شعار الموقع (Our Logo)

 

 

إنها المرة الأولى منذ عام 1986 التي يفوز فيها فيلم ألماني بالجائزة الكبرى في مهرجان برلين السينمائي الدولي (البرلينالا), ثاني أهم مهرجانات الفن السابع في العالم. طوال السنوات الماضية لم ينجح أي فيلم ألماني في اقتناص "الدب الذهبي", حتى الفيلم المتميز "وداعاً لينين" فشل في ذلك. إلى أن جاء مخرج تركي الأصل وحقق قبل أسابيع ما فشل فيه زملاؤه الألمان منذ حوالى عشرين عاماً. هذا الإنجاز الذي حققه فاتح أكين بفيلمه "الاصطدام بالجدار" يمثل مفاجأة حقيقية, خصوصاً أن لجنة اختيار الأفلام رفضت الفيلم في البداية, وفي اللحظة الأخيرة سمحت بدخوله المسابقة الرسمية. قد لا يكون "الاصطدام بالجدار" تحفة فنية كاملة, لكنه بالتأكيد فيلم متميز, ويتناول بصراحة غير مألوفة في السينما الألمانية قضايا متفجرة, مثل تصادم الثقافات المختلفة في المجتمع, وعجز الأقليات الوافدة عن الاندماج في مجتمعاتها الجديدة في بعض الأحيان, والشعور بالتأرجح بين ثقافتين وعالمين, الذي يسيطر على غالبية أبناء المهاجرين من الجيل الثاني, ويجعلهم يفتقدون الوطن ويبحثون عن هويتهم, هنا وهناك.

من السياحة الى...

يبدو المشهد الافتتاحي في فيلم "الاصطدام بالجدار" وكأنه منتزع من فيلم ترويجي للسياحة في تركيا: تخت شرقي مكون من ستة أشخاص جالسين, تتوسطهم مغنية تشدو واقفةً وهي ترتدي فستاناً أحمر يتوهج بين بدل الرجال السود. خلف الفرقة الموسيقية نرى النهر يسير هادئاً وديعاً, وعلى الضفة الأخرى يربض أحد جوامع اسطنبول بمناراته الرشيقة. أغاني الفرقة تدور في فلك الحب والوصال, واللوعة والفراق. إنها أغان شرقية جداً, من الممكن أن تؤديها أم كلثوم. هذا المشهد النهاري الذي يبعث على الاسترخاء ويبث الدفء, أو ربما الملل, في أوصال المتفرج (الألماني أو الغربي) يتناقض تماماً مع المشهد الآتي: الساعات الأخيرة من الليل في أحد مراقص حي ألتونا في مدينة هامبورغ في شمال ألمانيا, وهو الحي الذي تسكنه غالبية من الأجانب, لا سيما الأتراك. الكشافات تنطفئ بعد انتهاء الرقص. جامعو الزجاجات والكؤوس الفارغة ينهمكون في تنظيف الصالة القبيحة التي كانت في ما مضى مصنعاً. جاهت (بيرول أونيل) هو واحد من هؤلاء, وهو تركي حاصل على الجنسية الألمانية, في الأربعين من عمره, طويل الشعر, زري الهيئة. لا يتوقف جاهت عن احتساء البيرة, زجاجة إثر أخرى. بعد إغلاق المرقص يذهب إلى إحدى الحانات المشبوهة ويواصل السكر. موسيقى الروك العنيفة تصدم المشاهد بعد الإيقاعات الشرقية الناعمة. تحاول امرأة التقرب من جاهت وملاطفته, لكنه يسبها بغلظة, ثم يتشاجر مع أحد الزبائن وينهال عليه ضرباً إلى ان يتدخل البارمان ويطرده من الحانة. ينطلق جاهت بسيارته بسرعة جنونية وهو يشعر بخواء حياته وانسداد الطرق في وجهه, ثم يحاول الانتحار بالاصطدام في جدار.

فاتح أكين يحافظ طوال فيلمه على هذه الثنائية: الموسيقى الشرقية في مقابل الروك, الحياة الأسرية التركية التقليدية في مقابل نمط الحياة الألمانية, واللغة التركية في مقابل اللغة الألمانية. ربما لا يعاني جاهت ذيول السير على الحدود بين الثقافتين الألمانية والتركية, كما تعاني بطلة الفيلم زيبل (زيبل كيكيلي) التي تصطدم دائماً بسلطة الأب وقمع الأخ. زيبل لا تزال في العشرين من عمرها, وهي ولدت ونشأت في ألمانيا في أحضان عائلتها المسلمة. وعبر السنين تكوّن لديها موقف رافض لثقافتها الأصلية كما يمثلها والدها وأخوها. لذلك تحاول وبكل السبل الخروج من بيت العائلة لتعيش حياة مستقلة. تعيش موقفاً متناقضاً للغاية: تريد الزواج, الذي يعتبره كثيرون سجناً, لأنها تنشد الحرية من إسار عائلتها. لكن الزوج لا بد من أن يكون تركياً, هذا هو شرط العائلة. ومع الزوج التركي لا حرية, هكذا تفكر زيبل. كما أنها مقتنعة بأنها ما زالت صغيرة على الزواج. زيبل تصطدم هي أيضاً بالجدار, جدار العادات والتقاليد والوصاية. لذا تحاول غير مرة الانتحار بقطع عروق يدها. في المستشفى - حيث ينقل جاهت وزيبل - يتقابل شخصان حاولا الانتحار وتدمير ذاتهما, شخصان يتملكهما الشعور بأنهما فقدا كل شيء, فهل يربحان عندما يخاطران بالتشبث بالحياة؟

الحل هو الزواج الصوري من جاهت, هكذا فكرت زيبل عندما رأت جاهت في المستشفى. زواج من دون التزامات, ومن دون حياة زوجية" زواج يحررها من سجن العائلة فحسب. تحت هذا الشرط يوافق جاهت على مضض, ويتفقان على الحياة متجاورين, لا متشاركين. عائلة زيبل تقبل الشاب المدمن على الكحول والمخدرات بعد تأفف وامتعاض, وتقيم لابنتها عرساً تقليدياً. في ليلة الزفاف تنشب مشاجرة بين العروسين, وعلى أثرها يطرد الزوج عروسه من حجرته الشبيهة بالمزبلة. تذهب العروس إلى إحدى الحانات, وتستمتع بأول ليلة تقضيها في أحضان شاب غريب. زيبل تريد أن تعوض ما فاتها في صباها ومراهقتها, تريد أن تجرب كل شيء: الرقص والمخدرات والجنس المتحرر. لكن هذه الحياة لا تجلب المسرات والمتع فحسب, بل تسبب لها مشكلات عدة, خصوصاً عندما يكتشف جاهت عواطفه حيال زوجته الحسناء التي تبدل الرجال كما تبدل ملابسها الداخلية. تأخذ الأحداث ذروتها عندما يقتل جاهت خطأً أحد الذين يغازلون زوجته. يُسجن جاهت, وتهرب زيبل إلى إحدى قريباتها في اسطنبول, بعد أن حاول أخوها قتلها "إنقاذاً لشرف العائلة". بعد إطلاق سراح جاهت يسافر إلى إسطنبول للبحث عن حبيبته التي أعطت حياته معنى والتي قالت له إنها تنتظره. إلا أنه يكتشف أن زوجته تعيش مع صديق لها أنجبت منه طفلة. ومع ذلك يتقابل الاثنان, ويحدث بينهما الوصال للمرة الأولى. ولكن, هل يعيشان معاً؟ جاهت يريد السفر إلى مسقط رأسه, وينتظر زيبل لتلحق به. وعندما ينطلق الباص نراه وحيداً ينظر إلى المجهول. وفي المشهد الختامي للفيلم نرى التخت الشرقي مرة أخرى, ونسمع أغنية تتحدث عن لوعة العشق وعذابه.

حب خشن

قدم فاتح أكين في "الاصطدام بالجدار" قصة حب "خشنة", ميلودراما على الطراز الأميركي. لكنها مقنعة ومؤثرة, ومنتزعة من قلب الواقع. يقول أكين إنه استلهم فكرة الفيلم من حادثة مرت به, عندما سألته شابة تركية قبل سنوات أن يتزوجها صورياً كي تتخلص من سطوة عائلتها. ويتميز الفيلم بإيقاع سريع شيق, وبخفة ومرح على رغم تراجيدية موضوعه. ولا شك في أن الحصول على "الدب الذهبي" يرجع إلى الأداء الصادق للممثلة الشابة زيبل كيكيلي والممثل بيرول أونيل, وكلاهما من الأتراك الألمان. وقد تعرضت زيبل كيكيلي الى حملة شعواء من الصحافة الصفراء في ألمانيا وتركيا, نظراً لأنها مثلت قبل سنوات أفلام بورنو عدة. الطريف أن المخرج اكتشفها مصادفة, ولم يكن يعلم شيئاً عن "ماضيها" السينمائي, إذ انها اعتزلت العمل في الأفلام الإباحية, وكانت تعمل قبل تصوير "الاصطدام بالجدار" موظفةً في قسم "القمامة" في بلدية مدينة إسن.

اعتمد فاتح أكين في فيلمه لغةً سينمائية حافلة بمشاهد العري والعنف والحوار السوقي المُصدم في كثير من الأحيان. لهذا لم يجلب الفيلم للمخرج "الدب الذهبي" في برلين فحسب, بل أيضاً عداوات كثيرة من الجانب التركي المتحفظ. ويقول أكين إنه قرأ في الإنترنت نداءات عدة لمقاطعة الفيلم, لكن المشكلة - وكما يحدث في نداءات مقاطعة مشابهة في البلاد العربية - "أن شيوخ الأخلاق هؤلاء لم يروا الفيلم على الإطلاق".

ولد فاتح أكين قبل 31 عاماً في مدينة هامبورغ في الشمال الألماني, ابناً لمهاجرين تركيين. وهو يعيش في حي ألتونا الذي يزدحم بعائلات العمال المهاجرين, والذي يدور فيه جزء كبير من أحداث "الارتطام بالجدار". حتى الآن أخرج أكين خمسة أفلام, تدور كلها حول حياة المهاجرين إلى ألمانيا, الذين يصارعون من أجل التكيف مع المجتمع الجديد, والاندماج في ثقافته, ويحاولون على رغم ذلك الإبقاء على هويتهم الأصلية. وعلى رغم أن موضوع التعددية الثقافية يحتل حيزاً كبيراً من النقاشات في ألمانيا, فإنه لم يُعرض حتى الآن على شاشات السينما إلا نادراً. هذا الوضع سيغيره بالتأكيد فيلم فاتح أكين الجديد, الذي يقول عن ذلك: "ليس هناك أفلام كثيرة تتناول موضوع المهاجرين. هذا صحيح, لكن هذه الأفلام موجودة, وتثري السينما الألمانية التي تختلف تماماً عن السينما الفرنسية مثلاً. إذا رأيت فيلماً فرنسياً يمكنك على الفور ان تقول: هذا فيلم فرنسي... ما يلفت في السينما الألمانية الآن أنها تعيش حالاً من الثراء والتنوع".

لقد نجح "الاصطدام بالجدار" في تعرية التناقضات الكثيرة التي يقع فيها أفراد الجيل الثاني من المهاجرين الأتراك في ألمانيا, وفي إظهار صعوبات التعايش بين الثقافات في المجتمع المتعدد الهويات. فاتح أكين يتعرض لهذه الإشكاليات بلا أحكام مسبقة, وبلا حساسيات خاطئة. إنه يتحرك بثقة بين العوالم والثقافات المختلفة, ولهذا يستطيع اختراق جدران عدة.

جريدة الحياة في  9 أبريل 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"الاصطدام بالجدار"

للتركي اكين يحكي تصادم الثقافات

سمير جريس