في فيلم "اولاد ارنا" ذهبت في رحلة مليئة بالدهشة والحب والحزن الى مخيّم جنين. جوليانو مير خميس لم يصنع فيلماً، بل كتب حكاية حب التقطت العمر الهارب وحوّلته قصيدة. في مهرجان "ترايبيكا" السينمائي في نيويورك، فاجأ هذا المخرج الفلسطيني - الاسرائيلي الجمهور. نجح فيلمه في كسر قلوبنا. وللحظة، حين انطفأت الشاشة تمنيت ان لا يكون ما شاهدته حقيقياً. وتخيلت ارنا وعلاء وأشرف ويوسف، يقفون الى جانب المخرج على خشبة المسرح، كي يجيبوا عن اسئلة الجمهور. لكن للاسف، لم يكن الممثلون يمثلون بل كانوا يموتون. كل شيء في الفيلم كان حقيقياً ويتفوق على الخيال في شكل مؤلم. فيلم يستحضر الموتى ويعيدهم الى الحياة. حكاية بسيطة عن امرأة تدعى ارنا مير، في عملها الثقافي والتربوي مع اطفال مخيم جنين. المرأة يهودية - اسرائيلية، كانت جندية في قوات "البالماخ" عام ،1948 وبعدما اكتشفت العنصرية الصهيونية انضمت الى الحزب الشيوعي الاسرائيلي، وتزوجت من احد قادته الفلسطيني صليبا خميس، الذي عمل رئيساً لتحرير صحيفة "الاتحاد"، التي تصدر في حيفا. بدأ الفيلم بالمرأة وببيت الطفل الذي اسسته في مخيم جنين، من اجل تدريب الاطفال الفلسطينيين على المسرح والرسم. ثم تحوّل فيلماً عن اولادها هؤلاء. جوليانو عمل مع أمه على تدريب الاطفال على التمثيل، وصوّرهم في اثناء ذلك. لكنه قرر أن يصنع فيلماً عن أمه بعد اصابتها بداء السرطان. امرأة ولدت في مستوطنة روشبينا في الجليل، والدها البروفسور مير أشتهر بعمله الطبي في مكافحة الملاريا في منطقة الحولة. لكن حياتها انقلبت رأساً على عقب حين اكتشفت حقيقة المأساة الفلسطينية. نراها في بداية الفيلم تغطي رأسها بكوفية فلسطينية، وتقود تظاهرة اسرائيلية صغيرة ضد الاحتلال، امام "محسوم" (نقطة تفتيش اسرائيلية) في سالم. وهو "المحسوم" الذي يقطع طريق حيفا - جنين. ونستمع الى صوت ابنها المخرج، يروي ان المرأة خرجت من المستشفى بعد تلقيها علاجاً كيميائياً. فكرة الفيلم انطلقت من حياة ارنا كإنسانة ومناضلة. جوليانو اخبرني ان الفكرة انقلبت رأساً على عقب حين زار المخيم مع أمه قبيل وفاتها، ورأى الاطفال الذين عملوا معه في المسرح وقد صاروا شباناً مراهقين. ومع اندلاع انتفاضة الاقصى تحوّل ثلاثة منهم قادة ميدانيين. ذهب المخرج اليهم وعاش معهم وصوّرهم في معارك الدفاع عن المخيم، ثم رأيناهم يموتون واحداً بعد الآخر. سحر الفيلم انه لم يصوّر كفيلم، التصوير استغرق خمسة عشر عاماً. نتعرف الى أشرف وعلاء ويوسف اطفالاً. أشرف وعلاء يمثلان في مسرحية "القنديل الصغير" المقتبسة عن قصة غسان كنفاني. صبيان وبنات في التاسعة او العاشرة، يعتلون الخشبة، يمثلون حكاية أميرة قررت أن تجلب الشمس الى قصرها. سحر المسرح وسحر الحياة يجتمعان في مجموعة اطفال، عملت معهم أرنا، من اجل الحرية. الحرية ليست حرية الوطن فقط، بل حرية الخيال ايضاً. احدهم يقف خلف كاميرا التلفزيون الاسرائيلي ويروي انه سيصير روميو الفلسطيني. أشرف الساحر سوف يموت بعد اعوام قليلة في معركة يائسة مع الجيش الاسرائيلي الذي اجتاح المخيم. اما علاء الجميل الذي نراه طفلاً يجلس فوق ركام منزله الذي دمره الجيش الاسرائيلي، فسنراه من جديد قائداً لكتائب شهداء الاقصى في المخيم. يوسف الذي رسم البيت المهدم، حين كان طفلاً، سوف يقرر القيام بعملية انتحارية بعد حادثة قصف المدرسة. روى اصدقاؤه بعد موته، انه ركض الى المدرسة، وحمل طفلة مصابة في كل انحائها الى المستشفى. لكنها ماتت بين يديه. ومنذ تلك اللحظة تغيّر يوسف، ثم رأينا صورته ميتاً في الخضيرة، بعدما فتح نار رشاشه على الاسرائيليين. وجه الشاب ينحل في وجه الطفل. المشاهد التي صورت في أزمنة مختلفة، تجتمع في فيلم جوليانو مير خميس، وتحوّل الفن لعبة لاقتناص الزمن، والموت وجهاً للمأساة. ابطال وضحايا، اطفال وشبان. التشابه بين الطفل ابن التاسعة والشاب ابن السابعة عشرة مذهل. كأنهم لم يكبروا، او كأنهم يستطيعون في كل لحظة العودة الى طفولتهم. صور تتداخل في الصور، واغنية الحرية التي غنوها اطفالاً في بيت أرنا، صارت قدرهم الذي أوصلهم الى الموت. لا أعرف كيف استطاع جوليانو أن يصنع هذه التحفة الانسانية. لا استطيع ان اطلق على هذا الفيلم اسم الفن. فالفن يحاكي الحياة، و/أو يتفاعل معها، اما حين يتحول الفن حياة وموتاً، فنحن امام شيء آخر، امام قدرة الانسان على استخدام الصورة والكلمة والذاكرة، من اجل أن يقيم نصباً حياً لطفولة لا تغادر براءتها وجمالها ونبلها، حتى حين يصير الاطفال مقاتلين. انها المرة الاولى أرى فيها الانتفاضة، وأرى الفدائي جميلاً على الشاشة، مثلما كان جميلاً في ذاكرة شبابي. وهناك أُمّان: ارنا الاسرائيلية التي تتحول أماً فلسطينية شجاعة، وتبقى حتى لحظة موتها، مخلصة لأمومتها الانسانية. وأم علاء التي تقطّع القلب. أم علاء تشبه "أم سعد" مثلما كتبها كنفاني، لكنها اكثر جمالاً من امرأة الكتاب. ابنها المطلوب من جيش الاحتلال، يختبئ في أزقة المخيم، ويشتبك مع الجنود في شكل يومي تقريباً. وحين يسألها جوليانو "أليس من الافضل ان يسلّم نفسه؟"، تجاوب بلا النافية الناهية. وتقول إن الفلسطيني لا يركع. لكنها حين يُقتل ابنها، ويُلفّ بالكفن، تصير مثل الأم التي انكسر ظهرها، تبكي بعينين جف منهما الدمع، فيسري الدمع في عيوننا، ونمد لها يداً لن تراها، وتذهب الى حزنها المليء بالكبرياء. بين الأمّين، تدور حكاية صناعة الحياة بالبطولة والبراءة. فشفافية الاطفال على مسرح الشمس التي يبحثون عنها، تصير براءة من نوع جديد، مع مقاتلين بأسلحتهم الخفيفة، امام الدبابات الاسرائيلية العملاقة، والجرافات المعدنية التي تشبه حيوانات اسطورية. وموتهم، يصير كل الموت وكل الحياة في آن واحد. حين يمتزج وجه الطفل بوجه الشاب، وحين ينتقل بنا المونتاج من معركة بالرشاشات الى مسرحية "القنديل الصغير"، وحين نرى ارنا مير في كهولتها تواجه السرطان بعينين خائفتين على اطفالها الفلسطينيين في المخيم، يضربنا اليأس الذي يشبه الأمل. هؤلاء الاطفال حلموا بأن يصيروا ممثلين، وحلمهم تحـقـق! هـذه هـي الـمـفـارقـة الـمـدهشـة فـي الفيلم. صار علاء واشرف ويوسف ممثلين في فيلم سينمائي، ينال جائزة المهرجان، ويقابل بعاصفة من التصفيق والعيون الدامعة. لكنهم لم يمثلوا الا موتهم الحقيقي، ولم يعيشوا الا طفولة لم تعد لهم سوى الموت. هكذا يعيش الفلسطينيون في الضفة وغزة اليـوم. انـهم يصنعون مسرحيتهم الكبرى بالمآسي اليومية وبالاصرار على الحياة. في الفيلم نرى شاباً صغيراً يُدعى زكريا زبيدي. لم يكن زكريا في الفرقة التمثيلية، ولا يلعب دوراً كبيراً في الفيلم، لكن بعد أشرف وعلاء صار قائداً لكتائب شهداء الاقصى في مخيم جنين. الصحافي الاسرائيلي جدعون ليفي الذي حاوره في الملحق الاسبوعي لصحيفة "هآرتس" (الجمعة 26 آذار 2004)، وجد نفسه امام رجل ميت يحكي. "أنا رجل ميت"، قال زكريا. وروى عن حقول الدم التي يغرق فيها شعب كامل. حين رأيت صورة زكريا في "هآرتس" بوجهه الاسمر وعينيه البنيتين اللامعتين، احسست اني اشاهد وجه التحدي الفلسطيني. اما حين ظهر في فيلم "ابناء ارنا"، فقد رأيته طفلاً يحاول أن يلعب لعبة الحياة والموت لأن لا خيار له. سألني جوليانو هل من الممكن عرض فيلمه في بيروت. طبعاً اجبته، ارسل لي نسخة وسوف نعرضه. "لكنه... لكنه فيلم، كما تعلم، انه فيلم اسرائيلي"، قال. ارسل نسخة، قلت له، وسوف ترى اننا نتمنى جميعاً أن نكون ابناء ارنا، الى جانب هؤلاء الشهداء الذين يكللهم الجمال بهالة الحياة. النهار اللبنانية في 23 مايو 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
حين يموت الممثلون الياس خوري |
|