شعار الموقع (Our Logo)

 

 

يمثل فيلم "الحب فى حقيقة الأمر"، لكاتب السيناريو والمخرج البريطانى ريتشارد كيرتس، فرصة لم تعد متاحة للجمهور العربى إلى حد بعيد، الذى اعتاد مع الأفلام الأجنبية أن تكون فى الأغلب الأعم منتمية إلى السينما الأمريكية، والهوليودية منها على نحو خاص، ومن خلال هذه السينما تشكل "الذوق" الذى تقاس به الأفلام، حتى أن ذلك يظهر فى بعض الكتابات النقدية التى تبدو كأنها جادة، بحيث نقع دائما أسرى لإبهار السينما الأمريكية ونكيل المديح لأفلام مثل" سيد الخواتم" أو "الساموراى الأخير" أو "الجبل البارد" بينما ينتقدها النقاد الأمريكيون أنفسهم ويكشفون عن جوانبها السلبية، وهو ما يعنى أننا لا نستطيع فى اغلب الأحوال أن نفصل بين "البهلوانيات" التقنية المبهرة، وبين أن يكون هذا الإبهار ذاته هو الرسالة والوسيلة فى آن واحد للتسلل إلى وجدانك وعقلك، ولكن الأمر يختلف تماما مع الفيلم البريطانى "الحب فى حقيقة الأمر" الذى قد تنفر منه فى البداية، لكنك بقليل من التأمل سوف تكتشف انه يمثل "ذوقا" مختلفا من السينما، فانتماء هذا الفيلم للكوميديا لن يعنى انه سوف يجعلك تنفجر فى كل دقيقة ضاحكا لكنه سوف يترك على شفتيك بعد مشاهدته ابتسامة هادئة، وكونه فيلما رومانسيا لن يدفع الدموع للانهمار من عينيك وإنما سوف يبعث فى روحك قدرا من الشجن تمتزج فيه الحلاوة والمرارة، والأهم من ذلك كله انه لن يحكى لك أى حكاية، لها بداية ووسط ونهاية، لكنه سوف يفتح لك نافذة تطل منها على العالم، لتختار بنفسك من بين الحكايات، التى يقدمها، أكثرها اقترابا من قلبك.

ليس هذا "فى حقيقة الأمر" مديحا نقديا نبدأ به قبل أن نمضى فى تأمله، والفيلم على أية حال لا يخلو من مواطن القوة والضعف، لكننا بهذه المقدمة نحاول أن نتلمس القصد الفنى الذى أراده صانع الفيلم ريتشارد كيرتس -مؤلفا ومخرجا- لنعرف بعد ذلك مدى نجاحه فى تحقيق هذا القصد، ولنبدأ مع عنوان الفيلم "الحب فى حقيقة الأمر"، والذى يمكن لك أن تدرك منذ الوهلة الأولى انه يشكل جملة ناقصة، يمثل فيها الحب "المبتدأ" ليترك لك الفيلم تحديد "الخبر" الذى تريده بعد أن تشاهد الفيلم، وان كان يتقرح عليك فى المشهد الافتتاحى بقية الجملة، بأن "الحب فى حقيقة الأمر" فى كل مكان من حولنا، لكنها الجملة التقريرية الساذجة والصادقة فى آن واحد وان كانت لا تقول شيئا محددا، خاصة انك تسمعها فى تعليق من خارج "الكادر"، بينما ترى على الشاشة بعض لقطات تسجيلية من صالة مطار "هيثرو" القريب من لندن حيث نتأمل أناسا حقيقيين من واقع الحياة، يودع بعضهم البعض وقد حانت لحظة الفراق، فتدرك بالفعل أن الحب يتخلل كل العلاقات الإنسانية، ويتخذ لنفسه أشكالا شتى بين أفراد الأسرة أو الأصدقاء أو العشاق، ويتراوح بين السعادة والشقاء.

لا تنتظر إذن أى "حدوتة" من هذا الفيلم، وان كان يحتشد بالحواديت التى لا يجمع بينها سوى أنها "تنويعات على لحن الحب"، وهو شكل سينمائى قد يبدو غريبا علينا الآن لكن جذوره تعود إلى الستينات والسبعينات، فى معالجات تتفاوت بين واقعية روبرت اولتمان، وسريالية لوى بونويل، وقد يتصور البعض أن هذا البناء السردى المكون من فقرات لا تربطها إلا صلة واهية هو بناء يتسم بالسهولة، ولعلك تلاحظ ذلك فى بعض أفلامنا العربية فى الفترة الأخيرة، حيث تصبح الأفلام مجرد "نمر" منفصلة لا يكلف كاتب السيناريو نفسه كثيرا عناء البحث عن رابط حقيقى بينها إلا فكرة "الرحلة على الطريق"، أو باختراع شخصية تبحث عن شيء ما أو يفرض عليها عملها التنقل من مكان إلى آخر، لكن فيلم "الحب فى حقيقة الأمر" لن يلجأ فى جمع شذرات حكاياته إلا لبعض خيوط شفافة، أو إلى الحيلة التقليدية بأن ينتهى الفيلم فى مشهده الأخير فى مطار "هيثرو" مرة أخرى، حيث سوف نتعرف هذه المرة على شخصيات الفيلم -الذين رأيناهم سابقا- وقد تناثروا فى زحام الناس القادمين من واقع الحياة، وكأن الفيلم بتلك الحيلة يضع كل حكاياته بين قوسى البداية والنهاية.

لقد سبق أن صارحتك بأن الفيلم لن يحكى لك حدوتة متكاملة، وإنما هى مجموعة من الحواديت التى لا يمكن تلخيص تفاصيلها، ولن تغنيك عن مشاهدة الفيلم ومعايشة شخصياته، لكننا سوف نحاول هنا أن نقترب قليلا من لوحة الفسيفساء التى تدور فى مدينة لندن وهى تستعد للاحتفال بأعياد الميلاد وتبدأ فى ارتداء زينتها، لينتهى الفيلم عند الذروة -أو الذروات- الدرامية بلحظة الاحتفال. إن الفيلم ينتقل من شخصية إلى أخرى، وسوف تنتقل معه -دون التقيد بالتتابع على الشاشة- بين هذه الشخصيات، هناك المغنى الكهل بيللى مالك "بيل ناي" الذى كان شهيرا فى سالف الأيام ثم أضاعه إدمان المخدرات -يمكنك فى الحقيقة أن ترى فيه بعض الشخصيات الحقيقة من عالم غناء البوب- وها هو يحاول الآن أن يعود إلى دائرة الضوء من خلال إعادة كتابة كلمات وتوزيع أغنية قديمة، ولا يخجل من أن يصرح أمام الجميع أن أغنيته لن تكون إلا مجرد "هراء" لكنه يطمح إلى اعتلائها قائمة الأغنيات الشهيرة، هناك أيضا العروس جولييت "كيرا ناتيلي" وعريسها "شيوتيل ايجيوفور"، لكن العروس تكتشف أن صديق زوجها المقرب مارك "اندرو لينكولن" يحبها فى صمت ويرضى فى النهاية بأن يحتفظ بحبه فى قلبه بدلا من أن يحطم قلب صديقه أو يخونه.

وربما كانت اكثر حكايات الفيلم لمعانا هى حكاية رئيس الوزراء البريطانى الأعزب "هيوجرانت" الذى يقع فى يومه الأول فى الحكومة فى هوى فتاة الشاى ممتلئة الجسد ناتالى "مارتين ماكتشيون"، لكنه يصطدم بالرئيس الأمريكى المتغطرس "بيللى بوب ثورنتون" الذى يبدو مزيجا من جورج بوش الصغير وبيل كلينتون، فيحاول فى وقاحة أن يغازل الفتاة ناتالى دون أن تخطئ عين المتفرج وجه الشبه بينها وبين مونيكا لوينسكى. أما كارين "ايما تومسون" شقيقة رئيس الوزراء، فهى الزوجة والأم التى وصلت إلى منتصف العمر، والتى تعانى من أن زوجها هارى "ألان ريكمان" بعد خمسة عشر عاما من الزواج يقع شيئا فشيئا فى فخ الانجذاب الجنسى الذى تنصبه له سكرتيرته اللعوب ميا "هايكى ماكاتش"، وها هى سارا "لاورا ليني" الموظفة الأمريكية لدى هارى، تعانى من الوحدة وتجد الدفء العاطفى فى ميلها الصامت تجاه زميلها فى العمل كارل "رودريجو سانتورو" لكنها لا تستطيع أن تمضى فى حبها بسبب ضرورة بقائها إلى جانب شقيقها المعاق ذهنيا.

وفى تناقض مذهل ترى التناقض بين الرومانسية الناعمة والجنس الملتهب فى حكايات أخرى، إن كاتب الروايات البوليسية جيمى "كولين فيرث" يفاجأ بخيانة صديقته مع شقيقه، فينسحب إلى مكان منعزل فى جنوب فرنسا حيث تقوم على خدمته مديرة المنزل البرتغالية اوديليا "لوسيا مونيز" ورغم أن كلا منهما لا يعرف لغة الآخر "المنطوقة" فإن التواصل العاطفى الحميم يجمع بينهما دون كلمة أو إيماءة جنسية واحدة، أما الأرمل دانييل "ليام نيسون" الذى فقد زوجته منذ فترة وجيزة فإنه يجد نفسه مضطرا لرعاية ابن زوجته الراحلة سام "توماس سانجستر" الذى لم يتعد الحادية عشرة من عمره، وها هو زوج الأم يحاول أن يساعده فى فهم مشاعره العاطفية والجسدية تجاه زميلته فى المدرسة، على النقيض، فإن الفتى كولين "كريس مارشال" يقرر الذهاب إلى أمريكا باحثا عن الغانيات ليشبع نهمه إلى الجنس فى الحانات الأمريكية، وهو على يقين من أن لكنته الإنجليزية سوف تجذب إليه كل النساء (من الطريف أن ذلك يتحقق بالفعل فى الفيلم!)، لكن اكثر العلاقات غرابة وعذوبة فى آن واحد، فهى تلك التى تربط بين جون "مارتين فريمان" وجودى "جوانا بيج"، اللذين يقومان بأدوار بديلة فى فيلم جنسى فاضح، ورغم أن جسديهما يتلاقيان تحت الأضواء فإنهما يكتشفان أن الحب الحقيقى يجمع بينهما، فيتم التعبير عنه بقبلة فوق الخد!

لا يخلو الفيلم -رغم هذا الحشد من الحكايات- من لحظات قليلة من التأمل العاطفى العميق، مثل لحظة مرارة وحزن الزوجة ايما تومسون عندما اكتشفت خيانة زوجها، لكنها تخفى ألمها لتشارك أسرتها فرحة العيد، أو تعبير الصبى عن حزنه لفراق زميلته بسبب ذهابها إلى أمريكا قائلا: "هذه إذن هى نهاية الحياة"، ناهيك عن كل المشاهد الساخرة التى يظهر فيها مغنى "البوب" الذى ينصح الشباب فى أحد لقاءاته التليفزيونية: "لا تشتر المخدرات"، لكنه يضيف: "يكفى أن تصبح مغنيا للبوب وسوف تأتيك المخدرات مجانا"! ولتتأمل أيضا تلك السخرية السياسية فى موقف الرئيس الأمريكى من مغازلته موظفة مكتب رئيس الوزراء البريطانى، إن الرئيس الأمريكى يمضى فى خطبة متعجرفة حول قيادة أمريكا للعالم وضرورة تبعية بريطانيا لها، لكن رئيس الوزراء البريطانى يفاجئ الجميع برفضه الإذعان، فلا تدرى إن كانت السخرية من أن الحفاظ على كرامة بريطانيا ينبع من الصراع حول امرأة، أم أنها سخرية اكثر مرارة من موقف بريطانيا المتخاذل فى الأمور السياسية والعسكرية.

"فى حقيقة الأمر" سوف يختلف موقف المتفرج من فيلم "الحب فى حقيقة الأمر" بين حكاية وأخرى، ومن الطريف أن النقاد الأمريكيين أنفسهم قد اختلفوا إلى حد التناقض المثير للدهشة، فقد يرى البعض فى حكاية ما نوعا من الحساسية المرهفة، بينما يرى آخرون أن نفس الحكاية تتسم بالسخف والغلظة الشديدين! إن الفيلم يعيد إلى الأذهان تلك الفكرة "النظرية" حول مدى إيجابية المتفرج فى تفاعله مع ما يراه على الشاشة، حيث يتعمد الفنان أن يترك مساحة فارغة يملأها المتفرج فيما يشبه تلك الألعاب السيكولوجية التى تكشف للإنسان عن حقيقته من خلال اختياراته، وهذا هو مصدر قوة الفيلم ونقطة ضعفه على السواء لأن الفنان لم يتركنا نتمتع بحرية الاختيار بلا حدود، فهو الذى انتقى من الحياة بعض حكايات وأهمل أخرى، وهو الذى توقف متأملا متمهلا عند حكاية بينما مر بشكل عابر على حكاية ربما كانت تمثل لنا أهمية اكبر، وهو الذى جرد كل تلك الحكايات من أى سياق اجتماعى أو اقتصادى -مثلما فعل فيلم "سهر الليالي"- ليظل "الحب" بتنويعاته المختلفة طافيا فوق سطح الحياة، دون أن يعبأ أى من الشخصيات بالمشكلات اليومية الواقعية التى تمارس -بالتأكيد- دورها فى تشكيل نظرتنا إلى الحب.

من جانب آخر، فإن بعض حكايات وشخصيات الفيلم تبدو كأنها خرجت من "المسودات" القديمة لأفلام سابقة كتبها ريتشارد كيرتس أو شارك فى كتابتها، مثل "أربع زيجات وجنازة" 1994 و"نوتينج هيل" 1999، و"يوميات بريدجيت جونز" 2001، بل أيضا من المسلسل الهزلى "مستر بين" الذى كان كيرتس يكتبه للمثل الكوميدى روان اتكينسون، الذى يظهر هنا فى مشهد اقرب إلى الاحتفاء به دون أن تكون له صلة درامية حقيقية بموضوع الفيلم، فى دور بائع الهدايا الذى يقوم بحركات مضحكة خلال قيامه بتغليفها، لقد لاحظ بعض النقاد أن بعض هذه الحكايات كانت تستحق فيلما مستقلا، أو أن الفيلم فى مجمله اقرب إلى الإشارة الإعلانية عن ثمانية أو تسعة أفلام منفصلة، لكن الفيلم يجمع بالفعل بين كونه نافذة مفتوحة على "جانب" من الحياة، وهدية تظهر فى ملصقه الإعلانى على هيئة صندوق كبير يضم العديد من النجوم، إن النافذة لم تتح لنا رؤية "الحب فى حقيقة الأمر" بكل أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وعرضت لنا الحب باعتباره أداة للقفز فوق حواجز اللغة والطبقة، أما الهدية فما إن تفتحها وتتذوق ما فيها حتى تجد أنواعا مختلفة من الحلوى ذات المذاق المعسول أو اللاذع، لكن السؤال يبقى حول إذا ما كنت قد شعرت بعد تناولها بالشبع الحقيقى!

العربي المصرية في  28 مارس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"الحب في حقيقة الأمر"

تسعة أفلام في فيلم واحد

أحمد يوسف