معروفاً حتى الآن - اما الصليب كترياق فأمر لا يحتاج الى تفسير, طالما ان الكنيسة كانت تأتي في تلك العصور لتقول للناس ان كل وباء وكارثة, يحلان بهم انما هما عقاب من الله, سببه ابتعاد الانسان عن الكنيسة والايمان الديني. < اذاً على خلفية هذا كله, "أعاد" برام ستوكر "اكتشاف" شخصية وجدت حقاً في القرن الخامس عشر في منطقة فالاكيا شمالي البلقان... واسم الشخصية في الحقيقة هو فلاد دراكولا, وكان اميراً عرف كيف يدافع عن منطقة ترانسلفانيا ضد المولداف المتوحشين كما ضد الاتراك المحتلين. وفلاد دراكولا هذا, في الحرب التي خاضها ضد اعدائه لم يكن لطيفاً ولا هادئاً بل كانت ضروب العقاب التي كان يمارسها على الأسرى الذين يقعون في يديه, من القسوة والعنف بحيث جاء لقب "دراكولا" اي الشيطان مناسباً له. وانطلاقاً من هنا, اذا كان فلاد قد اعتبر اول الأمر بطل تحرير وطني, فإنه لاحقاً عاد واعتبر رمزاً للشر والعنف, ثم غولاً حقيقياً... وراحت الأساطير الشعبية تتثاقل "مآثره" وإن كانت تغير اسمه تبعاً للهجات اصحابها وأسماء الشيطان لديهم, فهو تارة دراكولا وتارة نوسفراتو وطوراً موريو, ثم ستريفيو فبيكوليتش, لكنه هو نفسه دائماً, ذلك الوحش الضاري الذي لا يتورع عن مص دماء ضحاياه لكي يعيش في الليل اذ يخرج من قبره... ولا يمكن قهره الا بتعريضه الى النور - لأنه أمير الظلام - وبدق وتد حاد الطرف في صدره. < اذاً, هذه الصورة هي التي استعارها برام ستوكر من الأساطير الشعبية التي حيكت من حول الأمير فلاد... لكنه, اذ كتب روايته عملاً غرائبياً مسلياً, ومفعماً بالرموز في الوقت نفسه, آثر ان يحدث العديد من التجديدات في الشخصية. وهكذا ولدت على يديه امكانية تحول الغول الى خفاش, مضيفاً الى هذا, الثوم والصليب اللذين استعارهما من أساليب مكافحة الشعوب الأوروبية الوسطى لداء الطاعون... < واذ اتسمت الأسطورة بكل هذه التجديدات, أصبحت على يدي برام ستوكر, وعلى رغم كل ما يمكن لنا ان تقوله من حول علاقتها المسبقة بالفكر النازي, اصبحت واحدة من أروع الكتب المنتمية الى الأدب الغرائبي. ولقد اصدر برام ستوكر روايته هذه في العام 1897, لتعرف من فورها نجاحاً شعبياً كبيراً, وهو أمر دفع المؤلف الى ان يكرس نفسه منذ ذاك الحين وصاعداً للأدب, ضارباً الصفح عن اية نشاطات مهنية أخرى له. ومع هذا علينا ان ندرك هنا ان هذا العمل سيعتبر اكبر ما كتبه وأجمل ما كتبه هذا الكاتب الذي لن يتمكن ابداً في اي من أعماله التالية من استعادة جمال وصفاء عمله الأول, حتى وإن كان قد عرف له عملان آخران حقق كل منهما نجاحاً ما على طريقته, الاول هو "جوهرة النجوم السبع" وتتحدث عن انبعاث وتقمص ملكة فرعونية مصرية قديمة, والثاني هو "حجر الدودة البيضاء", ويتحدث عن تمكن دودة عملاقة من البقاء على قيد الوجود في قبو قصر مسكون. < على رغم نجاح أعماله وطبع "دراكولا" مرات عدة خلال حياته, سيعيش برام ستوكر (المولود في دابلن العام 1847) سنوات صعبة عند نهاية حياته هو الذي توفي في العام 1912, ذلك ان الأمراض نهشته. وهو حين مات مات شبه منسي على رغم ان السينما كانت قد بدأت تستولي على روايته الكبرى وتحولها أفلاماً ناجحة... ومن هنا لم يعد الى الاذهان الا لاحقاً في سنوات الأربعين حيث استشرت النازية وساد التساؤل حول جذورها الفكرية لتكون من بينها افكار جمعية "الفجر الذهب" التي كان ستوكر ناشطاً فيها حين كتابة دراكولا. وبالنسبة الى ستوكر كان لافتاً على اية حال ان الصراع لديه اخذ دائماً طابعاً ميتافيزيقياً بين النور والظلام والخير والشر, وهو طابع لا يفوتنا ابداً ان نلاحظ ان النازية اضفته دائماً على الصراعات التي خاضتها. جريدة الحياة في 27 مايو 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
"دراكولا" برام ستوكر: من الرعب الى الفكر النازي إبراهيم العريس |
|