شعار الموقع (Our Logo)

 

 

قبل 24 عاماً فجر مخرج أمريكي قنبلة سينمائية كشفت عن أسرار خطيرة للمخابرات الأمريكية.. وحصل علي جائزة ذهبية من مهرجان شيوعي.

كنت رئيساً لوفد مصر في مهرجان لايبزج بألمانيا الشيوعية عندما تزاحم الناس لرؤية فيلم فرانكوفيتش.. ومشاهدة رجال الـ CIA لأول مرة علي الشاشة.

لم تحجب مآسي سجن «أبوغريب» تلاحق الأخبار المدوية حول موقف المخرج الأمريكي مايكل مور وفيلمه «فهرنهيت 11/9»، المناهض لرئاسته الأمريكية، بسبب قوة تفرد الموقف مع اشتباكه بسخونة كل الأحداث الراهنة في آن واحد، ومن ثم فإننا إذا ما كشفنا أو أضفنا من المعلومات ما يحقق قراءة أوسع لهذا الموقف، نكون قد لامسنا ارتياح الوضوح، إذ ربما تسعفنا الحقائق في فهم الماهية الراهنة للفنان السينمائي، وفي سبر خفاياها الفاعلة إزاء متاهة هذا الزمن التي أصبحت تربك، إن لم تستغلق كثيراً علي التحليلات الصائبة، حتي غدت حيرتنا حادة في تراوحها بين معنيين مختلفين لزمنين عشناهما متتاليين.

لذلك فإنني عندما أكتب عن مايكل مور، إنما أكتب عن ربع قرن من تاريخ العالم، تبدأ سنواته مع إرهاصات النهاية لزمن الحرب الباردة، وتصل إلي زمن العولمة الذي نعيش صراعاته المعقدة.

24 سنة بالتحديد، هي التي تفصل بين الواقعتين السينمائيتين المتشابهتين في قوة وتفرد سخونتهما السياسية، حيث تأتيان في سياق ما أسماه صاحب الواقعة الأسبق المخرج الأمريكي آلان فرانكوفيتش في عام 1980 «عملية نمو الضمير الأمريكي»!! وفق ما صدرت به مقال لي عن هذه الواقعة الكبري لفوزه كأمريكي بالجائزة الذهبية لأكبر مهرجان عالمي للسينما التسجيلية في دولة شيوعية، عندما قال عن فيلمه المعنون «بتكليف من الشركة»:

«لا يمكن لفيلم واحد أن يغير من الرؤي السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن علي المرء أن يعتبره عنصراً في عملية نمو الضمير الأمريكي.. لقد استغرق إنتاج الفيلم حوالي خمس سنوات، وخلال هذه المدة كان لدينا ما بين أربعين إلي ستين من رجال وكالة المخابرات المركزية الأمريكية يواجهون كاميراتنا التي صورت مقابلات فيلمية معهم يبلغ طولها الإجمالي حوالي مائة وخمسين ساعة عرض سينمائي».

لكن ما لم يقله أو يدركه فرانكوفيتش، إنه كان علينا أن ننتظر مرور ربع قرن علي حديثه وعلي قنبلته السينمائية، حتي تبرز لنا الواقعة التالية في مسار نمو هذا الضمير علي يدي أمريكي آخر هو مايكل مور.. ربع قرن!

ربع قرن مر إذن علي ما وقع شبيهاً بما يحدث الآن خلال الموقف الشهير لمايكل مور وفيلمه في مهرجان كان.. ذلك عندما بدا فيلم ماركوفيتش في مهرجان لايبزج السينمائي الدولي عام 1980 «الدورة 23» وكأنه السوبرمان الأمريكي الذي اخترق المهرجان خاطفاً كل الأضواء من شاشة عرض سينما الكابيتول التي قدمت خلال دورة ذلك العام 218 فيلماً من 47 دولة، أي من جميع جنسيات العالم، شرقه وغربه «حضر كاتب السطور» دورة هذا المهرجان رئيساً لوفد مصر، وباعتباره مخرج فيلم «علي أرض سيناء» الذي اختير ليمثل مصر في المهرجان مع فيلم «حديث الحجر» لخيري بشارة.. وأمام كل هذا الحشد العالمي، كانت أمريكا هي نجم مهرجان عام 1980 من خلال فيلمها «بتكليف من الشركة» الذي أخرجه الأمريكي آلان فرانكوفيتش، ومن إنتاج الشركة الأمريكية «أفلام أيزلانيجرا» بكاليفورنيا، بل وتصدرت مناقشة هذا الفيلم كل ندوات وسهرات الحوار بين مختلف الوفود، إلي الدرجة التي فرض بها الفيلم نفسه علي الجلسات الخاصة، حتي مع من يتم الالتقاء بهم من أبناء الشعب الألماني ذاته. كما ظلت إشارات الفيلم متأججة حتي اللحظات الأخيرة من انتظار نتائج مسابقة المهرجان. بل وبعد حصول الفيلم علي الجائزة الذهبية للجنة التحكيم الدولية، عندما كان لنفس الفيلم نصيب الأسد في العرض الأخير الذي تبع توزيع الجوائز، مما جدد إثارة المناقشة حوله، وعبر ما تناقلته وكالات الأنباء، وما نشرته مختلف صحف العالم.

لكن واقعة مايكل مور الأحدث، تميزت بأن جاءت ملتحمة ـ في مباشرة ـ بسخونة ولهيب الأحداث الراهنة والمؤسية، كما أن بداية الصرخة الشخصية من مايكل مور علي مسرح جوائز الأوسكار التي يتابعها العالم كله في زمن الفضائيات، أحدثت دوياً هائلاً لقوله بأعلي صوت ـ وهو يتسلم جائزته: «عار عليك يا سيد بوش»، قاصداً نية بوش ـ حينذاك ـ في شن الحرب علي العراق، ومن ثم فقد ذاعت شهرة موقف مور لأنه فجر موقفه مرتين: الأولي في صرخته الحادة والمفاجئة علي مسرح الأوسكار، والثانية عندما فاجأ أمريكا والعالم بفيلمه «فهرنهيت 11/9» الذي يقدم ـ وفقاً للأنباء ـ سيرة مليئة بالانتقادات في حياة بوش وعائلته، التي يبرز الفيلم ارتباطاتها المشينة بأسامة بن لادن، كما يشكك في انتخابات بوش، ومن ثم فمازال الفيلم ممنوعاً من تسويقه للعرض في أمريكا، مما أثار الالتفاف والأضواء حوله في مهرجان كان هذا العام. وهذا هو ما نتناوله ضمن معطيات موضوعنا هنا، إذ لست إزاء نقد أو تحليل لفيلم مايكل مور ـ حيث لم أشاهده بعد ـ ولكني أكتب عن واقعته في كل من السياقين السياسي والسينمائي الأمريكيين، وفقاً لما تناقلته الأنباء ومحتوي ما وصل صيته إلينا من وقائع وأضواء، لأن لنا تساؤلاً محورياً وراء بحثنا في الوقائع السياسية.

إننا إزاء فرصة حقيقية للاستجلاء المفاهيمي حول ما هية الفنان السينمائي في هذا الزمن الجديد، الذي أصبح المعلن فيه نظرياً غير معبر عن حقيقة الصراع علي الأرض، وحيث تفلت من الفنان القدرة علي التقاط الرؤية الواضحة في ظل ضبابية النظريات والتحليلات وتناقضها مع واقع الصراعات الفعلية. وهي الفرصة التي توفرها لنا الواقعتان الفريدتان بما يفصل بينهما زمنياً، لننظر إلي كل منهما في ضوء زمنها، سعياً إلي قراءة واضحة عن وضعية الفنان في هذا الزمن الراهن، بعد أن كان لدينا وضوح عنها فيما مضي من زمن الصراع الواضح.

وأذكر أني عندما ذهبت لمشاهدة فيلم فرانكوفيتش عام 1980 كان الزحام مهولاً، ولكن كان من الطبيعي ألا يثير ذلك اندهاشاً، حيث سبقته سمعة الفيلم.. إلا أن الافتقاد للدهشة سرعان ما تبدد، إذ ما إن أطفئت أنوار القاعة الضخمة ودارت آلات العرض، حتي بدأت المفاجآت وساد الذهول.. لقد أصبحت «الشاشة ـ الكاميرا» هي «نحن ـ المتفرج»، نجلس مع رجال المخابرات الأمريكية وجهاً لوجه، يتحدثون إلينا باعتبارنا الكاميرا، وقد بدا طوال الوقت أنهم وحدهم المتحدثون ونحن الصامتون، ولكن حواراً أعنف كان يعتمل في عمق كل منا، إذ كان الصمت مجرد غلاف للصخب المكنون في هذا العمق، حيث التشوق حاد والذهول أكثر حدة، كنا نتعجب لتبسطهم فيما يعترفون حول أحداث تاريخية خطيرة، فالعالم وتاريخه أمامهم خشبة مسرح للعرائس وهم محركوها.

يقول جاكسون لكاميرا الفيلم: «إننا نعمل علي بناء مجموعة معينة في زمن الحرب الساخنة، لتعمل لحسابنا أثناء الحرب الباردة.. إننا نتعامل مع أحزاب يتم إنشاؤها ومع الكثير من أنظمة المخابرات في العالم، وكذلك وسائل الصحافة المفتوحة، بل ولابد من إنشاء نقابات عمالية في مختلف البلدان لتعمل لحسابنا».. كلمات اعتراف صريح ومفاجئ، لأنها تكشف عن حقائق جديدة كانت خافية، أو هي كانت محل تخمينات واتهامات قائمة علي مجرد الاجتهادات، دون أن ترقي من قبل إلي مستوي الوثيقة.

مذهل هذا اللقاء في البساطة التي سيطرت علي إلقاء أحاديثه، لأنها البساطة المقرونة بأخطر أسرار التاريخ الإنساني لعالم القرن العشرين، فهي لم تكن أسراراً عن حياة نجمة من هوليوود، ولا نجم سياسي كبير واحد، أو حتي الاكتفاء بأسرار حزب من الأحزاب السياسية، أو علي أحسن الافتراضات أسرار دولة كبيرة بعينها، وإنما هي أسرار تمس مصير البشرية وحياتها وأمنها وأحلامها ودماءها، وكل ما تضمنته من حروب، ومظاهرات، وانقلابات، ومفاوضات، ونشأة، وانهيار نقابات، وقوانين، ومعاهدات، وعلاقات شعوب وأمم وحكومات، وأسلحة دمار.. إلخ، وهو ما تعرض أحداثه الشهيرة علينا الآن، عبر أرشيف الوثائق الفيلمية المصورة، لنري الآن وقائعها بالمنظار الجديد لهذه الاعترافات التي تنهال علينا مفاجآتها بلا هوادة.

لكننا، وبينما رحنا نلهث مع تتابع الفيلم وقنابل أسراره، كنا لا نفتأ نتساءل في كل لحظـة: هل تفضح هذه القوة الأمريكية نفسها مجاناً أو اعتباطاً، فتلقي هكذا أسرارها لتنشر خلال صالة عرض لأكبر مهرجان سينمائي بين الدول الشيوعية، عندما كانت الحرب الباردة في أوجها بين الكتلتين، في الزمن الذي كانت توجد فيه وتعلو أصوات حكومات شيوعية فيما كان يسمي بالكتلة الشرقية، وحيث يقام مهرجان لايبزج هذا علي أرض واحدة منها هي التي كانت تسمي من قبل «ألمانيا الشرقية»؟

وجدير بالذكر، أن المفارقة والتداعيات كانت تداعب الذهن في هذه اللحظات من أواخر نوفمبر 1980، فالمبني الذي تعتمل به سخونة عرض هذا الفيلم في مهرجان لايبزج بألمانيا الشرقية ـ الشيوعية حينذاك، هي دار سينما الكابيتول التي تحتضن عروض المهرجان، في نفس الوقت الذي تبدأ فيه لحظات تجدد وانتعاش بمبني آخر يحمل نفس الاسم، ولكن في ضفة المعسكر الآخر، حيث يستعد مبني «الكابيتول» في العاصمة الأمريكية، والذي يضم الكونجرس، لاستقبال رئيس أمريكي جديد لأربع سنوات مقبلة، مهللاً له المبني بزينة الرايات والأعلام، ألا وهو الرئيس الأمريكي رونالد ريجان فيما بعد، والذي زخرت حياته الماضية منذ كان ممثلاً في هوليوود ـ مثلما زخرت سنوات رئاسته ـ بالكثير مما أثير حول المخابرات الأمريكية، أي ذات الموضوع الساخن الذي يتأجج هنا علي شاشة «الكابيتول» الشيوعية، وحيث تجد الاعترافات والأحاديث التي تأتي بالفيلم علي ألسنة مسئولي وكالة المخابرات الأمريكية وقد تركزت كلها حول هدف واحد لتاريخ الوكالة، هو مكافحة النشاط الشيوعي في العالم، بل وفي قلب أمريكا ذاتها من قبيل ما يقول به سميث للكاميرا: «لقد سمعنا أن هناك مؤامرة شيوعية في أمريكا، حيث قيل إن وزارة الخارجية الأمريكية أصبحت مليئة بالعملاء الشيوعيين، فهل من المعقول أن نترك هذا؟».

إنهم واعون إذن ولن يتركوا شيئاً من هذا القبيل في الداخل، أو في الخارج.. ومن ثم فإن مجرد الموافقة علي جلوس حوالي ستين من الأمريكيين حملة هذه الأسرار الدفينة أمام الكاميرا، واحداً تلو الآخر، يتحدثون وهم في كامل وعيهم، لابد وأن يكون بناء علي موافقة واعية أيضاً بهدفها، ومن ثم فلابد أن يكون هذا العرض السينمائي في ذاته واقعة سياسية لها هي أيضاً أسرارها وملابساتها ضمن مجريات هذه الحرب الباردة، وهو ما تلقي عليه ذات الاعترافات الواردة بالفيلم ضوءاً من اليقين عندما نلتقي بالاعتراف الذي طالما نوه لذات فحواه كثير من النقاد فيما يتعلق بالسينما الأمريكية، ولكنه في هذه المرة يأتي علي لسان مسئولي الوكالة الأمريكية ذاتها، عندما يعلنون صراحة: «إننا نستخدم السينما الأمريكية في الخارج»، وبما يحدده أحدهم في قوله: «من خبرتي علي مدي أربعين سنة، فإن للفيلم الأمريكي عاملاً كبيراً ومهماً في التحضير النفسي لأعمالنا المختلفة في هذه البلاد».

وفي ضوء ما نسمعه بهذا النص حول استهداف «التحضير النفسي» ـ ولابد أن المسئولين الشيوعيين أنفسهم قد سمعوه مثلنا، علي الأقل عند المشاهدة في لجنة الاختيار والتصفية لعروض المهرجان ـ كان لنا أن نتساءل حول الاحتفاء الشيوعي بوصول هذا الفيلم الأمريكي الساخن، لكن تساؤلنا ينصب علي كل من الجبهتين:

  • علي الجبهة الشيوعية: وحيث التساؤل منشؤه أن الفيلم قد تبناه الشيوعيون في لايبزج تبنياً صارخاً، رغم أن الطرف الشيوعي لابد وأنه قد فهم ولو للحظة اللعبة وما تحمله من عدم البراءة التي لا تخفي هدف الحرب النفسية فيها، من حيث إبراز أصابع المخابرات الأمريكية باعتبارها القوة الأولي والأخيرة المحركة لأحداث التاريخ المعاصر برمته، مما قد يبعث علي اليأس إزاء هذه القوة المتغلغلة حتي النخاع، وحيث تبث القناعة في الرأي العام بأنه لا فكاك من أذرعتها بحال من الأحوال.
  • علي الجبهة الأمريكية: وحيث ينشأ تساؤلنا من كون أن ثمة فيلماً بهذه الخطورة، ينظر إليه باعتباره فاضحاً لنشاط وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وتاريخها، ومع ذلك فهو إنتاج أمريكي، بل والأبعد من ذلك أن الذي قام بعرضه أولاً هو التليفزيون الأمريكي نفسه، طبقاً لما صرح به مخرج الفيلم من أنه قد تم عرضه مرتين قبل وصوله إلي مهرجان لايبزج، وإن كنا نحن لا نعرف كم مرة قد عرض بأمريكا نفسها فيما بعد.

ومع كل التداعيات التي يثيرها شعار «الحرية الأمريكية»، لابد أننا راغبون هنا في استقصاء هذه التجربة المثيرة، طالما أنها تمس التعبير الجريء فيما أسماه مخرج الفيلم نفسه بعملية نمو الضمير الأمريكي، فتساؤل الاستقصاء هنا إنما ينصب علي تجربة المخرج نفسه «إنتاجاً» و«عرضاً» مع كل ملابسات الواقع الأمريكي.

التسلسل التاريخي مع تطور الوكالة:

مع لهاثنا وطوال تدرج المفاجآت في مسار الفيلم، كان يتم التضفير دائماً ما بين التسلسل المعروف عن تاريخ وقائع وأحداث العالم، وبين تطور العمل في وكالة المخابرات الأمريكية ذاتها، بدءاً من إنشائها ومروراً بالأساليب المختلفة التي يتم تطويرها لتحقيق أهدافها.

وعبر هذه الفكرة البنائية، نري الفيلم ينساب تسلسله التاريخي، وقد بدأ باستسلام اليابان في الحرب: «لقد ترك عدونا السلاح».. والحوار بالطبع من وجهة النظر الأمريكية، بينما نعرف أنه قبل ذلك ـ وكنتيجة للهجوم الياباني المفاجئ الذي أدي إلي كارثة الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر «جزر هاواي» ـ كان قد طلب الرئيس الأمريكي روزفلت من الجنرال دونافان أن ينظم أول وكالة مخابرات تجمع المعلومات في جهاز مركزي ليقوم بتصنيفها وفرزها واستخلاص حقائق ومعلومات جديدة من خلال هذه العملية، بهدف عرضها علي الحكومة الأمريكية للتحرك والعمل من خلالها، وهو الأمر الذي دعا الجنرال دونافان إلي الاستعانة في هذا الصدد بأبرز العلماء في مختلف التخصصات، كالزراعة والعلوم الطبيعية والطب وجميع فروع العلوم والفنون، بالإضافة إلي العسكريين.

أما خطوات التطوير فقد بدأت تتلاحق، وسمعنا أهمها عندما ظهر وليم كولبي «أحد الرؤساء السابقين لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية في الفترة من عام 1973 إلي 1976، والذي مر قبل ذلك بمختلف المناصب في الوكالة خلال ربع قرن» متحدثاً إلي الكاميرا ـ نحن، ناطقاً باعترافاته الهادئة الرزينة والمتبسطة في أدائها، ولكنها المتلاحقة المعلومات عن وقائع تاريخية رهيبة، إذ مع التبسط والرزانة تصدم أذن «النحن» كلمات عديدة من قبيل: «في زمن الحروب نقوم بالتخريب.. اشتركت في ذلك بنفسي في نهاية الحرب العالمية.. وطورنا الوكالة».. إلخ، بينما تتقدم لقطات الأرشيف السينمائي لتؤدي دورها عبر تتابع مونتاجي حول الوقائع التاريخية، دون أن تتوقف أصوات الحكي بالأسرار المصاحبة للقطات الوثائقية، وحيث يبدو واضحاً اعتماد المعالجة السينمائية ـ التي سنتحدث عنها لاحقاً ـ علي عنصري: الريبورتاج «الحديث المباشر للكاميرا» من ناحية، والأرشيف السينمائي الوثائقي من ناحية أخري.

أما الريبورتاج وحده فقد كان لب موضوعه هو الاعترافات المتلاحقة من مسئولي وكالة المخابرات الأمريكية ذاتهم، وبالحديث المباشر للكاميرا عن مولد ونشأة هذه الوكالة، وكذلك أسباب ودواعي إنشائها، ثم بعد ذلك تاريخ نموها وتطورها، وفقاً لتتابع وتلاحق الأحداث العالمية في شتي الأرض، وما كان منها ساخناً علي وجه الخصوص، هذا دون أن يكتفي الفيلم بالوقوف عند مسئول واحد، بل يبدو تلاحق وتتابع ظهور المسئولين واحداً تلو الآخر في أحاديثهم المواجهة للكاميرا «الجمهور» وكأنه التتابع التاريخي بعينه، حيث يكمل كل منهم الحلقة التالية لسابقه.

خصوصية الأسلوب الفني وميكانيزم التلقي:

إن للوثيقة هنا «مركبا فنيا خاصا»، فتوثيقية هذا الفيلم عبارة عن عملية «بحث فني» تعيد تركيب المعطيات: معطيات هذا الاعتراف المنطوق، ومعطيات الأرشيف السينمائي التقليدي المكون من الشرائط المصورة لأحداث القرن العشرين، وهي التي كانت ومازالت متوافرة لكل من يشاء استخدامها، إلا أن ما يجب التأكيد عليه هنا، أن المعلومات المتداولة من قبل والمتعارف عليها عن كل واقعة بعينها، هي التي كانت تحكم أي مستخدم لهذه المواد الأرشيفية، وما أكثر ما تم استخدامه منها سينمائياً وتليفزيونياً من قبل، بل وعبر ذات الطريقة التي عولج بها الموضوع هنا سينمائياً خلال ساعتين من عرض الفيلم، لكن الفيصل بين الحالتين إنما يكمن في الخصوصية التي تبرز عبر كل من الأسلوب وميكانيزم التلقي له.

لقد كنا عندما تأتينا الحقيقة ـ الاعتراف المنطوق علي لسان أحد مسئولي وكالة المخابرات الأمريكية نظل نحن ـ الكاميرا، أي نحن المتفرجين، لاهثين وراء الحقيقة ـ الواقع، فمثلما أن للاعتراف قوته الصدمية، فإن للتجسيد الحي أيضاً حسمه القاطع من خلال صورة الواقع الحي بحركته علي الشاشة، ونحن عندما يصدمنا الاعتراف المنطوق، نظل في حاجة إلي الحسم الذي يشبع «استمتاعنا» بالصدمة من خلال تأكيدها، الذي هو توثيقها بالتعيين، وهذا هو عين أسلوب الفيلم، أي أسلوب التضفير فيما بين قوة الاعتراف، وبين حسم التوثيق بالصورة الحية، فهو الذي يقطع في الفيلم بقوة اعتراف تومبرين مثلاً للكاميرا عندما يقول: «في سنة 1947 عندما كان هناك تهديد بسقوط الحكم في فرنسا عن طريق الأحزاب الشيوعية، قمنا بتكوين نقابة عمالية جديدة لتقف ضد هذه الأحزاب، وتمتص جماهيريتها، لتكون تابعة لتوجيهاتنا نحن».. فما في هذه الكلمات هو فقط صدمة الاعتراف حول مجريات التدخل الخفي، أما القوة التي يمنحها الفيلم للاعتراف فهي منحه الحقيقة ـ الواقع، عبر تتابع لقطات الأرشيف السينمائي المعني بما يشير إليه الاعتراف، وهي في ذاتها لقطات لا تعدو ـ من ناحية أخري ـ كونها تاريخاً مصوراً محفوظاً: لقطات لمظاهرات.. واجتماعات.. ولقاءات.. وانفجارات.. إلخ، ولكنها تأخذ الآن معني جديداً وتأثيراً جديداً في تركيبها السينمائي، في ضوء الاعترافات الجديدة.

لكن أول ما يجب التسليم به أن التأثير الخاص لهذا الفيلم، إنما قد تحقق كنتاج لإبداع «المفارقة بالمونتاج»، فما من حقيقة أو سر يجري الاعتراف به للكاميرا من أحد مسئولي المخابرات المركزية إلا وسرعان ما ينقلنا المونتاج بالقطع في هذه اللحظة المناسبة «اللحظة التي يتم اختيارها بقصدية محددة»، لعرض لقطات الأرشيف السينمائي المصور للواقعة أو الوقائع التاريخية التي يتحدث عنها الاعتراف، فإذا ما تذكرنا في لحظة الفرجة ـ وهو ما كان يحدث ـ أن نفس هذه اللقطات قد سبق عرضها مراراً وتكراراً، سواء في أفلام وثائقية، أو جرائد فيلمية في حينها، أو حتي خلال العديد من الأفلام الروائية التي تتعرض تاريخياً لمثل هذه الوقائع.. نقول إننا ما ان نستحضر مثل هذه الحقيقة البسيطة، حتي نقع في المفارقة المذهلة بين ما نعلمه وما صرنا الآن نعلمه، وما هذا إلا دور خاص بالصياغة السينمائية في هذا الفيلم، انظر مثلاً عندما يسترسل صوت المتحدث الذي يلقي باعترافه، مستمراً ـ هذا الصوت ـ علي لقطات الواقعة التاريخية المعروضة من الأرشيف الوثائقي السينمائي، إن هذا الصوت في هذه المرة من العرض إنما يأتي وقد أضفي ضوء الحقيقة الجديدة علي نفس لقطات الوقائع المعروفة سلفاً في ظل مفاهيم طال اختزانها، وطال اجترارها، وهكذا يتلقي عقل المشاهد هذا الضوء الجديد باعتباره الضوء الحقيقي، وكأن ما سبق اختزانه لم يكن أضواءً ولكنه كان إظلاماً.

خصوصية الرؤية في قصدية المونتاج:

وبالرغم من البنية التأريخية، فإن تتابع الفيلم لا يحكمه مجرد مبدأ السرد التاريخي، وإنما رؤية الفنان المخرج صانع الفيلم، والذي تبدو قصديته الواضحة في تحديد لحظة «القطع» من اعتراف إلي التالي، ثم لحظة القطع للعودة إلي اعترافات الأول.. وهكذا، ربما بغرض إتاحة الفرصة للمقارنة المقصودة، إذ قد يجيء قطع في لحظة بعينها لكشف تناقض معين، أو لكشف ما يمكن اعتباره «كذبة» مثلاً، أو لإلقاء الضوء الحقيقي علي أسرار أحد الأحداث العالمية الشهيرة، بل والأبعد من ذلك هو قصدية الإيحاء الذي يساوي تصريحاً بما لا تنطق به الاعترافات المباشرة، من خلال إعادة تركيب الاعترافات في علاقة جديدة باللقطات ليوحي المركب الفني بما لم يتم التصريح به. فهذا هو كولبي مثلاً تتم العودة إليه متحدثاً للكاميرا ـ نحن، بأن الوكالة قد تم تكوينها حتي نجمع «والحديث لكولبي» الأخبار السرية، وحتي نتعرف علي أشخاص ذوي أهمية، وكل ذلك بهدف واحد هو المحافظة علي الأنظمة التي نريد لها البقاء.. كما تعمل الوكالة علي إفناء أي جماعة أو مجموعة تخدش أو تهدد مثل هذه الأنظمة ـ وهنا يتم الانتقال بالأرشيف الوثائقي السينمائي الحي إلي إيطاليا والبابا ينادي الشعب بعدم انتخاب الشيوعيين، وهي الانتقالة التي لا يمكن إنكار خطورة مغزاها الإيحائي، الذي يساوي تصريحاً غير معلن، ولكنه فقط ناتج عن هذا الربط الذي يلعب دوره سحر المونتاج السينمائي وفقاً لقصدية المخرج وحده.

كذلك وعندما ينقلنا هذا المونتاج إلي وثائق الأرشيف المصورة للرئيس الأمريكي ترومان معلناً: «سياستنا الحرية»، فإنه باستخدام المفارقة المونتاجية يتم الانتقال إلي لقطات أرشيفية أيضاً، ولكن لمؤتمر أوروبا حول اقتراح مارشال بأوروبا موحدة، بينما تضفر هذه اللقطات مع اعترافات أحد مسئولي الوكالة وهو فيليب ريجيم متحدثاً حول أن أمريكا قد نجحت في أوروبا، لأنها كانت ترفع الشعارات ضد الفاشية، كما أنه قد تم تكوين وكالة المخابرات الأمريكية لنمنع «والحديث لفيليب ريجيم» المنظمات السرية من تخريب اقتراح مارشال بأوروبا موحدة. ومن ثم فهي الانتقالات والتضفيرات السينمائية التي تتوج ما سبقها من تكثيف للمعلومات، بتصريح إيحائي مفاده التأكيد علي أن هذا الاقتراح هو مشروع أمريكي في الأساس، وأن الذي كان يتحرك وراءه هو أهداف وكالة المخابرات الأمريكية.

وهكذا نجد أنه برغم وجود تعقيبات ووجهات نظر وآراء أخري مسجلة بالفيلم، في مقابل أحاديث مسئولي الوكالة، بالإضافة إلي ما كان يتم من الرجوع أحياناً إلي وجهات نظر تاريخية معلنة سابقاً حول أي من الموضوعات التي يتناولونها، فقد كانت وجهة نظر المخرج وحده هي صاحبة الأثر ـ التصريح النهائي، إذ هو الذي يبدع علاقات المركب الفني بين كل هذه التقابلات المونتاجية، سواء تلك التقابلات بين المتناقضات حيناً، أو بربط التوافقات حيناً آخر، كأن يلجأ إلي الاستمراريات التكاملية للأحاديث المتتالية بأكثر من شخص زعيم أو قائد أو مواطن، عبر اللقطات لكل منهم في أكثر من مكان، ولكنها في تتابعها تبرزهم وكأنهم صوت واحد يقول بنفس الفكرة أو المفهوم الذي يتم ترديده حول موضوع تاريخي بعينه.. ثم إذا بالقطع إلي لقطة اعتراف المسئول الأمريكي، سواء لتفجير مباشر لسر، أو للإيحاء عبر هذا القطع بذلك السر، بما من شأنه أن يصدم أو يهدم كل ما قيل وأشيع وسبق بثه، أو علي الأقل فإنه يحسم شكوكاً طال أمدها، وبما يجعله انقلاباً لا يتأتي بمجرد «الشرح» الصوتي المصاحب للقطات الوقائع، أي بما يتطابق مع ما يعلنه فرانكوفيتش نفسه: «لقد أحثتنا الطبيعة التنويرية المستهدفة من الفيلم لأن نتخلي عن التعليق الطويل، ومن ثم فإن الاعترافات المباشرة من رجال الوكالة هي التي أصبحت مسيطرة، حتي غدت لقطات الأرشيف وثائق لا يمكن لأحد إنكارها».

جريدة القاهرة في 25 مايو 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

من آلان فرانكوفيتش عام 1980 إلي مايكل مور 2004 «1/2»

السينما الأمريكية لا تعدم الشرفاء دائماً

د. مدكور ثابت