شعار الموقع (Our Logo)

 

 

ما كادت تخفت حمّى الهجوم اليهودي الاميركي على شريط مِلْ غيبسون "آلام المسيح" حتى اشتعلت حمّى اليهود الفرنسيين ضد الشريط الوثائقي "الطريق 181" الذي وقّعه معاً كلُّ من المخرجين، الفلسطيني ميشال خْلَيفة، والإسرائيلي إيال سيفان. وينطوي هذا الشريط الطويل في أربع ساعات ونصف ساعة (إنتاج "آرتيه" الفرنسية وعرض في تشرين الثاني الفائت على شاشاتها) على شهادات متفرقة ومتوازية لعرب ويهود، وخاصة من المسنّين العرب الذين شهدوا احداث 1948 المأسوية قتلاً وتهجيراً. ويبدو ان الفيلم المتوازن والهادف الى  إبراز المعاناة الانسانية في الصراع المستمرّ بلا أفق حلّ قريب، لم يرق، كالعادة، لبعض غلاة اليهودية والصهيونية، حتى في فرنسا، وتحديداً في أوساط السينمائيين والمثقفين، يتقدمهم المفكر العنصري برنار هنري ليفي المتنطّح دوماً لكل شأن، صغير أو كبير، متصل باليهود واسرائيل، باثّاً سمومه وأحقاده في مقالته الاسبوعية في "لو بوان"  الفرنسية، وفي كل مناسبة وفرصة ومجال! وأفلح مع زمرة من اليهود المتعصبين، كتّاباً وسينمائيين، في وقف عرض من اثنين كانا مقررين ضمن "مهرجان سينما الحقيقة" في مركز بومبيدو الثقافي الباريسي، موجهين رسائل الى المعنيين، ومثيرين قضية تتعارض في شكل أساسي مع حرية  التعبير التي يدين بها الغرب ويدعو اليها بل ينتقد العالم الثالث على افتقادها! مما استدعى بياناً معاكساً لمثقفين آخرين، يتقدمهم السينمائي الكبير جان لوك غودار، يستنكر التحرّك الداعي الى منع عرض الفيلم، ويدعو الى الحفاظ على حرية التعبير، معتبراً ان ما حصل يحيي الرقابة ويشجع المتطرفين.

مرة جديدة يرتفع الصوت اليهودي الفاجر لصدّ حرية القول والرأي والموقف، ولممارسة نفوذه وتأثيره، بل إرهابه الفكري، في مجتمع حرّ ومنفتح ومتعدد كالمجتمع الفرنسي. لكن الغريب في الأمر ان تنصاع جهات مسؤولة وذات صلاحية واستقلالية قرار لابتزاز وتهويل وتهديد من هذا النوع، وان تنجح الزمر اليهودية الوقحة في ايقاف عرض فيلم، وأين؟ في عاصمة الأنوار باريس!

ذرائع اولئك الفاجرين الواهية، في الوقائع الآتية التي اطلعتنا عليها صحيفة "لوموند" الفرنسية قبل بضعة أيام، ولا نملك تعليقاً عليها سوى أن نردد مع إيال سيفان الجريء والمعتدل صرخته وسط قاعة العرض وقبل خروجه احتجاجاً: "سادتي أهل الرقابة، مساء الخير".

جورج كعدي

 

"لو موند" روت (عدد الخميس 11 آذار الجاري) قصة الفيلم وقضية منع عرضه في باريس ضمن "مهرجان سينما الواقع" والاحتجاجات اليهودية عليه وردّ فعل مخرجَيْه إيال سيفان وميشال خْلَيفة، فالجدال، بحسب عدد من المثقفين والسينمائيين اليهود: الجامعية آني ديان روزنمان، والسينمائيون أرنو ديبلوشان وإريك روشان ونومي لفوفسكي، والفيلسوف برنار هنري ليفي واليزابيت دو فونتوناي، والمخرجة المسرحية بريجيت جاك،  وعالمة الاجتماع ليليان كاندل، والكتّاب فيليب سولرز وإريك مارتي وجيرار وايكمان. بعث هؤلاء برسالتهم الى رئيس مركز جورج بومبيدو (حيث تقام عروض المهرجان)، كما بعثوا نسخاً منها الى العديد من المسؤولين في المركز، وفي ادارة المهرجان، والى اعضاء لجنة التحكيم الخمسة في هذه المسابقة العالمية. وعبّر موقّعو  الرسالة عن "قلقهم" من برمجة فيلم يبالغ في "الحقائق" التاريخية المتنازع عليها، ويساهم في تسميم المناقشة السياسية حول الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني (...) كما ترفض الرسالة مشهداً يستدعي فيلم "المحرقة" (لكلود لانزمان) ويظهر فيه حلاّق فلسطيني يروي مجزرة اللد عام ،1948 ويليه مشهد آخر للسكك الحديد يستدعي أيضاً فيلم لانزمان.

المفارقة المؤسفة ان برونو راسين، رئيس مركز بومبيدو، خضع لهذا الضغط الابتزازي، متذرعاً باحتمال حصول مواجهات (!)، ومعتبراً ان الحذر يقضي بإلغاء  عرض للفيلم من اثنين كانا مقررين للمهرجان. وفي ليلة الافتتاح (4 آذار) كان الجوّ متوتراً. وزّع أعضاء في "تجمع سينمائيي الأفلام الوثائقية" على الحضور بياناً للمخرجين سيفان وخْلَيفة يعتبران فيه ان اتهام فيلمهما بأنه يساهم في تفاقم الآراء والأفعال اللاسامية في فرنسا هو "اتهام شائن" وثمرة حملة ضغوط وتخويف مورست على مركز بومبيدو، وأن الاتهام خطوة كبيرة نحو إحياء الرقابة وتشجيع المتطرفين. ورغم ذلك، ارتفعت في الصالة أصوات (يهودية) تنادي على الرقابة، فنهض المخرج ايال سيفان محتجّاً ومستغرباً كيف ان السلطات الأمنية قادرة على مواجهة الاضطرابات الشعبية في عرض واحد للفيلم وعاجزة عن مواجهتها في عرضين! وقال في صوت عال: "سادتي أهل الرقابة، مساء الخير" قبل أن يغادر الصالة ويتبعه نحو خمسة عشر شخصاً. وفي اليوم التالي استنكر "اتحاد المؤلفين - المخرجين للدفاع عن الأعمال" قرار الغاء العرض الثاني للفيلم الذي "يشهد لتعلّق مخرجين بالحق  والسلام" بحسب بيان الاتحاد.

سينمائيون ومثقفون آخرون تحرّكوا بدورهم دفاعاً عن الفيلم ومخرجيه في نصّ نشرته صحيفة "ليبراسيون" في عدد 8 آذار وحمل تواقيع أكثر من ثلاثمئة شخص بينهم جان لوك غودار وماتيو ليندن وبيار فيدال ناكيه وتزفيتان تدوروف وراسل بانكس وكلير سيمون وكلود غيسار وإتيان باليبار وأبرهام سيغال وفرنسوا ماسبيرو، معربين عن قلقهم إزاء "قرار يتصل برقابة لا تعلن عن هويتها"، رافضين تصنيف الفيلم في خانة الأفلام التي تحضّ على اللاسامية ومعاداة اليهود، مؤكدين ان فيلم "الطريق 181" يساهم في مناقشة فكرية ويحق لأي كان انتقاده.

وتحت عنوان "فيلم حيّ رغم انحيازاته" كتب توماس سوتينيل في "لوموند" حول "الطريق 181": "لنبدأ من منتصف هذه الرحلة التي تمتد أربع ساعات ونصف ساعة (طول الفيلم) عند الحدود بين اسرائيل وقطاع غزة الى شمال الجليل، متبعين خطّ التقسيم لفلسطين تحت الحكم البريطاني والذي رسمته الأمم المتحدة عام 1947 بموجب القرار الذي يحمل الرقم 181. ووسط الرحلة تقع مدينة اللدّ حيث يعيش اليهود والعرب. هنا يأسف مستشار البلدية اليهودي لكون العرب يزدادون أكثر فأكثر حتى باتوا يمثلون أكثر من عشرين في المئة من السكان، في حين يدافع زميله العربي عن حقوق الجماعة التي يمثلها في أن تسكن في المدينة. هاتان الشهادتان تسبقان في الفيلم لقاء  مع مجموعة من الشيوخ المسنّين الذين يروون كيف حُشر السكان العرب طوال سنين عديدة في المدينة العتيقة، في حين كان يستقر المحتلون اليهود الجدد. أحد هؤلاء الشيوخ، وهو حلاّق، يروي متذكراً ومستمراً في قصّ شعر زبائنه كيف اضطر الى اخلاء ثلاثمئة جثة بقيت خمسة عشر يوماً داخل المسجد، لفلسطينيين قتلوا على أيدي محاربين اسرائيليين. وفي المشهد التالي تظهر السكك الحديد. فوسط فيلمهما وضع ميشال خْلَيفة وإيال سيفان مقطعاً من فيلم "المحرقة" لكلود لانزمان، مجازفين في خلق تماثل بين ابادة المانيا النازية ليهود اوروبا ومعاملة دولة اسرائيل للفلسطينيين (...) الفيلم مستخدم كأداة ترويجية لمشروع سياسي هو مشروع دولة علمانية ثنائية القومية. يعطي السينمائيان الكلمة للسكان، ومعظمهم في سن متقدمة وشهد حرب 1948. العرب يتكلمون كضحايا، واليهود ينطقون بخطاب مبني على الفكرة الصهيونية (...).

وتعود كاترين هامبلو، في ملف "لوموند" هذا، لتوجه ثلاثة اسئلة الى إيال سيفان وميشال خْلَيفة. الأول: ما ردّ فعلكما على رسالة المثقفين والسينمائيين الداعية الى التنبّه حيال "الطريق 181"؟ فأجاب سيفان: "أمر غريب أن يسلك أناس يتمتعون بحرية التعبير من خلال اعمالهم مثل هذا المسار. حين يتعلق الأمر باسرائيل وفلسطين يفقد عديدون الصواب". السؤال التالي: كيف تبرران المشهدين اللذين يستدعيان "المحرقة" لكلود لانزمان،  وتحديداً مشهد الحلاّق؟ فأجاب خْلَيفة: "في الحياة والأدب العربيين، الحلاّق دائم الحضور. في صدق، لم أشاهد فيلم لانزمان كاملاً، ولو أراد حواراً حول أدبيات السينما فإني جاهز. لم نكن إيال وأنا متفقين حول طريقة التصوير. كنت أفضّل مشهداً أكثر إيحاء، على الطريقة الشرقية، صوّرنا الحلاّق اثناء قص شعر زبائنه، مثلما صوّرنا كل شخصياتنا في إطار حياتها اليومية. لم نكذب قط ولا استخدمنا اساليب كاذبة او منحرفة مع أيٍّ من شخصياتنا"، وعقّب سيفان على السؤال نفسه: "الحلاق، كسائر شخصيات الفيلم، تمّ لقاؤه بالصدفة. حتى قبل الاستماع الى شهادته، فكرت ان ليس هناك الا طريقة واحدة لتصويره. نشأت في مدرسة اسرائيلية حيث علّمونا المحرقة عبر احتفالات ذكرى وعرض أفلام... مذبحة اليهود جزء من مراجعي. كالعديد من الاسرائيليين، لا يسعني الا التفكير في النكبة، الكارثة الفلسطينية لعام 1948، وصلتها بالمحرقة. تستند شهادة حلاّق اللدّ الى حقيقة تاريخية أتى المؤرخ الاسرائيلي بيني موريس على ذكرها حديثاً، وتمثل الصدمة النفسية الفلسطينية، مثلما تمثل شهادة ابرهام بومبا (في شريط لانزمان) الصدمة النفسية لدى يهود اوروبا. ينبغي أن نعيش مع هاتين الصدمتين، من دون نفيهما، ومن دون وضعهما في منافسة (...) ان تاريخنا، اسرائيليين وفلسطينيين، راسخ في هاتين الكارثتين". والسؤال الثالث: لِمَ هذا المشهد للسكك الحديد الذي يستدعي فيلم "المحرقة"؟ ويجيب خْلَيفة: "إن ذلك هو قلب المسألة الفلسطينية. السكك الحديد انشئت في نهاية القرن التاسع عشر. كانت جزءاً من مشاريع الوحدة والتحديث في الشرق الأوسط. الاستعمار دمّر هذا المشروع، وأردف سيفان موضحاً: "يتكرر مشهد السكك الحدديد في فيلمنا. التماثل ليس مقارنة. القول ان ذلك غير شبيه هو مقارنة. علينا نحن الاسرائيليين أن نتحمل مسؤولية جريمة رفض آباؤنا الإقرار بها. لدينا اليوم وزراء ينادون بالترحيل الجماعي. هذه ليست كلمة بسيطة. منذ 1945 نحفظ صورة من هذا الترحيل، السكك الحديد".

النهار اللبنانية في  22 مارس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

محاربة فيلم خليفة وسيفان بعد فيلم مل غيبسون:

"رقابة يهودية" على السينما في العالم؟!

جورج كعدي