شعار الموقع (Our Logo)

 

 

لم يكن هناك من فيلم يمكن ان يخطف الاوسكار من »سيد الخواتم: عودة الملك« أكثر حظا من فيلم كلينت ايستوود الاخير »ميستك ريفر: النهر الغامض«.

الامر لا يعود لذلك الاحتفاء الكبير الذي تلقاه الجمهور والنقاد على حد سواء وجعله أحد افضل افلام العام في في أكثر من مائتي قائمة، متصدرا احدى واربعين قائمة منها افضل افلام السينما العالمية في اشهر قوائم السينما على الإنترنت وفق تصويت الزوار.. وليس لتلك الجوائز التي استحقها الفيلم او رشح لها في عدد من المهرجانات والجوائز العالمية وأهمها جوائزه الست في الاوسكار..وانما الأمر يتجاوز ذلك الى طبيعة الفيلم والقيمة الفنية التي يتضمنها بأبعاده النفسية والانسانية. فقد اصبح من المعتاد ان تلك الأفلام التي تنطلق من قصة اعتيادية او مكررة لتقدمها بطريقتها الخاصة في شكل تجديدي تفرض نفسها بقوة على خريطة الفن السينمائي.

والفيلم فيه من هذا الشيء الكثير. فهو يتكئ في بدايته على حادثة جريمة لاتبدو للمشاهد غير مسبوقة، لكنها هي الخلفية الأساسية التي ينطلق منها مخرج الفيلم الى اعماق شخصياته وسط سرد نفسي متماه مع اثارة الكشف عن الجريمة.

من جهة أخرى يمكننا اعتبار هذا الفيلم هو النجاح الكبير الأخير لمخرجه كلينت ايستوود بعد فيلمه الشهير »غير مسامح«، أحد افضل أفلام الوسترن بعد مجموعة من الاعمال السينمائية التي قام باخراجها ايضا تتجاوز عشرين فيلما حظي بعضها بتقدير جيد.

الفيلم أيضا يسجل تجربة جديدة ناجحة لكلينت ايستوود حينما وضع هو بنفسه موسيقى الفيلم التي تميزت بجمال هادئ معبر عن طبيعة الفيلم وممتزجة بوقائعه بشكل محفز لوجدان المشاهد.

يفتتح الفيلم اول مشاهده في اوائل السبعينات، حيث الحي الهادئ الذي يعبر ببساطته وتشكلات شوارعه ومنازله عن طبيعة حميمية لسكانه.

ثلاثة من الاطفال (جيمي، شون، ديف) يلعبون في الشارع ثم ينصرفون الى العبث بمسطح اسمنتي على الرصيف وكتابة اسمائهم عليه، وقبل أن يكمل (ديف) كتابة اسمه تقف بالقرب منهم سيارة ويترجل منها احد الاشخاص موهما لهم بسلطته على هذا الحي وقدرته على محاسبتهم ويقوم بخطف (ديف) مع رجل آخر أكبر سنا ويقومان بحجزه والاعتداء عليه جنسيا لمدة اربعة أيام قبل أن يهرب بجرح عميق أورثه العزلة حتى عن اصدقائه.

ثم يعود بنا المشهد مرة أخرى مع »ديف: تيم روبنز« بعد ثلاثين عاما وهو يحدث ابنه في الشارع حتى يقف أمام ذلك المسطح الاسمنتي مستعيدا تلك الذكريات الحزينة وهو يقرأ أسمه الذي لم يكمل كتابته حينها.

يبدو (ديف) زوجا هادئا، لكنه لا يستطيع اخفاء ملامح الكآبة والاحباط اللذين يعبران عن عمق جرحه القديم، وهذا ماينعكس على حياته وعلاقته مع زوجته (مارشيا غاي هاردن) ويجعله في حالة من الحزن والحيرة »لاحقا وحينما يتسلم تيم روبنز الاوسكار بجدارة عن دوره هذا يتحدث مدينا العنف الجسدي وداعيا الى عدم الخجل من طلب المساعدة لكل ضحية«.

»جيمي: شون بين« اب حان يدير محلا تجاريا ويقدم مشاعر كبيرة من الحب والعطف على زوجته (لورا ليني) وابنته من زوجته الأولى. يبدو في ظاهره شخصا قويا وصارما الا ان هذه النفس ستنكشف عن ألم وضعف حتى افشاء الحزن حينما تقتل ابنته. كم كان مؤلما في موقفه حينما يخاطب (ديف) بعد مقتل ابنته قائلا : ابنتي الصغيرة، ولا استطيع حتى أن ابكيها.

»شون: كيفن بيكون«، محقق في الشرطة لايعيش حياة مستقرة وهو ينتظر بشوق ان تعود اليه زوجته التي ترفض حتى محادثته عبر الهاتف.

يسوق القدر هؤلاء الثلاثة ليجتمعوا من جديد بعد ان اكتفوا بعلاقتهم اثر حادثة الخطف الرهيبة بمجرد البسمة الباردة وتبادل التحية عند لقاءاتهم العابرة في الحي كما يقول (شون) لصديقه المحقق الآخر »وايتي: لورينس فيشبورن«، حيث توكل مهمة التحقيق في مقتل ابنة (جيمي) الى (شون) في حين ان (ديف) يأتي كاحد المتهمين بسبب بعض الدلائل. وسيكون المحقق (شون) مضطرا للتعامل عن قرب مع اصدقاء طفولته من دون ان ينسى ذلك الجرح الذي فرقهم. وهنا نجد المخرج كلينت ايستوود وبذكاء شديد مستعينا بكاتب السيناريو (برايان هيلجيلاند: وتعاون سابق مع ايستوود في فيلم بلود وورك) يضع المشاهد وسط تحفز كبير لاكتشاف الجريمة وتعاطف أكبر مع شخصيات الفيلم وكشف علاقاتها. ومن جهة أخرى يمكننا اعتبار الفيلم أنه فيلم أداء من الدرجة الأولى ابتداء من مخرجه وطريقة معالجته لفكرة الفيلم حينما يوحي بما يمكن أن يصنعه الشر والسلوك الاجرامي حتى لغير المتضررين منه بشكل مباشر، حيث يغتال لحظات السعادة عند الجميع ويبقي جرحه غائرا.. يقول المحقق (شون) لصديقه (وايتي) ان حياة الجميع تغيرت منذ ان ركب (ديف) تلك السيارة!، ومرورا بالسيناريو الرائع الذي كتبه بتماسك برايان هيلجلاند معتمدا على رواية شهيرة كتبها دينيس ليهان واستحق فيها برايان ترشيح الاوسكار الثاني، وكان قد حصل عليه في المرة الاولى عن سيناريو فيلم »لوس أنجليس: سري«.. وانتهاء بمجموعة النجوم التي أدت دورها باتقان وتناغم كبيرين ترشحت فيه »مارشيا غاي هاردن« للمرة الثانية بعد ان كانت قد حصلت على الاوسكار قبل ثلاث سنوات عن دورها في فيلم (بولوك) واستحق فيه (شون بين) اوسكاره الأول الذي جاء متأخرا بعد ثلاث ترشيحات أهمها في فيلم (رجل ميت مقبل) وأخرجه حينها (تيم روبنز) نفسه مترشحا للاوسكار لاول مرة. وربما هذا الاستحقاق هو ماجعل الحضور يطيل الوقوف والتصفيق لشون حين تسلم جائزته.

في الأخير فان فيلم »النهر الغامض« يتجاوز بقدرة مخرجه افلام الجريمة الاعتيادية ليقدم نفسه كفيلم دراما نفسية تعيد الحديث حول علاقة الانسان بما حوله ومدى اختلال الانسجام الاجتماعي حينما تظل جراح النفوس غائرة تلقي بأثرها على الجميع.


الشرق الأوسط

الأيام البحرينية في  6 أبريل 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"النهر الغامض" حيث لاشيء يخفي الألم!

فهد الأسطا