نحن هنا أمام فنان كبير، مثير للنقاش وللجدل، مصطحباً ضجة مع كل فيلم جديد
يقدمه.. مخرجنا هو يوسف شاهين.
والحديث عن يوسف شاهين يطول، فهو كفنان يشكل حالة خاصة ونادرة في السينما
المصرية، بل والعربية بشكل عام.. وهو الفنان الباحث دوماً عن أسلوب جديد
وصياغة مختلفة لأفكار ومفاهيم يبدو عادية ومتداولة.
يوسف شاهين.. الذي قدم حتى الآن ثلاثين فيلماً، بدأها بفيلم (بابا أمين ـ
1950) وذلك بعد عودته من أمريكا، حيث درس السينما هناك.. هذا الفنان، اختلف
معه الكثيرون، ووجهت له الكثير من الاتهامات ـ وبالذات في أفلامه الأخيرة ـ
أهمها بعده عن قضايا الجماهير، والاهتمام بتقديم تكنيك وإبهار سينمائي فقط،
على حساب المضمون، متجهاً بذلك نحو الجمهور الغربي والأوروبي. وللتحقق من
صحة هذه الاتهامات أو عدمها، سنقوم بمسح سريع لمسيرة هذا الفنان، والقيام
برحلة في فكر وفن يوسف شاهين.
إن المتابع لمسيرة شاهين السينمائية، من خلال جميع أفلامه، يكتشف بأنها
تعكس ـ الى حد كبير ـ ذلك التطور الفكري والفني، وذلك الوعي الاجتماعي
والسياسي الذي تحمله شخصية هذا الفنان. ويمكننا تقسيم مشوار شاهين
السينمائي الى مرحلتين أساسيتين: مرحلة نمو الوعي الاجتماعي ، ومرحلة تعمق
الوعي السياسي، حيث أن شاهين عندما بدأ هذا المشوار، لم تكن القضايا
الاجتماعية والاهتمامات السياسية تعني له الشيء الكثير، ولكنه ـ عفوياً
وتلقائياً ـ وجد نفسه يدافع، ببساطة متناهية وصدق مؤثر، عن الفلاح المصري
في فيلمه (ابن النيل ـ 1951).
لم يكن شاهين، في ذلك الوقت، يفهم مشكلة الفلاح المصري، ولا كان يعي الواقع
الاجتماعي والمعيشي الذي فرض على هذا الفلاح أوضاعاً حياتية مزرية، وربما
جاء ذلك نتيجة انتماء شاهين الطبقي الى بيئة بورجوازية. ومع هذا، فقد كان
فيلم (صراع في الوادي ـ 1953) صرخة عنيفة ضد الإقطاع، عبر فيه عن نظرته
المليئة بالحنان والحنو للفلاحين. صحيح بأن الفيلم يفتقر الى التحليل
الاجتماعي الجدي للواقع الذي يتناوله، إلا أنه قد طرح قضية الصراع الطبقي
بين الإقطاع والفلاحين بشكل صارخ، لم تشهده السينما المصرية من قبل..
وبالتالي يمكن اعتبار (صراع في الوادي) بمثابة الخطوة الحقيقية الأولى في
مرحلة نمو الوعي الاجتماعي عند شاهين. وكانت الخطوة التالية في فيلم (صراع
في الميناء ـ 1956)، والذي اهتم فيه شاهين ـ ولأول مرة ـ بأوساط العمال
والبحث في مشاكلهم.
أما بفيلم (باب الحديد ـ 1958)، فقد وصل شاهين الى مرحلة فنية متقدمة،
جعلته أهم شخصية سينمائية في مصر آنذاك، حيث كان هذا الفيلم متقدماً على
السينما المصرية بسنوات، الأمر الذي يفسر فشله التجاري وإحجام الجمهور عنه.
ففي فيلمه هذا، برع شاهين في تصوير قطاع من الحياة اليومية، بقدر ما برع في
تجسيد شخصية ذلك الفقير المقعد "قناوي". وقد كان (باب الحديد) مفاجأة حقاً،
ليس لصدقه المتناهي ومضمونه المتميز فحسب، وإنما ـ أيضاً ـ لأسلوبه الجديد
ولغته السينمائية المتقدمة وجمالياته الخاصة.. وليس هناك شك في أن يوسف
شاهين قد سجل، بهذا الفيلم، خطوة متقدمة في مرحلة نمو الوعي الاجتماعي.
بعدها، قدم يوسف شاهين (جميلة الجزائرية ـ 1958) معبرا فيه عن ذلك الشعور
القومي والتضامن العربي مع الجزائر في حربها التحررية ضد الفرنسيين.. لم
يتضمن الفيلم أي تحليل سياسي لقضية الشعب الجزائري، وإنما جاء فيلماً
حماسياً صادقاً، هذا بالرغم من أنه يعد نقطة تحول عند يوسف شاهين، حيث يقول
شاهين: (...إن الوعي الاجتماعي قد دخل أفلامي بعد فيلم جميلة.. في جميلة
كنت وطنياً بالفطرة، كانت الأمور بالنسبة إليّ أشبه بالعسكر والحرامية،
الناس في الفيلم كانوا إما جيدين أو سيئين، وعندما خرجت الجماهير من قاعة
العرض وأحرقت السفارة الفرنسية، أدركت إنني فجرت شيئاً لا أعرفه، هناك
صراعات أبعد من قصة العسكر والحرامية. بدأت أقرأ عن مذاهب فلسفية
واجتماعية، وتعرفت على عدد من السياسيين، بدأت أكتشف تدريجياً بعض القوانين
ولغة الصراع، فأخذت تتكون عندي عموميات فكر سياسي...).
وبفيلم (الناصر صلاح الدين ـ 1963) يؤكد يوسف شاهين قدراته السينمائية
والتقنية، حيث يقدم من خلاله ملحمة على طريقة أفلام هوليوود الضخمة، عن
الحروب الصليبية التي قادها صلاح الدين الأيوبي ضد أوروبا، مشيراً ـ بشكل
واضح ـ الى عبد الناصر، الذي قاوم أوروبا ـ أيضاً ـ إبان العدوان الثلاثي
على مصر.
قدم شاهين بعدها، فيلم (فجر يوم جديد ـ 1964) متناولاً فيه وضع الطبقة
البورجوازية في مصر بعد ثورة يوليو 1952. ويعلق شاهين على هذا الفيلم،
فيقول: (...كنت لازلت مثالياً، فتصورت إن الأمل يأتي من داخل البورجوازية
ذاتها، وربما يعود هذا التصور الى طبيعة انتمائي الطبقي...).
وفي عام 1967، بدأ شاهين بالعمل في فيلم (الناس والنيل) وهو إنتاج مشترك
مصري/سوفياتي، عن تعاون البلدين في بناء السد العالي، إلا أن النسخة الأولى
من الفيلم لم تعجب المسئولين المصريين، مما اضطره الى إجراء تعديلات عليه،
انتهت الى نسخة جديدة منه لم تعجبه هو. وقد كان هذا الفيلم خاتمة مرحلة نمو
الوعي الاجتماعي؛ وبداية تعمق الوعي السياسي عند شاهين، مرحلة جديدة أعقبت
هزيمة 1967، بدأها بفيلم (الأرض ـ 1968)، حيث لم تكن هذه المرحلة هامة
وحاسمة بالنسبة لشاهين فقط، وإنما كان صدى الهزيمة وتأثيرها قد أصاب غالبية
المثقفين العرب، إن لم نقل غالبية الشعب العربي.
كانت الهزيمة بمثابة الصفعة القوية والحدث الأفجع، بل كانت مرحلة انتهت
فيها العفوية والتعاطف مع الطبقات الشعبية، وجاءت لحظة الالتزام الحقيقي
والوعي السياسي والاجتماعي الجاد. وقد بدا ذلك واضحاً بالنسبة ليوسف شاهين،
حيث ذلك الفرق ما بين فيلمي صراع في الوادي، الأرض، على الرغم من طرحهما
لموضوع متشابه، ألا وهو صراع الفلاحين ضد الإقطاع. فقد عبر شاهين بصدق عن
هذا الصراع في فيلمه (الأرض)، وأكد مقدرته على النفاذ الى أعماق الفلاح
وتصوير حياته البسيطة التي تمتزج فيها المأساة بلحظات الفرح، وكان الفيلم
بمثابة التحفة الفنية الرائعة، ومن أهم ما أنتج في السينما المصرية عن
الأرض والفلاح.
بعد (الأرض)، أصبحت الرؤية الفكرية والوعي السياسي لدى شاهين واضحين، بل
أخذا يتأكدان من فيلم الى آخر. ففي فيلم (الاختيار ـ 1970) يتأمل شاهين
أوضاع المثقفين وينتقد مواقفهم، وكأنه بذلك يمارس نقداً ذاتياً، حيث يناقش
قضية ازدواجية المثقف ودوره في التفاعل مع قضايا الجماهير. أما في فيلم
(العصفور ـ 1973) فيناقش، وبتحليل فكري ناضج، الأسباب الحقيقية للهزيمة،
ويطرح وجهة نظر جريئة جداً، بل ويعلن صراحة بأن الشعب لم يهزم، وإن القيادة
هي التي انهزمت. إن (العصفور) هو أكثر أفلام شاهين وعياً وجرأة، فيه يسجل
اكتمال مرحلة تعمق الوعي السياسي والاجتماعي، ويصل به الى خط اللارجعة، فلم
يعد بإمكانه أن يرجع خطوة واحدة الى الوراء.
أما أفلامه الأخرى، والتي تلت (العصفور)، فقد حاول فيها ـ ونجح الى حد كبير
ـ يتابع ويقدم كل ما هو جديد ومتطور في الأوساط السينمائية العالمية،
كأسلوب وأدوات وحتى تقنية، هذا مع استمراره في تناول قضايا سياسية
واجتماعية تهم الجماهير وتهمه هو بالذات، خصوصاً في ثلاثيته (إسكندرية ليه
ـ 1978 ، حدوتة مصرية ـ 1982 ، إسكندرية كمان وكمان ـ 1990)، ففي أفلامه
هذه قدم يوسف شاهين أسلوباً جديداً تميز بحركة كاميرا خاصة وسريعة، وزوايا
تصوير استثنائية، وحوار سريع ومركز، إضافة الى المونتاج الحاد السريع
والنابض بالحركة.. وهذا بالطبع شيء مربك لعين المتفرج، هذا المتفرج الذي
أصر على عدم الفهم.
وفي مرحلته الأخيرة، أو في أفلامه الأخيرة على أصح تعبير قرر يوسف شاهين أن
يقدم ما يريده هو، دون اهتمام قصدي إن كان جمهوره سيعي أو سيتواصل مع ما
يقدمه، وهذا بالطبع حق مشروع لأي فنان، حيث إن ارتفاع مستوى الجمهور
الثقافي والفني أو عدمه، يُفترض أن لا يكون عائقاً أمام أي فنان يسعى الى
التجديد، وبالتالي ليس على الفنان أن يتوقف عن إطلاق الحرية لخياله
وأفكاره، لمجرد أن هناك متفرجاً / متلقياً لم يتطور أو حتى لم يحاول
الارتقاء بفهمه واستيعابه للفن المتجدد. وهذه بالفعل معضلة اختلف حولها
الكثيرون، ومن بينهم مَنْ اختلف مع يوسف شاهين واتهمه بالتعالي وعدم
الاهتمام بقضايا الجماهير.
ولم يكن رصدنا السابق، لمسيرة يوسف شاهين، إلا رداً وتذكيراً لهؤلاء، حيث
أن هذا المخرج لم يتناسى قط قضايا المجتمع، سياسية كانت أو اجتماعية، بل
إنه قدمها بشكل جريء وصارخ لم يسبقه إليه أحد. ثم هل الفنان مطالب بالرضوخ
لرغبات الجمهور، وتقديم ما يريده هذا الجمهور ؟ أم إن العكس هو الصحيح ؟
شخصياً، أعتقد بأن هذا إجحاف بحق الفن والفنانين بشكل عام. |