هاهي تمر العشرون عاماً.. وما زلنا نفتقد موهبته الفذة التي لن تتكرر أبداً..
محمود المليجي.. ذلك العملاق الذي رحل مع بداية الثمانينات، لتفتقد الساحة
السينمائية.. زمزاً هاماً من رموزها الفنية. أحياناً أتخيل بأن المليجي ما
يزال يعيش بيننا.. وذلك عندما أشاهد أدواره الخالدة المتكررة على الشاشة
الصغيرة.. فهو مازال يملأ الشاشة بأدائه الأخاذ الذي يضاهي عمالقة التمثيل في
العالم أجمع.
هو أحد رواد الفن الأدائي في العالم، قدم من خلال مشواره الفني أكثر من
سبعمائة وخمسين عملاً فنياً، ما بين سينما ومسرح وتليفزيون وإذاعة.. ورحل عنا
كما يرحل المحارب في ميدان المعركة.. مات محمود المليجي في موقع التصوير..
فجأة، وأثناء تناوله القهوة، سقط وسط دهشة الجميع، بعد رحلة عطاء مع الفن
استمرت أكثر من نصف قـرن.
أول ظهور له في السينما كان في فيلم (الزواج) الذي أنتجته وأخرجته فاطمة رشدي
عام 1932، وقام هو بدور الفتى الأول أمامها.. كما أنه وقف، في عام 1936، أمام
"أم كلثوم" في فيلمها الأول (وداد).. إلا أن دوره في فيلم (قيس وليلى ـ 1939)
هو بداية أدوار الشر له، والتي استمرت في السينما قـرابة الثـلاثين عاماً..
حيث قدم مع "فريد شوقي" ثنائياً فنياً ناجحاً، كانت حصيلته أربعمائة فيلماً.
قدم المليجي مختلف الأدوار، وتقمص أكثر من شخصية: اللص، المجرم، الوسيم،
القوي، العاشق، رجل المباحث، البوليس، الباشا، الكهل، الفلاح، الطبيب،
المحامي.. كما أدى أدواراً كوميدية أيضاً. كانت نقطة التحول في حياة "محمود
المليجي" في عام 1970، وذلك عندما اختاره المخرج "يوسف شاهين" للقيام بدور
"محمد أبوسويلم" في فيلم "الأرض".. فقد عمل فيما بعد في جميع أفلام يوسف
شاهين، وهي: الاختيار، العصفور، عودة الابن الضال، إسكندرية ليه، حدوته
مصرية.
دوره في فيلم الأرض، جعله يحمل لقب (أنتوني كوين الشرق)، ففي هذا الفيلم قدم
أعظم أدواره على الإطلاق. فلا يمكن لأحد منا أن ينسى ذلك المشهد الختامي
العظيم، ونحن نشاهد المليجي أو "محمد أبوسويلم" وهو مكبـَّل بالحـبال والخـيل
تجـرُّه على الأرض محـاولاً هـو التـشـبث بجذورها. ولم تكن روعة المليجي في
فيلم الأرض تكمن في الأداء فقـط، بل في أنه كـان يؤدي دوراً معبراً عن
حقيقته، خصـوصاً عندما رفض تنفـيذ هذا المـشـهد باسـتخدام بديل"دوبلير"،
وأصَّـر على تنفـيذه بنفسه.
لم يكن المليجي ـ قط ـ مجرد ممثل، بل كـان فناناً.. عـاش ليقدم لنا دروساً في
الحياة من خلال فنه العظيم. كانت معظم أدواره، حتى أدوار الشر، تهدف إلى مزيد
من الحب والخير والإخلاص للناس والوطن.. كان مدرسة فنية في حد ذاته.. وكان
بحق أستاذاً في فن التمثيل العفوي الطبيعي، البعيد ـ كل البعد ـ عن أي انفعال
أو تشنج أو عصبية.. كان يقنع المتفرج انـه لا يمثل، ومن ثم اكتسب حب الجماهير
وثقتهم.
كان المليجي فناناً صادقاً مع نفسه.. وإنساناً مع زملائه الفنانين، وأباً
روحياً لهم، ورمزاً للعـطاء والبـذل والصمود أمام كـل تيـارات الفن الرخيص،
ورمزاً لفنان احترم نفسه فاحترمه جمهوره.
|