شعار الموقع (Our Logo)

 

 

الإخراج الفيلمي، أكان تلفزيونيا أم سينمائيا، هو لعبة التوازنات الدقيقة بامتياز.فقد نجد من جهة ، لغة فنية راقية عبر حركية الكاميرا في اختيار سلم اللقطات لتصوير المشاهد أو لالتقاط الزوايا،وصفاء الصوت، وكثافة اللون ،غير أن بعض الهفوات البسيطة في بناء الحدث، قد تؤثر سلبا علي مستويات إقناعه،أو أداء ممثليه.لذا، من الصعب تحقيق هذا التوازن الذهبي بين مكونات سمعية وبصرية،في فيلم من المفترض فيه أن يجمع بين لغة إخراجية رصينة، ومضمون فكري وثقافي جاد.المخرجون أدري بالجهد العضلي والذهني التي تفرضه مواقف وحالات تتطلب سرعة البديهة، ودقة الملاحظة، عندما يصير التصوير تحت ضغط الوقت أو حالة الطقس،أو إكراهات أخري خارجة عن الحسبان.المخرج كقائد الأوركسترا الذي يجب أن يضبط توزيع العزف علي مختلف الآلات، فيبقي تحت الملاحظة الثاقبة حجم الإطار، وكثافة الضوء وجمالية الحركة، ومسافة الكاميرا وحسن الأداء، إلي غير ذلك من العناصر التقنية والبشرية،لأن الفيلم في نهاية المطاف يوقع باسمه،وهو وتحت مسؤوليته.

لنسق بعض الأمثلة علي تلك الهفوات التي تبدو صغيرة غير أن تأثيرها ووقعها أعظم.مثلا،لا يمكن تصور مجموعة من زعماء المافيا ،وهم يفوضون لأحدهم قتل شخص معاد، دون أن يتأكدوا من موته، وخصوصا إذا لم يكن أمامهم أي عائق يمنعهم من ذلك.ولا يمكن أيضا، تصور صياد سمك، جاء لتوه من رحلة صيد، وعندما يكشف عما اصطاد، نلاحظ أن السمك ليس طريا .وليتأكد لنا ذلك ،فهو لما يقدم لقطة سمكة، ترفض أكلها.نفس الشيء،حين تحاول أم ما هدهدة ابنتها الشابة، والمقبلة علي الزواج، بأن تحكي لها حكاية قبل نومها.هذه نماذج شاهدتها من خلال أفلام مغربية حديثة العهد. كما أن الحوار كحمولة فكرية واجتماعية، قد يأتي من دون مستوي التفوق التقني، حين يسقط في التكرار أو السذاجة،أو قلة التفطن الضروري في حوار متباين من حيث موقع السلطة، أو من حيث المبادرة في السؤال ،كما هو الحال بين متهم ومحقق بوليسي ، أو سيدة متزوجة وعشيقها .

أضف لهذا، أن أي فيلم، لا بد وأن يصنف ضمن أنواع تعبيرية معينة ،كقولنا هذا من الخيال العلمي، وهذا من المغامرات والحركة، وذاك من أفلام الرعب.ولو أننا بتنا نلاحظ ،أن بعض الأفلام الأمريكية الأخيرة، أصبحت تجمع بين أصناف تعبيرية متعددة، تتداخل كما هو شأن تداخل الأجناس الأدبية مثلا في الرواية ،علي سبيل الحصر. لكن الأهم في رأيي،هو تلك المرجعية الفكرية، والقضايا التي ينطلق منها الفيلم، ويحاول بالتالي، أن يتبناها أو يسقطها،أو علي الأقل، يثيرها بطريقة ذكية ومتقنة دون أن يتخذ منها موقفا، بل يترك الأبواب مشرعة علي تعدد القراءات وتباين التأويلات، كما يتجلي ذلك من خلال لغة الجسد وحركاته،أو من خلال الخطاب الشعري .فأفلامنا ناقصة من هذه الناحية،إذ غالبا ما نهتم بالحركات الكبيرة التي تدفع بالسرد إلي الأمام، علي حساب تلك الحركات الدقيقة والمعبرة كلمسة يد، أو طريقة الجلوس ،أو كيفية تحريك عضلات الوجه، والتي تأتي إما في آخر مرحلة، أو تغيب كلية.

هذه المسألة، غالبا ما تغيب عن أذهان بعض المخرجين، إما بسبب الرقابة الذاتية أو الخارجية التي تمارس خلال عملية الخلق الفني،أو لعدم إدراكهم للبعد الثقافي والفكري في أفلامهم.فعندما نقول البعد الثقافي في الفيلم ،فذلك لا يحيل بالضرورة علي نقاش عقيم وثوري حول قضايا طوباوية، يتحدث بصددها مثقفون مرضي،غارقون في السوداوية وفي حب الذات من خلال أبراجهم العاجية.بل المقصود هو تلك الأشكال التعبيرية في الكشف عن ثقافة ما، وفق منظور اجتماعي يستحضر هموم الفرد، وعلاقاته بمعيشه وآفاقه ببعض مستويات تناقضاته .

كثيرا ما يسود الاعتقاد، أن إغراق الفيلم، أعني خلال مرحلة إعداد السيناريو، في أوحال الواقع ومباشرته، يشفع للمخرج، أو يمنحه امتيازا ما.المسحة الإبداعية في إعادة تشكيل الواقعي، وتطعيمه بالعنصر الخيالي والسحري، ولما لا حتي بعنصر اللاوعي، قد يضفي عليه آنئذ صبغة الفن باعتباره خلقا للواقع، ودعوة لتجاوزه.لكن البعض قد يختلف مع هذا المنوال، مدعيا أن الإكثارمن الرمزية، والغلو في السرد محشو بلغة السحر مثلا ، قد تعقد من طرق استقبال الجمهور لهذه الأفلام،والتي ربما، يغلب عليها الطابع التجريدي في بناء الحكاية ،أو طريقة توضيبها، قائلين ماذا جني مخرجونا في أفلامهم الأولي كمصطفي الدرقاوي حين راهن علي الفني والسردي ؟ هنا نعود بهؤلاء إلي قضية التوازن الذهبي بين اللغة السينمائية ،والطرح الفكري والجمالي،وقد نضيف حتي الربح التجاري ، إذا أدرك المخرج كيف يوفق بين ما يؤمن به، وبين ما يوفر له من شروط البقاء والاستمرارية ،حتي لا يتحول حلمه إلي مغامرة انتحارية. نقول مثلا، أن أفلام إيناس الدغيدي، وأفلام عبد القادر لقطع تنطلق من منطلقات تؤمن بالتحرر، وبالكشف عن الطابوهات التي تقف عائقا أمام حرية المرأة في مجتمع ذكوري متزمت. أما أفلام يوسف شاهين، فهي تلعب علي ثنائيات وتقابلات الشرق والغرب، أو تطالب بحرية الاختلاف مع الحق في الحوار والتعددية.حتي أفلام الو يسترن ورعاة البقر، غالبا ما كانت تنطلق من مسوغات إيديولوجية تبرر فيها "عدالة البيض" وتدين "همجية الحمر".

أقصد أن المقاربة الإبداعية للفيلم، لابد أن تنطلق من محددات جمالية، ناهيك عن المنطلقات الفكرية ذات المضامين الإنسانية. تناهض من خلالها مثلا، استعباد الإنسان ،أو تدين التطرف،أو تدعو للاختلاف وللحوار من دون عقدة نقص،أو عهارة أخلاقية.ولكن من دون السقوط في فخاخ التقريرية ،وإسداء النصح بشكل توجيهي ومباشر.إذن، يمكن القول،أن حسن الأداء التقني، لن يخلق لنا سيناريو متفوق في طرحه لقضية ما، سواء من حيث البناء الدرامي،أو من حيث التكثيف الإيقاعي للسرد، وزوايا الرؤية .ونفس الأمر يصبح مستنتجا،حينما نعكس الآية.

القدس العربي في 13 مايو 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

التوازن الذهبي في الفيلم السينمائي

عزالدين الوافي