شعار الموقع (Our Logo)

 

 

في فلمه الجريء التكوين "المريض الانكليزي"، يخلق المخرج والكاتب انتوني منغيلا عالماً غنائياً تتراقص خلاله اسئلة دوّامية عن موضوعات (Themes) الهوية، الاخلاص، المصير. هذه الاسئلة التي تعمل على إعادة تشكيل تضاريس الذاكرة، كما الرياح الغامضة التي تسري وتجرف (Sweep)، فتعيد تشكيل الكثبان الرملية في الصحاري الشمالية. 

ومثل الرواية الرائعة للكاتب مايكل اونداتي التي بُني عليها الفلم، فان فلم منغيلا يأخذ شكلاً موزاييكياً (منمنماتي) في تركيبه، مبتعداً عن السرد التقليدي الخطي. وكذلك، فأن الموسيقى الآسرة لغابرييل ياريد تصوغ او تشكِّل عالمها الخاص الشبيه بالأحلام، المكون من أغان والحان مختلفة ظاهرياً - مثل الألحان الفلكلورية الهنغارية، وثيمات من موسيقى الباروك، بالاضافة الى القطع الاوركسترالية الرومانتيكية الكثيفة، وغيرها من قطع موسيقى الجاز الراقصة، التي تلعب مع بعضها البعض خلال مسيرة الفلم، ما يشبه لعبة الاستغماية (Hide and Seek).

هذه الموسيقى الملعوبة بأناقة من قبل "اكاديمية سانت مارتن في الحقول" ،مع عازف البيانو "جون كونستابل" والمغنية "مارتا سيباستيان"، تحت قيادة المايسترو "هاري رابينوتز"… هذه الموسيقى الاصيلة تنفخ الروح والحياة في عواطف وآلام وانفعالات الشخصيات، التي يخلقها اونداتي (الكاتب) ومنغيلا (المخرج)، لكن من دون ان يلتزم ياريد (الموسيقي) تماماً او حرفياً بأفعالهم وتصرفاتهم المباشرة. وبإضافة مواد موسيقية من فترة الاربعينات مثل الأداء أو التفسير المختلف من قبل فريد أستير وإيلاّ فيتزجرالد لأغنية (Cheek to Cheek)، وموسيقى (Wang Wang Blues) وغيرها من القطع الراقصة، فان الشريط الصوتي لفلم المريض الانكليزي يحكي روايته او رؤيته الخاصة عن الحرب العالمية الثانية، حسب رأي المخرج منغيلا. 

يقول منغيلا:"ان ياريد المولود في لبنان والذي يعيش في فرنسا، هو الشخص الأول وكذلك الوحيد، الذي كان في ذهني لوضع موسيقى الفلم". وكما في الموسيقى التي كتبها لبعض من أجمل الأفلام الفرنسية مثل (Betty Blue) للمخرج جان جاك بينيكس، وفلم (The Lover) للمخرج جان - جاك آنود ، فان حساسية ورقة مشاعر يارد، تداخلت مع حاجة منغيلا لموسيقى فلمية ذات طابع مرن وانتقائي – من مصادر وبيئات مختلفة، تقليدية وباروك وجاز وكلاسيك وغيرها.

ان منغيلا نفسه موسيقي سابق، ومارس العمل الموسيقي لسنوات، وبالتالي فإن اهتماماته الموسيقية في الافلام أعمق وأشمل من ان تكون فجائية او وليدة المصادفة، وهذا يظهر بوضوح في فلمه الاول المنتج في عام 1991 "Truly , Madly, Deeply". والحقيقة، ان منغيلا وضع يارد أمام تحديات محددة وواضحة، عندما دعاه لوضع موسيقى الفلم. اذ ان الفلم تدور احداثه بين ايطاليا وشمال افريقيا، لكن الجذور الجغرافية والثقافية لشخصيات الفلم ابعد من ذلك، اذ تتراوح بين ان تكون كندية وبريطانية ومصرية وهنغارية وهندية. وكما يقول منغيلا:" كنا نحاول عمل فلم احدى قدميه في اوروبا والاخرى في إفريقيا. وكما ان الفلم يلاعب الموضوعات القومية والوطنية في تلك المرحلة الحرجة من الحروب القومية الشاملة، فقد فكرت ان الموسيقى يجب ان تداعب او تلاعب هذه الموضوعات أيضا. والحقيقية ان اول فكرة خطرت لي، صوت امرأة ترثي وتتفجع (بدون مصاحبة موسيقية)، مع منظر للصحراء من الجو". وعندما بدأ منغيلا كتابة السيناريو، كان منكباً على سماع موسيقى وأغان هنغارية تقليدية لفرقة (Musikas)، وكان مأخوذاً بالصوت الساحر لمغنيتهم الرئيسية مارتا سيباستيان، لذا اصبح صوتها هو الصوت النسائي المميز الذي يرثي ويتفجع في مطلع الفلم، كما ان الفرقة تؤدي في الفلم نسختها او تفسيرها الخاص، لأغنية مجرية تقليديةSzerelem, Szerelem أو (Love Love)، التي ستصبح معلماً مهما في الشريط الصوتي للفلم. "إنها تبدو عربية للوهلة الأولى" يلاحظ منغيلا، "لكن عندما تشاهد الفلم، يصبح واضحاً ان هذا الصوت الذي يربطه المشاهد دائماً بالصحراء، هو بالحقيقة مجريّ، مثلما ان المريض الانكليزي هو مجريّ أيضا"، ومثل أشياء كثيرة يتصور المشاهد انها شيء محدد في الفلم، لكنها تتحول لاحقاً الى شيء اخر.

علامة فارقة أخرى في موسيقى الفلم يضعها منغيلا بنفسه، موسيقى (ِAria) لباخ من منوعات غولدبيرغ، التي تعزفها على البيانو العازفة "جولي ستاينبرغ"؛ إذ  تقوم "هانا" التي تلعب دورها جوليت بينوش بعزف هذه الموسيقى عندما تعثر على البيانو في الدير، ويقول منغيلا:"ان هذه هي موسيقاي المفضلة في كل الأوقات".

وهكذا وُضع يارد بين شقي او حدي المعادلة الصعبة، Szerelem التقليدية الشرقية و Aria الكلاسيكية الغربية. اذن كل شيء في موسيقى يارد يجب ان يتموضع بين هاتين العلامتين الفارقتين او الدعامتين البارزتين، وحسب كلمات منغيلا:" لقد كان تحديا صعبا وملتويا، ولكن في النهاية اعتقدت ان يارد كان قادراً تماماً على انجاز العمل". بدأ يارد يعمل مقترباً من منغيلا وفريق العمل - يقرأ السيناريو، يحضر مشاهد التصوير الاولى، يزور المواقع  المختلفة، ويراقب التجارب الأولى للتصوير. لاحقاً، استطاع يارد ان يخلق شبكة معقدة من التكوينات الموسيقية او (الألحان)، التي تُمسك في آن واحد، بالطبيعة الانطباعية لتكوين الفلم وكذلك بالمحتوى العاطفي للعلاقات المركزية فيه.

يقول منغيلا عن هذه الفترة:"كان هناك إحساس غير عادي، باتصالنا مع بعضنا وارتباطنا روحياً". وقد امتد الارتباط الى المنتج ساول زاينتز منتج أفلام مثل اماديوس، ومونتير الفلم والترمرج ، وزوجة منغيلا كارولين شوا، التي قامت بتصميم المشاهد الراقصة ودربت الراقصين، واقترحت بعض الالحان الراقصة، إضافة الى الروائي اونداتي الذي كان قريباً جداً من الطاقم. ومع ان الفلم يدمج العواطف الأوبرالية لقصة الحب العاصف بين الكونت المازي (الذي يلعب دوره الممثل رالف فينيس) وكاثرين (التي تلعب دورها الممثلة كريستين سكوت توماس)، مع البساطة الباروكية لمشاهد ومناظر الدير، إلاّ ان موسيقى يارد تتحرك بطريقة سلسة ومتفرّدة مثل الفلم تماماً… اذ تشكِّل او تكِّون الموضوعات او الثيمات الاساسية، ثم تسمح للثيمات بالنمو والتطور، بالتداخل والتضافر مع بعضها، واخيراً بالانحلال والتفكك. هذا التناظر بين العمل السينمائي والعمل الموسيقى، يفسر لنا كلام منغيلا الذي يعتقد بانه يجد دوافعه وحوافزه للعمل السينمائي في الاشكال الموسيقية المختلفة، اكثر مما يجدها في طرق السرد التقليدية للفن القصصي. وبموازة هذا، وعند كتابة موسيقى المريض الانكليزي، فاننا نلاحظ ان يارد يتتبع بمرونة عالية (الى حد عدم الالتزام أحيانا)، المشاهد والصور الواضحة على الشاشة (التي يخلقها منغيلا وممثلوه)… في حين انه – يارد - يقترب كثيراً من الظلال تحت الجلدية للمشاعر والدوافع الانسانية لشخوص الرواية، وفي هذه العملية يخلق عملاً موسيقياً متفرداً، عملاً يتعذر محوه او تجاهله من الذاكرة السينمائية.

والجدير بالذكر، ان الشراكة الإبداعية بين منغيلا وياريد لم تنقطع أبدا، إذ قام الأخير بكتابة الموسيقى لفلمي منغيلا التاليين، "السيد رايبلي المدهش" و"الجبل البارد"؛ اللذين ترشحا للعديد من جوائز الأوسكار، ومن بينها جوائز أفضل موسيقى لياريد.

وأخيراً، يضيف منغيلا:" ان الالحان الفلمية التي احببتها دوماً، هي مثل تلك التي يصنعها اينيو موريكيوني او نينو روتّا، كل ما عليك هو ان تذكر اسم الفلم؛ فتبدأ الموسيقى باللعب في رأسي". ولسنوات قادمة، سنبقى شاكرين ليارد الحانه وموسيقاه غير القابلة للنسيان، اذ سيستمتع الناس في كل مكان بنفس الاستجابة الموسيقية التلقائية كلما ذكر اسم المريض الانكليزي. 

leoman572001@yahoo.com

موقع "إيلاف" في  2 أبريل 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

الشريط الصوتي والموسيقي لفيلم

"المريض الانكليزي"

يوخنا دانيال