شعار الموقع (Our Logo)

 

 

في حين تشكو السينما التونسية من عراقيلها وأزماتها وقلة اقبال جمهور المشاهدين عليها, تأتي بعض الأفلام النادرة حقاً, بين موسم وآخر, لتستعيد الجمهور الى القاعات شبه المهجورة.

ويبدو ان السينما التونسية الآتية من "نادي الفن والتجربة" بدأت تشكو من نرجسية المخرج (سيرةً وتأليفاً وإخراجاً) وتتورط في مواضيع نخبوية قليلاً ما تشد المتفرج العادي الذي يشكل جمهور القاعات.

وهكذا بدأ يلوح - كما في شؤون الأدب وفنون اخرى - شرخ بين النخبة والجمهور. وبات الفيلم الذي يرضى عنه النقاد غير الفيلم الذي يملأ القاعات لاحقاً كما اثبتت التجربة. ونادراً ما يحصل تطابق بين رأي النقاد والمثقفين من جهة وإقبال الجمهور من جهة ثانية.

وضعية المرأة

رجاء العماري تنتمي الى الجيل الجديد في السينما التونسية, وإثر تخرجها سنة 1998 قدمت شريطاً قصيراً بعنوان "افريل" (نيسان) وحاز الجائزة الخاصة للجنة التحكيم في مهرجان ميلانو الإيطالي, وكذلك في المهرجان الدولي للفيلم القصير في تونس, وجائزة التصوير في مهرجان لاريسا اليوناني. بعد ذلك قدمت سنة 2000 شريطاً آخر من الأفلام القصيرة بعنوان "ذات مساء من شهر جوييه" (مساء تمّوزي).

تركز رجاء العماري في افلامها على وضعية المرأة وقلقها وعزلتها ومشاعرها وتفاصيل حياتها اليومية المملة. وهو ما تلتقطه الكاميرا ببراعة, راصدة المكامن النفسية لدى الشخصيات.

في فيلمها القصير "افريل" نلتقي امرأة مريضة او متمارضة, تعيش في عزلة, وتتحول الى موضوع تندّر للعائلة من فرط زياراتها الى الطبيب, حتى يتكشف مرضها عن حال نفسية وعائلية.

وفي شريطها الطويل "ساتان احمر" الذي استقبلته وسائل الإعلام الغربية بحماسة, تبدو السيدة ليليا للجميع امرأة رصينة, حسنة السلوك, وهي ام عادية تعيش في تونس العاصمة مع ابنتها المراهقة سلمى, ساهرة على رعايتها وتربيتها بمفردها بعد وفاة زوجها. وتقضي ايامها في نفض الغبار عن الأثاث والخياطة ومتابعة المسلسلات المكسيكية وانتظار ابنتها التي تدرس في الجامعة.

حياة بسيطة ومملّة مع لحظات رقص امام المرآة تتذكر فيها انوثتها الغاربة. اما الابنة سلمى فتحاول التخلص من الرتابة اليومية وتبحث عن ايقاع جديد لحياتها سرعان ما تجده في الانتساب الى دروس في الرقص الشرقي ومشاركة اصدقائها في حفلاتهم.

ومن اجل المحافظة على ابنتها التي صارت تعتقد انها على طريق الانحراف, او هكذا يبدو لها, تجد الأم ليليا نفسها في احد الكباريهات. وإذا بعالم جديد جذّاب ومحيّر ينفتح امامها, انه عالم الليل والرقص والملذّات.

مجال للتجاوز

وعن اختيار الكباريه كمجال للتحرر تقول المخرجة رجاء العماري: "إن فضاء الكباريه هو مجال للتجاوز, وفي إطاره تتوصل ليليا الى اقاصي طاقتها. تذهب الى الأبعد, وتخترق مرحلة جديدة في كل مرة, لتبلغ حد الانزلاق, ثم تعود وتتحكم في مسار الأشياء مجدداً...". وتؤكد المخرجة: "ان فكرة التجاوز هذه تهمني جداً".

من خلال الرقص تكتشف ليليا من جديد شهواتها الدفينة تحت ركام من الواجبات التي امتدت اعواماً عدة. وإذا بها تتحول من ام "مثالية" الى امرأة ليل, بل انها تعيش حال انفصام بين الليل والنهار: الليل للكباريه والنهار للواجبات البيتية. وعن هذا التناظر بين عالم الليل وعالم النهار تقول المخرجة: "عالم النهار انضباطي, مهيمن, مكتسح, يغلب عليه الحياء. وعالم الليل متساهل, هامشي, خليع. أردت اجراء مقابلة بين هذين العالمين من خلال شخصية امرأة عادية لأنهما عالمان يُفترض انهما لا يتقابلان ابداً في مجتمعاتنا التقليدية حيث يُنظر للكباريه كمكان مشبوه ومهيأ للانحراف وفساد الأخلاق".

ما تتوصل إليه بطلة الفيلم في هذا التأرجح بين عالمين يحقق لديها نوعاً من التوازن, وصولاً الى تحولها الى راقصة "من الدرجة الأولى", على رغم انها لم تسعَ الى ذلك. وإذْ ترفض كل عروض الرجال من مرتادي الكباريه فإنها ترتبط بعلاقة عاطفية مع عازف "الدربكة" او ضابط الإيقاع في الفرقة.

بين الأم والابنة

وكما في المسلسلات التي أدمنت مشاهدتها تكتشف الأم في ما بعد ان عشيقها شكري هو ذاته صديق ابنتها الذي يتقدم لخطبتها. فتتقبل الأم الأمر الواقع وتتعامل معه بأريحية, بعيداً من التعقيدات الميلودرامية, داعية كل راقصات الكباريه الى حضور حفلة الزفاف.

وبذلك تبرهن على الحياة المزدوجة التي قد يعيشها كل فرد, كما هو شأن العلاقة بين الرجل والمرأة. وترى المخرجة ان هذا الأمر مرتبط اساساً بالمجتمعات العربية و"قوانينها الاجتماعية المجحفة" إزاء العائلة والمرأة ومكانتها. لذلك جعلت بطلة فيلمها تؤدي هذا النمط من السلوك لشعورها العميق بهذا الواقع. فهي تزوج ابنتها ضمن هذا الرياء, وبحضور رواد الملهى وكذلك جاراتها وعائلتها. وتخرج الأم من هذه التجربة بنوع من التحرر النفسي والاجتماعي متخلصة من عزلتها.

أدّت دور الأم بمهارة الممثلة هيام عباس ذات الرصيد المتميز في الأداء, إذ مثّلت في افلام سينمائية عدة منها "حيفا" لرشيد مشهراوي (فلسطين) و"العيش في الجنة" لبورلام غردجو (فرنسا) و"الخط 209" لبرنار دومون (فرنسا), و"علي, ربيعة والآخرون" لأحمد بولان (المغرب) و"عصر القطران" لدنيس شوينار (الكيبك) وغير ذلك من الأفلام... كما قدمت للتلفزة "ليلة المعجزة" لآريان منوشكين و"كان يا ما كان كانت دنيازاد" لمرزاق علواش". كما أخرجت شريطاً قصيراً بعنوان "الخبز" سنة 2000.

نهاية الفيلم تلوح غامضة نوعاً ما, غير ان الأم ليليا تعود الى حياة الانضباط حالما تزوج ابنتها. وتفسّر المخرجة ذلك بالإمعان في الرياء الاجتماعي, اي ان الهدف من انضباط الأم هو المحافظة على زوج ابنتها شكري. وبالتالي فإن كل ما يبدو خضوعاً واستسلاماً ما هو في حقيقة الأمر إلا "غطاء اجتماعي".

في المقابل يبدو عالم الرجال الذي تتحرك فيه البطلة عالماً صامتاً. وتبرر المخرجة ذلك بالقول: "لم أكن أنوي إنجاز فيلم تمثل فيه النساء فـــقط. لكن, بما ان الشخصية الأســـاسية في الفيلم هي امرأة فقد جاءت العلاقات انثوية بالضرورة. غير ان الرجل يبقى محور اهتمام النساء. والرجال موجودون على امتداد احداث الفيلم. وعلى رغم قلة كلامهم فهم يشكلون مركز الحكاية باعتبارهم المحرّك الأساسي لها".

الفيلم, كما هو شأن الأفلام التونسية عادة, جاء ضمن انتاج مشترك وتمويل من جهات عدة منها قناة "آرتي" الفرنسية, و"كنال بلوس" وصندوق الفرنكوفونية للإنتاج السمعي البصري, وغيرها. كما ساهم تقنيون اجانب في الإخراج والتصوير والصوت والمونتاج والمكساج والأزياء.

جريدة الحياة في  9 أبريل 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

رجاء العماري

عالمان من خلال اناس عاديين

محمد علي اليوسفي