شعار الموقع (Our Logo)

 

 

العلاقة بين اليابان وأمريكا.. علاقة متحركة كبندول الساعة.. تذهب من النقيض للنقيض ثم تلتقي أحيانا.. كما تلتقي عقارب هذه الساعة.. فتحدث دويا وضجيجا.. يملأ السمع ويسحر العين.

الحضارة اليابانية بكل ما تمثله من عبق السنين.. ومفاهيم الشرف والواجب والنظام، والحضارة الأمريكية (إذا كان من الممكن أن نطلق عليها اسم حضارة) بكل ما تحمله من تحرر وسيطرة وتعال.. هذا الصراع الدائم الذي بدأ بينهما منذ مئات السنين.. وحاولت السينما عبثا أن تلتقطه بفيلم كبير.. حتي العظيم جون هوستون.. أخفق تماما.. عندما أخرج فيلمه (البربري وفتاة الجيشا) محاولا أن يوضح اصطدام هاتين الحضارتين وتناقضهما.

ولكن يبدو أن إدوارد زويج قد استطاع أن ينجح فيما أخفق فيه هوستون.. ويقدم لنا من خلال «الساموراي الأخير».. صفحة مدهشة عن التقاء الحضارات.. وعن انهزام صوري لمبادئ الشرف والكرامة والشجاعة.. مصورة في انحسار فجر «الساموراي» هؤلاء المحاربين الذين وهبوا حياتهم وسيوفهم وشجاعتهم للدفاع عن المبادئ والقيم الكبري التي يتربع «الشرف» علي رأسها جميعا.

الفيلم يروي قصة محارب شجاع (يلعب دوره باقتدار ونبل توم كروز) خاض الحرب الأمريكية ضد الهنود الحمر وقاتل فيها بوحشية صارخة.. تركت في قلبه جرحا عميقا لم يستطع أن يجعله يلتئم.

وعندما يعرض عليه رئيسه.. الذي كان المحرك الأول لقسوته.. واندلاع الوحشية في تصرفاته أن يذهب لـ«اليابان».. ليعلم جيشها الجديد.. أصول الحرب العصرية.. والقضاء نهائيا علي سطوة فرسان الساموراي الذين يتمتعون بشعبية تصل أحيانا إلي حد القداسة لدي المقهورين والمعذبين بين الناس.. فإنه يقبل مضطرا كي يترك المهنة التي أجبر علي امتهانها بعد أن القت الحرب أوزارها والتي تقوم علي استعراض بطولاته المزيفة.. في ساحة سيرك.. (!!).

يصل فارسنا (ايثان) إلي اليابان.. وقد حمل في رأسه أفكارا.. تجعله يعتقد أنه سيمارس مع الساموراي.. ما سبق أن مارسه مع الهنود الحمر.. ولكنه يجد نفسه فجأة في خضم عالم لا يفقه منه شيئا.. ولكنه يحس بأعماقه مدي سحره وتأثيره وغموضه.

وقبل أن يتم مهمته في تدريب كوادر الجيش الياباني الجديد علي استعمال الأسلحة النارية التي استبدلوا بها السيوف الحادة التي كان الجميع يتعامل بها أثناء سيطرة الساموراي. فإن قائده الأمريكي وفئة من المسئولين اليابانيين المنتفعين بهذه التجارة الجديدة مع أمريكا ولو كانت علي حساب استقلال وكرامة بلادهم وتقاليدهم.. يجبرونه علي أن يخوض معركة مع كتيبة من كتائب الساموراي.. يرأسها قائد ساموراي شهير له سمعته ومكانته بين الجميع.. ورغم تحذير «ايثان» لرؤسائه.. بأن المعركة ستكون خاسرة لعدم حصول الجنود علي الخبرة والاستعداد الكافي.. إلا أنه يضطر لتنفيذ الأوامر.. وبالطبع فإن نتيجة المعركة جاءت كما كان يتوقع.. وهي هزيمة الجيش النظامي أمام شجاعة وفروسية وقدرة الفرسان القدامي.. ولكن ما لم يتوقعه «ايثان» هو أن يسقط أسيرا في يد الفرسان الذين يقودونه مغلولا.. إلي القرية المحصنة التي يقيمون فيها مع رئيسهم الشجاع.

حتي هذا المقطع من الفيلم.. جاء فيلم إدوارد زويج جميلا في صوره.. دقيقا في إخراجه ولكنه بطيء في إيقاعه.. ويبدو لنا كالصرخة المخنوقة في قاع الحنجرة.. لا تعرف كيف تخرج هادرة مدوية.. وتترك الجسد كله قلقا مبلبلا.

ولكن ما إن يعيش «ايثان» الأمريكي في أسر فرسان الساموراي وفي معقلهم.. وما إن يعايش حياتهم وتقاليدهم ومبادئهم التي تختلط فيها القسوة البالغة بالإحساس القوي بالشرف والمسئولية.. حتي تتغير طبيعة الفيلم ومعالمه وإيقاعه وأهدافه كلها.

وما كان حتي الآن.. مجرد مغامرة عسكرية.. ومشاهد قتال بارعة التنفيذ.. انقلب لكي يكون مواجهة حضارية وعاطفية من نوع فريد.

إنها أمريكا المتوحشة التي تلبس ثوب المدنية.. أمام اليابان العريقة الأصيلة التي ألبسوها ثوب التوحش والقسوة والبدائية.

وهنا يرسم الفيلم صورة أخاذة.. للقائد الساموراي الكبير بكل نبله وشجاعته وقيمه.. ويجعلنا نعيش حياة هؤلاء الفرسان وعلاقتهم المتميزة مع بعضهم ومع أفراد أسرهم.. ومنهج الحياة القائم علي الكرامة والإحساس بعزة النفس الذي يحرك تصرفاتهم.

وتصل الأمور إلي حدها الأقصي.. عندما نكتشف أن الأسرة التي تضيف «ايثان» الأسير هي أسرة أحد فرسان الساموراي الذي قتله «ايثان» أثناء الاشتباك الأول.. وبل إن هناك علاقة عاطفية خبيئة وحارة ربط كما في تراجيديات شكسبير وراسين بين زوجة القتيل والقاتل.. عاطفة يعبر عنها الفيلم بكثير من الشاعرية والحياء والعمق العاطفي.

إحساس فرسان الساموراي.. وقائدهم النبيل بأنهم يعيشون أيام نفوذهم الأخيرة.. يعطي كل هذه المشاهد التي تدور في قريتهم الحصينة قبل المعركة الفاصلة دفئا رومانسيا مدهشا.. ويخلق في نفس المشاهد نوعا فريدا من الشجن.. يشبه في تأثيره تأثير القصائد الرومانسية التي أبدع شعراء القرن التاسع عشر في نظمها.

اكتشاف «ايثان» لطبيعة نفسه الحقة.. ومقارنتها بطبيعة الناس الذين يعايشهم، محاسبة الذات التي تصل إلي حدها الأقصي.. دون أن تتجاوز عقاب الانتحار الدموي الذي يفرضه فارس الساموراي علي نفسه عندما يفشل في تحقيق مثله الأعلي أو واجبه الكبير.

كل هذا الجزء من الفيلم (وهو يمثل نصفه تقريبا).. ليس إلا تمهيدا دراميا متصاعد للمعركة الفاصلة التي ستشهدها في خاتمة الفيلم، وكأنها الحركة الأخيرة من سيمفونية هائلة تلعبها الطبول والصرخات وامتداد الريح علي الطبيعة الساكنة.

فرسان يحملون السيوف البيضاء. أمام جنود يواجهونهم بالمدافع السريعة الطلقات والبنادق الآلية.

مذبحة.. يختلط فيها الدم بالنشوة والكبرياء.. وتتحول فيها الهزيمة الحربية إلي انتصار نفسي خارق.. يؤكده مشهد موت الزعيم.. وانتحاره علي يد عدوه القديم وصديق الحالي «ايثان»، مشهد يذكرنا بموت «بروتوس» علي يد «ايروس» تابعه الأمين في تراجيديا شكسبير التي لا تنسي «يوليوس قيصر».

هذا الموت الفخم العظيم.. عرف إدوارد زويج كيف يرسمه سينمائيا ببراعة رسام وحس موسيقار.. وكيف يقدم لنا معركة يشترك فيها بريق السيوف وكبرياء الفرسان بطلقات الرصاص وصهيل الخيول.. في صور متتابعة تكتم الأنفاس.. تلعب فيها الطبيعة وتحركات الكاميرا.. وتحركات الكومبارس.. دورا يشبه دور الكورس المتناغم الذي يتصاعد ويتصاعد حتي اللحن الأخير.

«الساموراي الأخير» شهادة حب.. تقدمها السينما الأمريكية لحضارة اليابان ولشرف محاربيها، ولهؤلاء الرجال الذين عرفوا كيف يموتون.. وعرفوا أكثر من ذلك كيف يعيشون.

وإذا كانت مجموعة الممثلين اليابانيين.. خصوصا القائد الساموراي وابنه الشاب.. وابنته (زوجة المحارب القتيل).. قد أضفوا علي الفيلم طابع النبالة والشرف والكبرياء.. بحيث بدا الأمريكيون إلي جانبهم.. شخصيات ذات بعد واحد مكررة.. فإن ذلك كان يندرج حتي بالمفهوم العام الذي نهج عليه الفيلم كله.. والذي أراد أن يعبر عن الهوة السحيقة التي تفصل بين حضارة كبري تندثر.. وحضارة مزيفة تنتصر.

«الساموراي الأخير».. ليس بالطبع هو الأسير الأمريكي «ايثان».. الذي انبثقت أمام عينيه مرآة عملاقة.. جعلته يري نفسه الحقة.. ويقارنها بنفوس محاربين آخرين.. قاتلوا.. وماتوا.. دفاعا عن شرفهم ومكانتهم وحقهم الذي يعتقدون صادقين أنه قد جاء إليهم منحة يستحقونها من السماء.

الربط البعيد جدا.. بين المحاربين من الهنود الحمر.. الذين استأصلتهم نيران الجنود الأمريكيين ووحشيتهم وبين هؤلاء الساموراي الذين يموتون هم أيضا بنيران استوردتها حكومتهم المتواطئة.. من أمريكا أيضا قد يعطي الفيلم معني خاصا.. ولكن المعني الحقيقي الذي يعرض الفيلم أمام أعيننا المبهورة.. هو كرامة القتال وشرف المحارب وكبرياء الرجل، وهذا بحد ذاته كاف تماما لكي يجعل من «الساموراي الأخير» فيلما كبيرا.

جريدة القاهرة في  23 مارس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"الساموراي الأخير"

فيلم أمريكي يعترف بزيف وسطحية وكذب الحضارة الأمريكية

د.رفيق الصبان