شعار الموقع (Our Logo)

 

 

هذا الكلام قد يغضب كثيرين.. وقد كنت أول من وقف ضده، بل كنت شديد الهجوم علي هذا النوع من الأفلام، وتحسرت كما تحسر كثيرون علي أيام السينما الجادة والجميلة. وكلما كان يظهر فيلم منها، ويحقق إيرادات عالية، كنت أشعر بالأسي، بعد أن ودعنا كل ما هو جميل في حياتنا. ومنذ ظهور هذه النوعية، وأنا أتابع ـ غير ما أكتب ـ كل ما يقال عن هذه الأفلام. أفلام هنيدي وسعد وآدم وغيرهم. لكن فجأة لفتت نظري حالة العري السائدة في الغناء. بعد أن امتلأت الفضائيات بمغنيات قمصان النوم وبدل الرقص. وبعد أن تشجعت الراقصات، فتركن الكباريهات وانضممن لحلبة الرقص. ومنذ ظهرت شاكيرا، وكأن المغنيات وأشباههن، كن ينتظرن الفرصة، فمادامت الشاشة العربية قد خلعت حياءها، فالتي تنتظر سوف تخسر الكثير. وهكذا ظهرت نانسي عجرم وزميلاتها، وقلنا إن المصريات أكثر حياء، فإذا بالمدعوة روبي، تنقض علينا، وتتجاوز كل الحدود. وفجأة تقفز لوسي ـ الراقصة ـ وتتجاوز ما بعد الحدود، بعد أن أقنعت نفسها أو أقنعها الآخرون بحلاوة صوتها، لكن مادامت المسألة، رقصا وعربيا، فهي التي سوف تربح، وارتفعت الموجة أكثر، وارتفعت معها الثياب، ولم يقل أحد: عندك!!.. ولأن المسألة انتشرت. فكان لابد من البحث عن سبب، ومن هنا عدت للسينما الجديدة ـ إن كان يصح أن نسميها جديدة.

* من أين؟!

ليس جديدا أن أقول إن الفن مرآة المجتمع، والمجتمع نفسه هو الذي يمد الفن بمادته. يعني أن أي فن يعبر عن المجتمع الذي يظهر فيه. وعندما تظهر هذه السينما التي قلنا إنها سينما هابطة. والبعض قال إنها ليست سينما. فإنها بصدق شديد تعبر عن هذا المجتمع الذي ظهرت فيه. وإلا ما كانت ظهرت. فمن أين؟.. بمادتها ما لم تأخذها من هذا الواقع. فماذا في الواقع غير ما تقدمه السينما!!.. مثلا فيلم «صعيدي في الجامعة الأمريكية». ماذا فيه غير مفارقة دخول هذا الولد الصعيدي لمجتمع لا ينتمي إليه، فهو بالضرورة غريب عنه، إنه يحمل تركيبة لا تتفق مع هذا المجتمع الذي هو الجامعة الأمريكية، ما يحدث أن تقع المفارقات، ويتفجر الضحك علي يد ممثل جميل هو محمد هنيدي. فيضحك المتفرج، وينبسط، وينجح الفيلم، وقس علي هذا الكثير. ولأن التكرار يوقع الفن في مطب، فقد هرب صناع السينما الجديدة ـ الهابطة ـ إلي المهمشين ـ كما أطلق عليهم ـ وزمان كنا نسميهم الفقراء. أو الطبقة الثالثة، بفرض طبقة الرأسمالية هي الأولي. والبرجوازية الثانية. والفقراء الثالثة. وفي هذا العالم المثير عند الطبقة الثالثة تظهر أيضا المفارقات. ويري المشاهد ـ من الطبقة الثالثة نفسه بطلا علي الشاشة، فيفرح بالبطولة. في نفس الوقت، تضحك الطبقة الأولي علي مفارقات الطبقة الثالثة، فهي تتسلي بها، وتمصمص الطبقة الثانية شفاهها تعاطفا مع الثالثة، وينجح الفيلم، وقس علي ذلك ما تريد، مصدر هذا كله، مجتمع لم يعد أحد يعرف ما يحكمه.

* اللغز

نعم، هناك لغز. ولا يعرف أحد حله. اللغز يكمن في انفراط كل شيء، بداية من البيت ـ الأسرة ـ إلي المدرسة ـ نظام التعليم بمقولة «نسد الشباك ولا نقفله» ـ تبقي السنة السادسة، أو نلغيها، فنلغيها، ثم نعود لإعادتها. وقد لا يحدث. إلي الشارع الذي لم يعد يحكمه أحد. إلي الحالة الاقتصادية، ركود عظيم، وفساد أعظم يتمثل فيما حدث للبنوك، مليارات الجنيهات تخرج من البنوك تحت ستار الفساد. وتهرب من البلد، أو تنفق في الملذات والرغبات كما حدث مع حسام أبو الفتوح، وأيمن السويدي، إلي حالة سياسية متردية، لا تعرف ماذا تفعل أمام انفلات القطب الواحد في ضرب الشعوب العربية الواحد بعد الآخر. وفي حضنها إسرائيل التي تنال الرضا مع ما تفعله في الأرض المحتلة. هناك إذن شيء غير مفهوم، لغز، وحالة من الهبوط أو التردي علي كل المستويات، يعني هناك حالة «لعبكة» عامة، وغير مفهومة، فكل شيء يسير عكس الاتجاه. السيارة في الشارع «تكسر» الإشارة، حتي ورجل المرور أمامها، وحتي سيارة الشرطة ـ المفروض أنها النموذج وأنها التي تصنع النظام، تسير عكس الاتجاه. ولا أحد يستطيع أن يتكلم. فقط تعليقات الشارع: «إذا كان رب البيت بالدف ضاربا». والميكروباص يجري كما يريد، ويقف في منتصف الشارع، والسائقون يمشون علي مهلهم، يتحدثون مع بعضهم البعض، وهم يقودون سياراتهم، وكأنهم ورثوا الشارع ومن فيه، ولا أحد يتصدي لهم، والأسعار مجنونة، والناس تجري وراءها، لكنهم لا يستطيعون اللحاق، فهي كل ساعة علي حال. ولا أحد يرفع صوته من المسئولين ويقول «عندك». الناس ح تموت من الجوع، والطالب الذي يضرب مدّرسه، والمدرسة التي تدفع تلميذاتها للرذيلة. والأم التي تقتل ابنها من أجل عشيقها. كل يسير عكس الاتجاه!!.. والمطلوب، تقديم سينما نظيفة، وجادة، ورومانسية وملتزمة، كما هو مطلوب غناء راق ممتع مطرب. كيف؟

* الصدق

إذا كنا نستطيع وصف الواقع، بأنه هابط، ويسير عكس الاتجاه، بكل ما فيه من انحرافات بسيطة أو كبيرة، نعرفها أو لا نعرفها، مع أن الشارع يعج بالكثير الذي يعرفه، ويطلق تعليقات إذا كتبت تصبح تحت طائلة القانون. ناهيك عن النكات التي يطلقها رجل الشارع ـ سلاحه الوحيد ـ والتي تعبر عن موقفه في كل ما يقع له، أو يدور حوله، ولا أعرف إذا كان هناك قياس للرأي لمعرفة وجهة نظر الناس، حتي لا يصبحوا في واد والمسئولون في واد. أقول بعد هذا، إذا كان الواقع عندنا يسير عكس الاتجاه، ألا يكون صحيحا أن تعبر السينما عنه. فتمشي هي الأخري عكس الاتجاه!!.. فتقدم أفلاما نقول إنها هابطة، في الوقت الذي لا ندين فيه الواقع الذي أفرزها، فنفس الواقع الهابط أفرز هذا الغناء الهابط، الذي نقف له بالمرصاد، وتكون المحصلة أن السينما أكثر صدقا منا، وأيضا الغناء، في حين أننا ندفن رؤوسنا في الرمال، ولا نريد أن نعترف بأن الواقع الذي نعيشه هو المسئول الأول عما نرفضه أو نهاجمه، فإذا كنا نريد سينما جيدة وجميلة، وإذا كنا نريد غناء جيدا وجميلا، فأعطوني واقعا جيدا وجميلا أيضا، ثم حاسبوني، إننا في النهاية نظلم السينما، ونلعن الغناء، دون أن نفعل شيئا سوي صب اللعنات، وإن كانت في الحقيقة مردودة إلينا، لأننا فقط لا نفعل غيرها، ومع ذلك، من الذي يطلق أحكام هبوط السينما أو عدم وجودها بالمرة. ومن الذي يحكم علي هبوط الغناء العاري الراقص!!

* جيل مختلف

الذين يحكمون علي هبوط السينما وهبوط الغناء، هم من عاشوا أيام السينما الجميلة والغناء الجميل ـ وأنا منهم ـ لكن لزمن تجاوز هذا الجيل صاحب الأحكام. حتي أنني أتصور كثيرا ـ وربما أقول هذا لبعض جيلي ـ أننا أصبحنا خارج حركة التاريخ، لقد عشنا زمن الالتزام، وزمن الأصول، وزمن وجود أكثر من قطب علي الساحة العالمية، لكن الزمن تغير، وحركة التاريخ نفسها تغيرت، وأصبح للأصول مفهوم مختلف، ولم يعد هناك التزام ـ في واقعنا علي الأقل ـ فالالتزام أصبحت له شروط مختلفة، يعني، نحن نحكم بقواعد انتهت، فهناك أجيال جديدة لها رؤاها، ولها مفهومها، والذي شكلها هو الواقع نفسه بعد أن وقعت مصيبة الانفتاح ـ السداح مداح ـ علي رأي العظيم الراحل أحمد بهاء الدين. فبعد الانفتاح تغيرت المفاهيم. أو أخذت مفاهيم جديدة تتشكل. وهذه المفاهيم لها قواعدها الخاصة بها، صحيح أننا نرفضها، لكنها واقع لا تملك، رفاهية رفضه، وإلا بحثت عن مكان آخر، وأرض أخري، تصنع فيها ـ أو تستعيد ـ واقعك القديم، وتبعا لذلك، تُصنع السينما الجديدة ـ الهابطة ـ ويصنع الغناء الجديد ـ الهابط ـ لكنه في النهاية يجد مستهلكه، بدليل نجاح السينما التي نقول إنها هابطة، وبزوغ نجمات جديدات في الغناء، لا علاقة لهن بالغناء، فنسمع عن عشرات الملايين التي تضخها السينما الهابطة في شرايين الإنتاج السينمائي، ونسمع عن الملايين التي تتقاضاها صاحبات الغناء الهابط، بما لم تكن تحلم به يوما أم كلثوم أو ليلي مراد أو فايزة أحمد. دعونا إذن نطلق أحكامنا، لكن من الضروري أن نعترف أن الفن الموجود، هو إفراز الواقع الموجود، وهو فن صادق كل الصدق، لأنه يعبر وبصدق أيضا عن الواقع الذي يسير عكس الاتجاه!!.. وأرجو ألا يغضب أحد فأنا لا أدافع عن الفن الهابط، ولكني فقط أقرر ما هو حادث!

جريدة القاهرة في 25 مايو 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

بعكس كل ما يقال

السينما الهابطة والغناء الهابط.. في منتهي الصدق!

حلمي سالم