نواصل سرد رسالة رولان بارت المهمة للمخرج أنتونيوني.. فهو هنا يبدأ في
الدخول في أعماق هذا الفنان من خلال أفلامه.. فيقول:
أفلامك ليست انعكاسا ساكناً، وإنما هي أفلام متألقة ومليئة بالبريق كلما
نظرنا إليها من زاوية نظر مختلفة وتحت سطوة ضرورات زمنية مختلفة سواء من
الناحية الاجتماعية للشخصيات، أو من ناحية معانيها أو حتى من ناحية ذلك
التوتر الشكلي المتعلق بطريقة السرد الفيلمي أو استخدام اللون.
إن قلقك بصدد المصدر ليس قلق رجل مؤرخ أو سياسي أو رجل أخلاقي، وإنما قلق
رجل طوباوي يبحث في نقطة ما عن ملامح عالم جديد لأنه هو نفسه مليء بالحب
والرغبة لهذا العالم ويود المشاركة فيه. إنه اهتمام الفنان والذي هو
اهتمامك، هو اهتمام عاشق مشتاق وملتاع.
أما فيما يخص (حكمة) الفنان فأنا أفهم الأمر ليس كفضيلة الأخلاقيين الإغريق
أو كقول متزن ورصين، وإنما بالضد من كل العلوم الأخلاقية والضد من كل قوة
قسرية تمنع الفنان أن يغير من مضمون أو حقيقة الأشياء. فكم من الجرائم
أقدمت عليها البشرية باسم الحقيقة! ولم تكن هذه الحقيقة سوى فكرة، وكم من
الحروب، المطاردات، الرعب وإبادة الشعوب جرت تحت حمى فكرة ما!.
إن الفنان يعرف إن فكرة عن شيء ما لا تعني حقيقة ذلك الشيء، إن هذه المعرفة
بحد ذاتها هي الحكمة إنها حكمة مجنونة تبعد الفنان عن الجميع، عن قطيع
الدعاة والمتعصبين والمتحذلقين.
ولكن ليس كل فنان يمتلك هذه الحكمة، فالبعض منهم يكتفي بالفكر، وهذه
العملية الإرهابية تسمى عادة (الواقعية). وأعتقد أنك تلمست الحس السليم
حينما أوضحت في حوارك مع غودار قائلاً: "إنني أكتشف الحاجة في نفسي لأعبر
عن الواقع بمصطلحات غير واقعية بالكامل"، إنك لا تضغط على الفكر، لكنك لا
تتركه أبداً، هذه الجدلية تمنح أفلامك رقة عظيمة، ففنك يقف على أرضية هي:
أن طريق الفكر يجب أن يبقى مفتوحاً على المجهول دائماً، وكأن ذلك ليس إلا
من باب تأنيب الضمير، وفي هذه النقطة بالذات جسدت مهمة الفنان الذي يحتاجه
عصرنا، فهو دوغمائي وغير محدد.
إن شيوع الفكر، أو بدقة أكبر، هذه النبرة المتأخرة للفكر تؤدي إلى سبل
تقنية وفيلمية كبيرة (الديكور، زوايا الكاميرا، المونتاج) التي ليس بمقدوري
تحليلها لقصوري وعوزي إلى المعرفة المتخصصة في هذا المجال، لكنني أود أن
أقول هنا وأن أؤكد انطلاقا من أعمالك السينمائية على التزام الفنان إزاء
العالم.
إنك تركز على الأشياء التي يقولها الإنسان، يرويها، يراها أو يتحسسها،
وبشكل دقيق جداً، ورقة المشاعر هذه، وهذه القدرة الفائقة على الإقناع في أن
المشاعر ليست محدد بالسمات المتداولة والمعروفة عنها، وإنما هي تتجاوز ذلك
متأثرة بما يقع بعيداً جداً خارج مملكة المشاعر.
|