لو طلب منك مخرج أن يصور مشكلاتك الخاصة, بل الحميمة, ليعرضها على الملأ في فيلم وثائقي, هل تقبل أم ترفض من دون مناقشة؟ فيلم "بيونس آيرس - حكايتي" (1999, 89 دقيقة) اخراج جيرمان كرال, يروي حكاية عائلة لم تتشكل قط. يقول كرال: "أتيت عام 1991 من بيونس آيرس الى المانيا لدراسة السينما. بعد سبع سنوات عدت من الطريق نفسها لانتاج هذا الفيلم". ويبدو ان السبب وراء اختيار كرال فكرة الفيلم, البحث عن حقيقة غامضة بالنسبة اليه. فـ"الفيلم أشبه بدفتر يوميات رحلتي من المانيا نحو بيونس آيرس, محاولةً مني لفهم أسباب غياب والدي الطويل وافتراقه عن والدتي". قد يكون من الصعب على أي أحد في المجتمع العربي أن يظهر والدته أمام الكاميرا لتقول ما تكرهه في زوجها, الذي هو أبوه, لكن جيرمان لم يكتف بعرض ذلك فقط, بل تجاوز والديه ليعرض ما كانت تكرهه جدته في جده الميت, ولينقل قولها انها تحس الآن بأنها لم تحبه يوماً بقدر ما كانت ترى فيه الزوج الأمثل لها في وقت مضى. عرض الفيلم في ورشة عمل حول الأفلام التسجيلية Hybride Formen, أقيمت في بيروت بين 18 و21 آذار (مارس) المنصرم على هامش "مهرجان شمس" الخامس بالتعاون مع معهد غوته, وتحت ادارة الدكتورة باربرا شتاينباور - غروتش والمخرج السوري عمر أميرلاي. بحثت الورشة موضوع الفيلم الوثائقي (التسجيلي), وناقشت التطور التاريخي والآفاق في هذا النوع من الأفلام. وفي هذا الإطار كان تركيز على دراسة المخرج بين الأفلام الروائية والأفلام الوثائقية. وكانت نقطة الانطلاق ثلاثة أفلام وثائقية هي: "الفيلم الوثائقي الأخير" (1998, 65 دقيقة) اخراج دانيل سبونزيل وجان زيبنينغ, و"هانس فارنس - كيف عشت القرن العشرين" (1999, 105 دقائق) اخراج غوردييان ماوغ, اضافة الى فيلم جيرمان كرال. وبحسب معهد غوتة, ربما يكون "الفيلم الوثائقي الأخير" الأفضل في هذه المجموعة, إذ يضم أمثلة من أفلام تاريخية خاصة وعامة, في محاولة للإجابة عن سؤال: "ما هو الفيلم الوثائقي؟". والفيلم توليف من تعاقب فيلمي مدروس بعناية فائقة, ويضم مقابلات مع مخرجي أفلام وثائقية مثل الهولندي يوهان فان دير كويكن والألماني فرنر هيرتسوغ وغيرهما. أما فيلم هانس فارنس "كيف عشت القرن العشرين؟", فهو يحكي عن البحار هانس فارنس الذي ولد في نهاية القرن التاسع عشر, وأبحر للمرة الأولى عام 1914 على متن سفينة شراعية كبيرة, وجمع خلال رحلته عبر عشرات السنين صوراً متميزة ووثائق سينمائية عن الرحلات والحياة على متن السفينة. وكونت هذه الصور مع مقاطع الأفلام المصورة حديثاً بطريقة توحي أنها قديمة, العمود الفقري لهذا الفيلم. وشكلت الأفلام الثلاثة محور النقاش على مدى الأيام الثلاثة, اضافة الى فيلمين آخرين لاثنين من المشاركين في الورشة, احدهما بعنوان "رمق" لكابي جعفر العاملة في "تلفزيون المنار", والآخر "اختفاء الربيع" لرامي صباغ من الجامعة اليسوعية. وبدا "رمق" للمشاركين في الورشة تحقيقاً وليس فيلماً تسجيلياً. وعلى رغم ان الفيلم يناقش قضية تستدر الدمع, تتمثل في معاناة مرضى الكلى, خصوصاً ذلك الشاب الذي أجريت له عملية زراعة كلى وهبته إياها أخته, فإن المخرجة المعدّة وقعت في فخ التكرار والحشو في غالبية المشاهد بحسب ما قال أكثر المشاركين في النقاش. وتساءلت احدى المشتركات: "متى نتخلص من عملية تلقيم المتفرج المعلومات بالملعقة؟". ولا ينفي ذلك المجهود المبذول في الفيلم. أما فيلم "اختفاء الربيع" فكان على النقيض من "رمق". رامي الصباغ استفاد من تقنيات الشعر في الفيلم التسجيلي "الاجتماعي السياسي" كما يحلو له وصفه. وكان لبناء المشهد دلالة مجازية ايحائية, تحرك وجدان المتفرج بما يجعله يشارك بفاعلية في تأويل الدلالة, وكل ذلك يأتي من السياق الفني. وبالمقارنة بين "رمق" و"اختفاء الربيع", يتبين في شكل واضح الفارق بين ما هو مباشر يكتبه الواقع في الحياة اليومية وما هو غير مباشر يكتبه الفنان بالذات المعبرة. وفيلم "اختفاء الربيع" لم يسلم هو أيضاً من الهجوم, إذ علّق بعضهم عليه بالقول إنه "غامض جداً, ويصعب على المشاهد أن يفهم منه شيئاً". ولكن هذا لا ينفي عنه الاحتراف الواضح. بقي أن نذكر أن الفيلم التسجيلي نهض على يد البريطاني غريرسون والهولندي يورنس ايفنز والروسي فيرتوف طوال العقود الأولى من عمر السينما. وسرعان ما انتشر هذا النوع من الأفلام, الذي له نكهة خاصة غير نكهة الأفلام الروائية. واعتبر "سلاحاً يمكن أن يكشف الحقائق الموضوعية بصيغة أكثر اقناعاً من الفيلم الروائي", لكون الفيلم التسجيلي "أداة تكشف الواقع" بعكس الفيلم الروائي الذي "يعيد صوغ الواقع". ولكن التلفزيون سرق قيمة هذا النوع من الأفلام. فالمحطات التلفزيونية العربية - بغض النظر عن بعض الأفلام التي لا تشكل كماً - لم تهتم بعد بالأفلام التسجيلية, إلا على المستوى الإخباري. وتواجه الأفلام التسجيلية مشكلات متعددة في الانتاج والتصوير والتوزيع, لأنها فن غير مربح مادياً, على عكس ما يحصل في بعض القنوات الغربية التي نجد بعضها يتخصص في عرض الأفلام التسجيلية. فإلى متى تهمش المحطات الفضائية العربية الفيلم الوثائقي؟ جريدة الحياة في 2 أبريل 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
أين الفيلم الوثائقي في الفضائيات العربية؟ إبراهيم بادي |
|