كنت أنوي أن أتحدث في فيلم (وجهاً لوجه) عن الأحلام والواقع، حيث تصبح
الأحلام واقعاً ملموساً، ويتلاشى الواقع ليتحول إلى حلم. وكنت قد
استطعت في محاولات كثيرة أن أزيل الحواجز بين عالمي الأحلام والواقع
كما في أفلام (برسونا) و(الليلة العارية) و(صرخات وهمسات) لكن الوضع
مختلف الآن. لقد تطلبت نواياي إلهاماً خذلني، فأصبح تسلسل الأحلام
مركباً والواقع غير واضح، ثمة مشاهد قوية هنا وهناك وليف أولمان تكافح
فيها بضراوة، لكنها لم تستطع إنقاذ الذروة.
كان الظلام يخيم حولي دون أن أراه. أرادوا في التلفزيون الإيطالي أن
يصوروا فيلماً عن حياة المسيح، وكان يقف وراء هذا المشروع خبازون
أقوياء، حضر خمسة منهم إلى السويد ليفاوضوني على العمل، فعرضت عليهم
ملخصاً للفيلم يستعرض الثماني والأربعين ساعة الأخيرة من حياة المنقذ،
ويتألف من مجموعة مشاهد يروي كل منها قصة إحدى الشخصيات المهمة في هذه
الدراما: بيلاطس البنطي وزوجته، بطرس، مريم والدة المسيح، مريم
المجدلية، الجندي الذي ثنى التاج وسمعان الذي حمل الصليب، ويهوذا
الخائن. كل شخصية لها مشهدها الخاص الذي تتضح خلاله مواجهتهم للمأساة
التي دمرت واقعهم وغيرت حياتهم. من ناحية أخرى أخبرت جماعة التلفزيون
الإيطالي أنني أنوي التصوير في فارو، حيث ستكون قاعة المدينة القديمة
سور القدس والبحر بحيرة طبرية، وسوف أرفع الصليب فوق هضبة لانغهامر.
قرأ الإيطاليون الملخص، وتأملوه بكآبة ثم رحلوا ووقعوا عقداً سخياً مع
فرانكو زيفيريلي الذي أخرج لهم فيلماً عن حياة وموت المسيح.
كان الظلام يخيم حولي دون أن أراه.
عادت حياتي هانئة بعد أن تخلصت من الصراعات المضنية، وتعلمت كيف أتعامل
مع شياطيني واستطعت تحقيق أحد أحلام طفولتي، فبعد انتهاء تصوير (مشاهد
من حياة زوجية) في البيت القديم الذي أعدنا إصلاحه في دامبا بفارو،
حولت البيت إلى قاعة للعرض مع غرفة مونتاج في مخزن التبن.
وبعد الإنتهاء من مونتاج (الناي السحري) قمت بدعوة كل من شارك بالفيلم،
بالإضافة إلى أهالي فارو وبعض الأطفال، لحضور العرض الأول. كان شهر آب
والقمر بدراً والضباب فوق دامبا والطواحين تدور في الضياء البارد.
عندما يتقد السن بالمرء تخف حاجته للتسلية واللهو، وأشعر الآن
بالإمتنان لكل أيام ي اللطيفة وليالي المؤرقة. لقد منحتني غرفة العرض
السينمائي في فارو متعة لا توصف، واستطعت من خلال علاقتي الطيبة مع
أرشيف معهد الفيلم أن أستعير أفلاماً قديمة من مستودعهم الذي لا ينضب.
لدي كرسي مريح وغرفة دافئة، يسود الظلام لبرهة ثم تظهر الإرتعاشات
الأولى على الحائط الأبيض. الهدوء يعم المكان وآلة العرض تصدر صوتاً
خافتاً في غرفة العرض المعزولة، وتتحرك الظلال، ويلتفتون بوجوههم إلي
وكأنهم يحثوني أن أتابع مصائرهم..
لقد إنقضى ستون عاما وما زالت الإثارة هي نفسها.
أنغمار برغمان
(المصباح السحري)
|