أينما حل فيلم "آلام المسيح" الذي أنتجه وأخرجه الممثل الأميركي ميل غيبسون, فإنه يثير مواقف وآراء, يساعد عليها موضوع الفيلم والاسلوب المعتمد في معالجته, لكنها تنبع اساساً من اعتبارات خاصة بالبلد الذي يعرض فيه. وأثبت هذا الفيلم صعوبة التعامل معه بتجرد مثله مثل أي عمل سينمائي, ربما بسبب العواطف التي يحركها والتي قد لا تكون على صلة بالهدف الذي أراده غيبسون من خلاله. والفيلم الذي يتناول الساعات الأخيرة من حياة السيد المسيح تحول الى محور تبرز من حوله حساسيات متفاوتة تجعله موضع تقبل أو رفض, وفقاً لطبيعة الطرف الذي يتفاعل معه. واللافت ان فرنسا حيث يعرض الفيلم في حوالى 600 صالة ابتدأ من 31 آذار (مارس) الماضي, لم تتفاعل معه, حتى الآن على الأقل ولم يواكب نبأ نزوله الى الشاشات الفرنسية, الصخب الذي كان متوقعاً له. لكن حلوله على الساحة الفرنسية بعد أن كاد ألا يوزع في تمّ في أجواء غير مألوفة, بعد عزوف كبار الموزعين عنه. ربما ان هؤلاء أساؤوا تقدير القيمة التجارية للفيلم والنجاح الذي حققه منذ عرضه في الولايات المتحدة وغيرها من الدول, لكنهم تأثروا بالتأكيد بسمعة "اللاسامية" التي اثيرت حوله في بعض الأوساط الأميركية, ففضلوا ادارة ظهرهم له. والواقع أن التشنج المخيم على فرنسا يتغذى عموماً من التطورات المأسوية للأوضاع الدولية, ويترسخ بصورة شبه منظمة بفعل أوساط يهودية نصبت نفسها رقيباً على العاملين في الحقل العام من سياسيين وصحافيين ومثقفين وفنانين. وحصرت هذه الأوساط بنفسها حق تقدير ما يمكن وما لا يمكن التعبير عنه في ما يخص اليهود عموماً واسرائيل تحديداً, وألصقت تهمة اللاسامية بأي شخص أو موقف أو عمل فني لا يتطابق مع نظرتها المتميزة. التونسي يتدخل ومن هذا المنطلق استلزم الأمر شخصاً بموقع أو مواصفات رجل الأعمال طارق بن عمار ليتجرأ على أخذ مسؤولية توزيع "آلام المسيح" في فرنسا على عاتقه. وبن عمار تونسي الأصل وإنما مولود في أسرة عريقة إذ تربى بجانب عمته السيدة التونسية الأولى السابقة وسيلة بورقيبة, وهو فرنسي وإنما يستند الى شبكة من الصداقات والعلاقات الأوروبية والدولية, تشمل مثلاً رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلوسكوني وأيضاً الأمير الوليد بن طلال وروبرت موردوخ. في الوقت نفسه, فإن بن عمار منتج سينمائي سبق ان انتج أفلاماً عدة تتناول الدين المسيحي, ويترأس حالياً مجموعة اعلامية سينمائية موزعة بين فرنسا وإيطاليا وتونس. هذه المزايا مجتمعة ربما جعلت بن عمار بمنأى عن الاستهداف والتحريض اللذين كان يمكن أن يتعرض لهما سواه. والتقت "الحياة" بن عمار الذي أوضح ان صداقته الشخصية بميل غيبسون واعجابه بموضوع الفيلم الذي كاد أن ينتجه لولا أحداث 11 أيلول (سبتمبر), ويقول انه يدعو الى المحبة والتسامح, حملاه على توزيعه في فرنسا وفي دول اوروبية شرقية وأخرى افريقية. وهنا نص الحديث: · ما هي قصة توزيع فيلم "آلام المسيح" في فرنسا, إذ قيل ان الموزعين الفرنسيين رفضوا توزيعه, في حين ان أحدهم وهو ماران كارميتز قال إنه لم يعرض عليه؟ - ان الروايتين صحيحتان ولا يسعني هنا سوى قول ما أبلغت به من جانب ميل غيبسون. فالفيلم عرض في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي على غالبية كبار الموزعين الفرنسيين مثل لوك بيسون و"باتي" و"إم جي سي", فحضر بعضهم وغاب آخرون, وصحيح ان كارميتز لم يدع الى العرض. وعندما سألت عن عدم دعوته قيل لي لأنه لا يهتم اعتيادياً بهذا النوع من الأفلام. وفي الحقيقة هو لا يوزع الا بعض الأفلام الأميركية الصغيرة المستقلة. أما الموزعون الذين عرض عليهم الفيلم فوجدوا انه ناطق بالآرامية وتواكبه سمعة العداء للسامية وان موضوعه قد لا يثير اهتمام الجمهور الفرنسي, ففضلوا عدم الاهتمام به. كارميتز لم يشاهده, لكنني عندما قررت توزيع الفيلم ارسلت إليه نسخة ليشاهده, لم يحبه وهذا من حقه. · وكيف دخلت انت على الخط؟ - ميل غيبسون صديقي الشخصي وكان جاء الى تونس في آب (أغسطس) 2001 عندما كان يعد لتصوير الفيلم. فروى لي نظرته والمعالجة التي يرغب باعتمادها لآلام المسيح فتحمست له. ومعروف انني انتجت اكثر من 60 فيلماً صورت في تونس ومنها أفلام عن المسيح مثل "يسوع الناصري" لفرانكو زيفيريلي, وغيبسون على علم بذلك. مثلما هو على علم بأنني منتج وأملك استوديوات في إمكاني أن أكون شريكاً في عمله. والحقيقة انني كنت مهتماً بالأمر وأبلغتـه بـذلك ووافق. فعمل غيبسون على اختيار الأماكن التي يرغب التصوير فيها وبدأت من جانبي تجهيز الأمور, فجاءت أحداث 11 أيلول لتـلغي كل شيء بسبب رفض شركات التأمـين الأميركيـة تأمـين أي نشاط في العالم العربي. فانتقل غيبسون لتصويـر الفيلم في ايطاليا, وأنتجـه بنفسـه بعد رفض شركات الانتاج الأميركية تمويله. · أنت إذاً معني بآلام المسيح منذ بداياته؟ - كنت منذ البداية على علم بالمشروع ومهتماً به. وخلال التصوير ذهبت الى روما والتقيت غيبسون من دون أن تكون بيننا أي شراكة. وفي أحد الأيام سمعت عبر "سي أن أن" بالضجة التي يثيرها الفيلم, فاتصلت بغيبسون الذي كان مستاءً من الهجوم الذي يستهدفه ومن تهمة العداء للسامية الموجهة الى فيلمه. فسألني: هل ما زلت تقيم في فرنسا هذا البلد العجيب؟ فأجبته لماذا؟ فقال لأن الموزعين الفرنسيين رفضوا الفيلم وقد لا أعرضه هناك لأنني سأقاطع فرنسا. فقلت له ان فرنسا ليست كما تعتقد, وأنا مستعد لتوزيع فيلمك, فأجابني فوراً أنت صديقي وطالما وثقت بي, سأعطيك الفيلم. تقديم الموعد · لم تكن تتوقع أن يؤدي اتصالك الهاتفي بغيبسون الى توزيعك الفيلم؟ - أبداً على الاطلاق. فأنا لم أتصل به للحصول على حق التوزيع. لكنني أبديت استعدادي لذلك بسبب معرفتي بغيبسون وثقتي بفيلمه الذي كدت أن أنتجه. ولم أكن أتوقع له هذا القدر من النجاح, لكنني كنت معجباً بموضوعه. وصادف انني كنت في صدد تأسيس شركة توزيع, ابتداء من تموز (يوليو) المقبل, لتوزيع حوالى 12 فيلماً انتجها وستنجز قريباً, وفيها نجوم مثل مايكل دوغلاس وسيلفستر ستالون وروبير دونيرو وغيرهم. فقررت تقديم هذا الموعد بحيث يكون فيلم غيبسون أول الأفلام التي أوزعها. وهذا ما حصل, فأصبحت موزعه في فرنسا وفي حوالى 15 بلداً آخر. · ألم تخش تعرضك لحملة في فرنسا جراء توزيعك الفيلم كونك تونسي الأصل ومسلماً؟ - لا لا, أنا أولاً على معرفة تامة بمكانة المسيح في الاسلام وبمكانة مريم العذراء وسبق لي أن أنتجت أفلاماً تتناول حياة المسيح. وأنا لست غريباً عن الدين المسيحي, والأفلام التي أنتجتها حول الموضوع صورت في بلد التسامح الذي تمثله تونس. اضافة الى ذلك, فإن زوجتي كاثوليكية وأمي كاثوليكية ووالدي مسلم. وفي اعتقادي انه كان يمكن أن تنشأ حملة لو أن موزع الفيلم كان يهودياً أو مسيحياً. ومن يشاهد الفيلم لا يسعه إلا أن يلمس انه ضد عدم التسامح وضد الأصولية وضد القسوة البشرية ويدعو الى المحبة والغفران. وكل هذا حال دون أن أتردد للحـظــة واحدة, خـصـوصـاً أنـه لم يـكـن لــدي أدنــى اعــتــقــاد بـأن غيـبـسون أنجـز فيـلماً معـادياً للسامية, ولم تراودني المخاوف التي راودت الموزعين الفرنسيين ولم أشعر انني أقدم على مجازفة. · هل تتوقع أن يلقى الفيلم في فرنسا القدر نفسه من الرواج الذي لاقاه في الولايات المتحدة؟ - لا أعرف. ففرنسا بلد علماني وعلاقة الفرنسيين بالدين لا تقارن بعلاقة الأميركيين به. أعتقد انه سيواجه قدراً من النجاح ولكن هل سيكون بمستوى نجاحه الأميركي, فهذا ما لا أعرفه. · من اللافت ان اعلانك عن توزيع الفيلم في فرنسا لم تواكبه أي ضجة إعلامية, كيف تفسر ذلك؟ - منذ أن أعلنت انني سأوزع الفيلم, لم يعلق أحد على الموضوع. لماذا؟ بتقديري انه بعد الصخب الذي أثاره, جاء شخص مسلم وتولى توزيعه واضعاً الجميع خارج اللعبة. فلو كان الموزع كاثوليكياً متعصباً أو يهودياً لاختلف الأمر. أما أنا, فدخيل وإنما لدي صدقية في الوسط المهني كوني منتجاً ولدي أيضاً خلفية على صعيد التعامل مع الأفلام الدينية. فتلقيت الكثير من رسائل الشكر, على قراري ولم أتلق أي اتصال أو أي رسالة ذات مضمون سلبي. · ألم تستغرب هذا الأمر نظراً لأجواء التشنج القائمة حالياً في فرنسا؟ - نعم, لكن أحداً لم يشاهد الفيلم حتى الآن. ثم دعونا لا نبالغ: انه فيلم عن يسوع وفيلم لا يسيء لأحد وقد شاهده حوالى 55 مليون أميركي حتى الآن وسيشاهده حوالى مئة مليون شخص ربما. والدين الإسلامي لا يرفض المسيح ولا الدين اليهودي وبالتالي ليس هناك موضوع لأي جدل. وأعتقد في الوقت نفسه ان يهود فرنسا أكثر ذكاءً من يهود الولايات المتحدة. ولو أنهم حاولوا التعرض لي ماذا كان في وسعهم أن يقولوا؟ فلا يسعهم اتهامي بالعنصرية فأنا تونسي ونشأت في أسرة بورقيبة الذي وفّر الحماية ليهود تونس. ولدي بالتالي شرعية سياسية وثقافية تجعلني بمنأى عن تهمة السعي للإساءة الى اليهود أو استفزازهم. بين التوزيع والانتاج · بانتقالك الى مهنة التوزيع, ألا تبتعد من مهنتك الأساسية, أي الانتاج؟ - كلا, لأن نشاطي لم يعد مقتصراً على الانتاج, وبت الآن على رأس مجموعة إعلامية متعددة الأنشطة. فأنا أملك قناتين تلفزيونيتين في ايطاليا, بالاشتراك مع قناة "تي اف 1" الفرنسية وأملك المجموعة الأولى في حقل الصوت والمختبر والمؤثرات الخاصة في فرنسا, ولدي استوديوات في إيطاليا وأخرى في تونس. وأنا في صدد انشاء مختبرات للصوت والصورة في تونس وكذلك انشاء قناة تلفزيونية. ومنذ بضع سنوات أضفت الى نشاطي في حقل الانتاج السينمائي, الانتاج التلفزيوني وصناعة الصورة بكل مراحلها, والآن دخلت التوزيع عبر شركة "كينتا". · هل من شركاء لك في هذه المجموعة؟ - ليس لي شركاء باستثناء رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلوسكوني الذي يملك 29 في المئة فقط من المجموعة. أما القناتان التلفزيونيتان في ايطاليا فإنهما ملكي ولقناة "ت اف 1" حصة فيهما. · ما الذي جعلك تهتم بالسينما خصوصاً أنك مولود في أسرة سياسية بحكم علاقة القربى التي تربطك بالرئيس السابق الحبيب بورقيبة ووالدك الذي شغل منصباً وزارياً لسنوات عدة؟ - انه حبي الدائم للسينما. في سنة 1970 وبعد تخرجي في جامعة جورجتاون الأميركية, التي سبقني الى التخرج فيها الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون, حائزاً شهادة في الاقتصاد والعلوم السياسية, بدأت أعمل على إطلاق تونس باعتبارها أكبر استوديـوات العـالم فـي الهـواء الطلق, وسعيت الى جذب كبار المنتجين اليها, وحاولت الاستفادة من أجواء الانفتاح والسياحة التي سادتها لحمل المخرجين على العمل فيها. وهذا ما حصل في البداية من خلال تصوير أشرطة اعلانية ايطالية وبعدها أفلام لمخرجين معروفين من أمثال زفيريلي وستانلي دونين وغيرهما. · على رغم نشاطك الواسع, تعتبر رجل ظل وإنما صاحب حضور ملحوظ الى جانب شخصيات معروفة وغالباً ما تلعب دور حلقة الوصل بينها, فما هو الدور الذي تلعبه تحديداً؟ - أصبحت نوعاً من المستشار فوق العادة, فكوني منـتجاً جعلني أتعرف الى برلوسكوني قبل حوالى عشرين سنة وعبره تعرفت الى عالم التلفزيون, فعملت على تنويع نشاطي وتحولت الى ما يشبه الاختصاصي في الإعلام المرئي والمسموع. وهذا ما حمل برلوسكوني على الاستـعـانـة بـي لإعـادة هيـكلة مجموعته الإعلامية, وبـعده الأمير الوليد بن طلال عندما أراد الاستثمار في هذا المجال سنة 1994, ثم صاحب مجموعة "كيرش ميديا" الألمانية ليو كيرش وصاحب المجموعة الإعلامية العملاقة روبـرت موردوخ الاسترالي - الأميركي الذي أراد الاستفادة من معرفتي بأوروبا وأيضاً بعقلية العالم العربي. · لكن دورك لم يكن استشارياً فقط بل أدى الى شراكات بين الشخصيات المختلفة. - ان هؤلاء الأشخاص كانوا في البداية زبائن بصفتي مستشاراً لهم, ثم أصبحوا شركاء لي في عمليات محددة. وبهذه الطريقة نشأت مثلاً الشراكة بين الأمير الوليد ومايكل جاكسون وبين الأمير الوليد وموردوخ. لقد ساعدت على التقارب وعلى الاستثمار المشترك. وهذا ما حولني من منتج الى رجل أعمال دولي. · الآن وقد أصبحت على رأس مجموعة سينمائية وإعلامية كبيرة وكل هذه الصداقات الدولية, ألا يغريك العمل السياسي؟ - لا أبداً, فأنا ولدت في أسرة سياسية. وما أحبه في عملي هو حريتي, فأنا لا أعمل لدى برلوسكوني أو لدى موردوخ أو غيرهما, أنا صديق وشريك لهما. وبجانب ذلك في وسعي أن أفعل ما أشاء وأن أوزع فيلم "آلام المسيح" مثلاً من دون أن يحق لأحد محاسبتي على ذلك. ومثل هذه الحرية غير متوافر مستشاراً في الحقل السياسي. · لكنك تلعب دوراً سياسياً عبر صداقاتك ودورك كمستشار؟ - لنقل ان كل شيء سياسة, وسلطة الإعلام تفوق أحياناً السلطة الحقيقية وأنا أصبحت الى جانب لاعبين كبار. موردوخ وبرلوسكوني و"تي اف 1" شركائي على صعد عدة وفي وسعي استغلال ذلك لإصلاح هذا الأمر أو ذاك أو دفـع الأمـور باتجاه أو آخر. وهذا ما يثير اهتمامي اكثر من السياسة في حد ذاتها. · ما هي طبيعة الاستشارات التي يطلبها منك موردوخ؟ - أنا الشخص الوحيد في امبراطوريته, غير المسيحي وغير اليهودي وغير الانغلوساكسوني. وأقدم له وجهة نظر من عالم مختلف هو الشرق. · وهل يأخذ بوجهة النظر هذه؟ - انه شخص حساس وفضولي حيال آرائنا, وبما انه يتصل بي ما لا يقل عن مرتين أو ثلاث في الأسبوع فلا أعتقد انني أثير ضجره. جريدة الحياة في 2 أبريل 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
طارق بن عمار: شرعيتي السياسية والتاريخية تحميني من مناوئي الفيلم آرليت خوري |
|