شعار الموقع (Our Logo)

 

 

مثلما كان يشد مقدم البرامج الكوميدية التلفزيونية التركي يلماز اردوغان جمهوره الى الشاشة الصغيرة، نجح، هذة المرة في نقلهم الى قاعات الشاشة البيضاء ليشاهدوا فيلمه الجديد " فيزونتيل توبا"، نقلهم من مقاعد منازلهم التي أعتادوا الجلوس عليها للاستمتاع بلحظات فرجة ساخرة، الى تاريخ منسي من تاريخ وطنهم وبعض من خفايا تاريخه الشخصي، ومن محلية أنطلقت من قريته الكردية الصغيرة في جنوب شرق تركيا سيتابع جمهور الفيلم اينما كانوا صورة التحولات السياسية التي شهدتها تركيا ابان الثمانينات، حين وصل العسكر الى السلطة بأنقلاب فاشي أوقف كل تحول منتظر للديمقراطية وأسس لحالة فوضى أجتماعية وسياسية، ضحيتها كان كالعادة الشعب المغلوب على امره.

اردوغان في الواجهة.. وتركيا تحت السطح

من دون أدنى شك ان فيلم "فيزونتيل توبا" هو فيلم اردوغان الشخصي بأمتياز، على المستوى الانتاجي والقصصي. فهو مخرجه وبطله وكاتب سيناريوه. وقصته هي قصة اوردغان في الثمانينات وهو يودع سنوات طفولته، ولهذا يمكن ملاحظة صدقية وحرارة الواقع المنقول سينمائيا والتي ستشكل أحد أهم عناصر نجاحه. ينتقل اردوغان بحس فني وفير من الخاص الى العام. فيزوغ بمهارة من تسجيل الواقع السياسي مباشرة، ليخلطها بتفاصيل يومية تعيشها القرية، تعكس الململة والحراك الاجتماعي المخفي تحت السطح، ولهذا يختار تمهيدا لفيلمه، بعودة " فلاش باك" الى اللحظة التي يطلب منه مدرس التركية، قبل اربعة وعشرين عاما، كتابة أنشاء مدرسي "عن تجربة حقيقة عشتها في العطلة الصيفية"

مدير مكتبة بدون مكتبة!

في يوم صيفي حار من عام ثمانين يصل باص ركاب الى ناحية هاكاري، ينزل منه رجل وأمراة، وفتاة شابة معوقة، ابنتهما، وعلى مبعدة ينزل أمين من دراجته النارية، وعلى وجهه ابتسامه بلهاء، ويتجه الى العائلة مبادرا لمساعدتها، بعد ان علقت نظراته بنظرات الشابة ( توبا اونسال) وهي ما تزال داخل الباص قبل نزولها. بكرم سيرحب هذا الشاب الثلاثيني ( أردوغان نفسه) والمعروف ب" أهبل القرية" بزوارها الجدد ويعرض مساعدته عليهم. و اثناء التعارف على مديرها (التان اركلكلي) وبقية الحضور، سيفاجيء الزائر الجميع عندما يعلن: انه جاء الى هنا ليباشر عمله كمدير جديد لمكتبة الناحية! المفاجئة تكمن ان لا وجود لأي مكتبة في هذا المكان. وسيعرف الناس ان الحكومة قد تعمدت نفيه من العاصمة الى هذة الاراضي، البعيدة والمعزولة، بسبب نشاطه السياسي المعارض. بالمقابل سيتحرك "الأهبل" أمين ومدير الناحية لبناء مكتبة جديدة بجهودهم الخاصة. مقابل هذا الجانب الأيجابي يتحرك أخرون لوقف هذا النشاط، والشرطة تدعمهم. بين هذين الطرفين وصراعته، هناك حياة كاملة في القرية تتحرك وتتفاعل بعيدا عنها، ينقلها لنا الفيلم بمشاهد متقطعة تظهر، انشغالاتهم اليومية وعقليتهم ومستوى بؤسهم، عبر مشاهد سريعة تذكرنا بعوالم الكاتب التركي عزيز ينسين، سنلم خلالها بعوالم الناحية وعلائقها المتشابكة، قصص الحب السرية، نفاق موظفي الدولة وانتهازيتهم، رشوة رجال الشرطة وامتيازاتهم، عزوف الناس عن حضور عروض السينما، المهترئة، بعد منع افلام المخرج الكردي يلماز كوناي فيها، وعمليات البيع الشراء في اسواقها حيث هاجس الناس الاول توفير مستلزمات الحد الادنى لعيشهم مما تعرضه. مشكلة الفيلم الأبرز هو السيناريو وحواراته، فاردوغان، وبسبب من شغله كفنان استعراضي، لجأ الى لعبة اللغة وتحويراتها، لمنح اعماله قوة تعبير كوميدية اكبر، يفهما ويهضمها متحدث التركية دون عناء، غير أنها تضعنا، نحن الذين لا نعرفها، في حيرة من الوصول الى طريق يسهل فهم أبعادها وتحويراتها، فنخسر قسما من سخريتها وكوميديتها، ولا يتبقى لنا منها سوى القليل بفضل الترجمة، وبسبب ذلك تترشح حصة وفيرة من الجدية، تكفي لاخلال توازن العرض المبني اساسا على المزج بينهما. ومثال على هذا، ان الصراع الناشب بين القوى اليسارية والفاشية الجديدة حول شعار يخطه أمين على سفح الجبل لصالح اليسار يتسبب في معارك وأشتباكات بينهما بسبب تغيير في بعض حروفه يجريه بعض أنصار الفاشية. لا يقدم السيناريو، اي تفسير سينمائي لمحتوى ومعنى هذة الشعارات. قطعا ان أوردغان لم يفكر ابعد من محليته هنا، فالاتراك سيفهمونه حتما! على مستوى أخر لعبت الكاميرا دورا كبيرا في توازن الفيلم وقدمت بلغتها ما عجز الحوار الضروري عن فعله، كما ساهمت الموسيقى والأغاني في شد انتباه المشاهد الى مجريات الأحداث.

التلفزيون أو "فيزونتيل"

الموضوع المحوري في الفيلم هو التلفزيون أو كما اسماه والد أمين "فيزونتيل" عندما سمع به لأول مرة وخافه كمصدر ناقل ل"أخبار الشر" لذلك أوصى بدفنه معه في القبر قبل موته، وكان له ما أراد، وحرمت القرية بأسرها من أحدى متعها القليلة. وثانية تجددت أمالهم عندما أنتظروا وصول أثاث بيت مدير المكتبة الجديد   (طارق أكان) لكنها تذهب هبائا، بعد وصولها محطمة مع بقية العفش المنقول بسيارة قطعت طرقا وعرة كسرته وكسرت أخر نافذة لهم على العالم. المكتبة التي اراد صاحبها سد نقص معارف اهالها ظلت مهجورة ولم يزورها أحد، فالأمية مستشرية بينهم. فجأة تقدح في ذهن أمين فكرة لجذب الناس لقرائة الكتب، أنه التلفزيون وسيلة الاغواء القوية والوحيدة، وهو مدفون مع والده، ولا بد من حفر القبر لأخراجه وتصليحه. وينحج أمين أخيرا في تحقيق فكرته فيأتي الناس لمشاهدته في المكتبة. على جانب نجاحه تتطور علاقة حب جديدة بينه وبين الفتاة المعوقة. علاقة ما كان يحلم بها بعد ان تركته السائحة الاجنبية التي تعلق بها منذ سنوات بعيدة وظل يتذكرها. غير ان انقلاب العسكرتارية التركية سيقلب كيان الناحية ويحرق قلب امين. ففي الساعات الاولى من توليهم السلطة يقوم العسكر بأعتقال كل يساري القرية ومعارضي السلطة ومن ضمنهم أمين المكتبة. بقى الناس ينتظرون عودتهم ولكنهم باتوا هناك في غياهب السجون أو ماتوا فيها. فتقرر زوجته وابنتها مغادرة الناحية والعودة الى العاصمة تاركتين أمين وحيدا والناس في انتظار مرير. في واحد من أجمل مشاهد الفيلم وفي لحظة تحرك الباص تنقل الكاميرا مشهدا عاما لجبل القرية وقد خط عليه أمين اسم حبيبته توبا بحروف عملاقة.. لقد تحولت توبا الى ماضي حزين لكن اسمها ظل بارزا دون شعارات اليمين واليسار. فيلم " فيزونتيل توبا" قدم صورة لمرحلة خطرة من تاريخ تركيا عالجها اردوغان بشجاعة جعلت من فيلمه واحدا من أهم الافلام التركية، التي اتسمت عموما بمستوى فني وفكري هابط يكثر فيها الغناء والرقص  "الشرقي" وندرت فيها معالجات كالتي قدمها أردوغان، بوصفه شاهدا على أحداث عاشها وكتبها في انشائه المدرسي، وبعد ربع قرن أخرجها سينمائيا بوعي ناضج. وعليه نقول: ان فيلم "فيزونتيل توبا" يستحق المشاهدة.

موقع "إيلاف" في 17 مايو 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

فيلم "فيزونتيل توبا" عن انقلاب عام 80

اردوغان وصورة العسكرتارية التركية في قرية كردية بعيدة جدا!

قيس قاسم