في
الثاني والعشرون من يونيو الماضي، مرت الذكرى العاشرة على رحيل رائد
الواقعية في السينما المصرية.. الفنان الكبير صلاح أبوسيف.. هذا العلم
الفني البارز الذي لايمكن يعد من أبرز المخرجين السينمائيين العرب، بل
ذاع صيته ليتظمن موسوعات السينما العالمية.. كواحد من مؤسسي مدرسة
الواقعية في السينما العربية.
والواقعية عند صلاح أبو سيف كانت تعني أن ترى الواقع وأن تنفذ ببصرك
وبصيرتك في أعماقه وأن تدرك وتعي جذور الظاهرة، لا أن تكتفي برصد
ملامحها فقط. وهذا بالضبط ما جسده في أفلامه الكثيرة والمهمة.. فهو
صاحب أفلام (الأسطى حسن ـ 1952، ريا وسكينة ـ 1953، الوحش ـ 1954، شباب
امرأة ـ 1957، الفتوة ـ 1957، القاهرة 30 ـ 1966، القضية 68 ـ 1968،
السقامات ـ 1977، البداية ـ 1986)، وغيرها من أفلام مازالت تعد من
كلاسيكيات السينما العربية.
نال
صلاح أبو سيف شهرة عالمية، إضافة إلى شهرته في العالم العربي، بل أنه
من أبرز المخرجين العرب شهرة في العالم. فقد اشترك بأفلامه في الكثير
من المهرجانات السينمائية الدولية، مثل مهرجان كان ومهرجان برلين
ومهرجان موسكو ومهرجان كارلو فيفاري ومهرجان فينيسيا ومهرجان فيفاي.
كما حصل على جوائز وشهادات تقديرية منها. وعرضت معظم أفلامه في الكثير
من أسابيع الفيلم المصري والعربي في العالم. هذا إضافة إلى الجوائز
المحلية الكثيرة التي حصلت عليها أفلامه.
وقد
أمدت أفلام أبو سيف ـ بريادتها وثرائها الفني ـ النقاد بمادة متجددة
للدراسة والتحليل، فأصبحت أفلامه بمثابة المعايير التي تقاس بها جودة
الأفلام الجديدة، وهي ـ بالطبع ـ معايير على قدر كبير من الدقة والصدق
والحساسية، تمنح الناقد قدرة على الحكم بنزاهة.
يتحدث
الناقد والمؤرخ الفرنسي العالمي جورج سادول عن أفلام صلاح أبو سيف،
فيصفها: (...بأنها قد خلقت في مصر تياراً لا تقل فعاليته عن تيار
الواقعية الجديدة الذي نشأ في إيطاليا، وأدى إلى خلق موجات جديدة في
فرنسا وإنجلترا وأمريكا...). وفي مكان آخر يقول سادول: (...إن أبو سيف
يعد واحداً من أفضل عشرة مخرجين في العالم...). أما جمعية النقاد
الفرنسية، فقالت عنه: (...إنه مخرج عالمي متميز...).
وكتبت
الباحثة السينمائية الألمانية أريكا ريشتر عن صلاح أبو سيف، فقالت:
(...يعتبر صلاح أبو سيف بحق أستاذ الفيلم الواقعي في مصر، وتمثل أفلامه
العمود الفقري للفيلم الواقعي العربي، وتحدد بظهوره اتجاها حساساً في
تطور السينما العربية...).
وبعد
مرور عقد كامل على رحيل هذا الفنان الكبير، هل يمكن القول بأن هناك من
خلفه فنياً. صحيح بأن أبو سيف فنان لا يمكن تعويضه، بكل ما قدمه من رؤى
فنية وأسلوب سينمائي وابتكارات ووجوه جديدة في مجال السينما، وبالتالي
لابد أن يكون له تلاميذ حرصوا على مواصلة الدرب الذي بدأه. وفي الوسط
السينمائي المصري هناك طابور طويل من المخرجين الذين تخرجوا من مدرسة
صلاح أبو سيف، وحاولوا محاكاة البعض من أفلامه فنياً. فهناك أشرف فهمي
الذي أعاد إخراج فيلم (لك يوم يا ظالم) في فيلم بعنوان (الوحش داخل
إنسان). وعلي عبد الخالق الذي قدم محاكاة لرائعة (الفتوة) في فيلم (شادر
السمك). وعاطف الطيب الذي أطلق اسم حسن على بطل فيلمه (سواق الأتوبيس)
تيمناً وتبجيلاً لأستاذه الذي قدم (الأسطى حسن) منذ أكثر من ثلاثة
عقود. وكما انطلق محمد خان، مستكملاً توغل أبو سيف في أحراج المدينة،
اتجه هاشم النحاس من خلال الفيلم التسجيلي، إلى النفاذ ببصره وبصيرته
في أغوار الواقع. وهناك الكثير من اللمحات والإسقاطات الفنية التي
تناثرت هنا وهناك في أفلام مخرجي السينما المصرية الجديدة (الواقعية
الجديدة)، أبرزهم عاطف الطيب، محمد خان، خيري بشارة، داود عبد السيد.
صحيح بأن هؤلاء المخرجون قد خطوا لأنفسهم طريقاً جديدة في التعبير عن
الواقع، إلا أنهم لا ينسون فضل أبو سيف وتأثيره عليهم، فهو الذي علمهم
السينما في بداياتهم الأولى.
ولد
صلاح أبو سيف في حي من أفقر أحياء القاهرة (بولاق) عام 1915، مع بدايات
الحرب العالمية الأولى، ونشأ في بيئة شعبية فقيرة. وقد كان حي بولاق في
تلك الفترة يموج بالمقاومة الشعبية والإضطرابات والعنف بين المصريين
والاستعمار البريطاني. وبولاق هو نفس الحي الذي اندلعت منه ثورة 1919،
وكان خاله من بين المناضلين الذين اعتقلتهم السلطات البريطانية. ومن
الطبيعي أن يكون لكل هذا الزخم تأثيراً كبيراً ومباشراً في نشأة صلاح
أبو سيف وتشربه بالروح الوطنية ضد الاستعمار، وبالتالي كان له أكبر
الأثر على بناء شخصيته أيضاً وتكوين فكره السياسي فيما بعد.
أما
بالنسبة لبداية تعرفه بالسينما، فيقول أبو سيف: (...كانت بداياتي مع
السينما كتاباً صغيراً وقع في يدي وعمري عشر سنوات، يتحدث عن مخرج
السينما.. وكانت السينما قبل هذا الكتاب عبارة عن ممثلين.. هكذا كنت
أتصور. وعندما قرأت الكتاب قررت أن أكون مخرجاً سينمائياً...).
وفي
فترة شبابه، وعندما كان يعمل في شركة النسيج بالمحلة، إشتغل أبو سيف
بالصحافة الفنية. وفي عزلته عن الوسط الفني والسينمائي هناك، انكب على
دراسة فروع السينما المختلفة والعلوم المتعلقة بها، مثل الموسيقى وعلم
النفس والمنطق، علاوة على معايشته للظروف البائسة التي يعاني منها عمال
المحلة.
وهناك
في المحلة، التقى بالمخرج نيازي مصطفى، والذي ساعده في الانتقال إلى
أستوديو مصر، وكان ذلك عام 1936، ومن ثم أصبح رئيساً لقسم المونتاج
بالأستوديو لمدة عشر سنوات.. حيث تتلمذ على يده الكثيرون في فن
المونتاج.
وفي
بداية عام 1939، وقبل سفره إلى فرنسا لدراسة السينما، عمل صلاح أبو سيف
كمساعد أول للمخرج كمال سليم في فيلم العزيمة، والذي يعتبر الفيلم
الواقعي الأول في السينما المصرية.
هنا
نصل للمرحلة الثانية من مشوار هذا الفنان العملاق، والتي تعتبر من أهم
المراحل في حياة مخرجنا أبوسيف، وهي المرحلة التي أطلق فيها أهم أفلامه
الواقعية. فعندما عاد من إيطاليا حيث كان يخرج النسخة العربية من فيلم
(الصقر ـ 1950)، كان قد تأثر بتيار الواقعية الجديدة في السينما
الإيطالية. وأصر على أن يخوض هذه التجربة من خلال السينما المصرية.
فعندما عرض أبو سيف سيناريو (لك يوم يا ظالم ـ 1951) على المنتجين،
رفضوا هذه المغامرة، كما رفضوا من قبل فكرة المخرج كمال سليم في إخراجه
فيلم العزيمة. مما اضطر أبو سيف إلى إنتاج هذا السيناريو بنفسه حيث نجح
ولاقى إقبالاً جماهيرياً ونقدياً كبيراً.
ثم
بعد ذلك قدم أفلامه الواقعية الأربعة، والتي تعتبر نقلة فنية هامة، ليس
في مشوار صلاح أبو سيف فحسب، وإنما في مسيرة السينما المصرية بشكل عام.
هذه الأفلام الأربعة هي: الأسطى حسن ـ 1952، ريا وسكينة ـ 1953، الوحش
ـ 1954، شباب امرأة ـ 1957، الفتوة ـ 1957. وقد ناقش أبو سيف في
الفيلمين الأولين، الانهماك في الملذات التي تميز بها المجتمع القديم،
إضافة إلى تجسيد ظاهرة الاضطهاد الاجتماعي وعلاقة المجرم بالسلطة
الاجتماعية والمصلحة المشتركة بينهما. بينما وصف في الفيلمين الآخرين
ألاعيب ودسائس النظام الاجتماعي والاقتصادي من خلال حركة الأفراد
ومواقفهم الخاصة.
فيلم
(الأسطى حسن) يشكل وصفاً تفصيلياً لمجتمع الأغنياء ومجتمع الفقراء..
بين حيين: الزمالك الذي يعتبر أغنى أحياء القاهرة، وبولاق الذي يعتبر
أفقرها. وهما قريبان من بعض ولا يفصلهما إلا نهر النيل ويربطهما جسر
يمتد في النهر. حيث نلاحظ في أكثر من مشهد منظر هذا الجسر، وكأن أبو
سيف يريد التأكيد على هذا التقارب المكاني بينهما، بالرغم من التفاوت
الطبقي بينهما.
بعد
ثورة يوليو 52، برزت موهبة صلاح أبو سيف بوضوح، فبعد أن كان قبل الثورة
في حالة وصف للمجتمع (الأسطى حسن)، اتخذ، بعدها، من الإنسان الفقير
والمسحوق بطلاً لأفلامه، بعد أن كان بطل غالبية الأفلام السابقة من
الباشوات. وبفيلم (الفتوة) ينهي صلاح أبو سيف مرحلة مهمة تعتبر من أخصب
مراحل مشواره السينمائي وأعظمها.
بعد
(الفتوة)، دخل أبو سيف مرحلة الإنتاج الوفير، فقدم في الفترة من 1957
إلى 1968، ستة عشر فيلماً، تنوعت مواضيعها بين الواقعية والوطنية
والعاطفية والغنائية، وتفاوتت في جودتها من فيلم إلى آخر. ففي أفلام
(الطريق المسدود ـ هذا هو الحب ـ أنا حرة)، عالج موضوع مهم بالنسبة
لتلك الفترة من حياة مصر السياسية والاجتماعية، مع بروز وتطور العلاقات
الاجتماعية، وهو موضوع تحرر المرأة وخروجها للعمل جنباً إلى جنب مع
الرجل، وأعطاها حق الانتخاب وحق الاختيار في الحب والزواج. أما أبرز
أفلامه السياسية والواقعية في هذه الفترة، فكانت بين السماء والأرض،
بداية ونهاية، القاهرة 30، الزوجة الثانية، القضية 68.
في
هذه المرحلة، قدم أبو سيف مجموعة كبيرة من الأفلام، تفاوتت في المستوى
وتعددت في النوعية. ومن أهمها (حمام الملاطيلي، السقامات).
بعد
تناولنا لأبرز ملامح مسيرة أبو سيف السينمائية منذ بدأ مشواره الفني
وحتى وفاته. نصل إلى استنتاجات وملاحظات هامة ميزت مسيرته السينمائية
الطويلة والمتميزة.
1.
التأثر بالسينما السوفييتية:
لقد
تأثر أبو سيف بالسينما السوفييتية في أغلب أفلامه. ففي حديث له، قال:
(...لا أنكر تأثري بالسينما السوفييتية، لأنها أول من لفت نظري من خلال
إطلاعي على الكتب السوفييتية التي كتبت عن السينما. وأنا مميز بالرمزية
والواقعية معاً. بمعنى أن الرمزية عندي ليست تفلسفاً، وإنما أنا أكتب
بالكاميرا ما أشاهده وأحس به ويحس به كل إنسان مهما كانت ثقافته بسيطة.
وعندما كنت أرمز إلى شيء في مشهد ما في أفلامي كان الجميع يفهمون ما
عنيت...).
2.
السيناريو هو الأهم:
والميزة الثانية هي أن أبو سيف قد اشترك في كتابة السيناريو لجميع
أفلامه. فهو يعتبر كتابة السيناريو أهم مراحل إعداد الفيلم.فمن الممكن
عمل فيلم جيد بسيناريو جيد وإخراج سيء ، ولكن العكس غير ممكن . لذا فهو
يشارك في كتابة السيناريو لكي يضمن أن يكون كل ما كتبه السيناريست
متفقاً مع لغته السينمائية.
3.
الواقع والحقيقة في السينما:
إن
أغلب أفلام أبو سيف قد حدثت في الواقع، أو أنها مأخوذة من حوادث
حقيقية. فقصة فيلم (ريا وسكينة) معروفة. وفيلم (شباب امرأة) خطوطه
الرئيسية مأخوذة عن تجربته الشخصية عندما سافر إلى باريس. و(الفتوة)
جاءت قصته بعد أن قرأ تحقيقاً في إحدى الصحف عن تجار الخضروات، وكيف
يدورون سوق الجملة. حتى فيلم (بين السماء والأرض) مأخوذ عن تجربة
شخصية، عندما تعطل به المصعد مع زوجته، فخطرت له الفكرة وحملها إلى
نجيب محفوظ ليبني عليها القصة. وأيضاً فيلم (الوحش) الذي يحكي عن ذلك
المجرم الذي طاردته السلطات المصرية لفترة طويلة. وأخيراً يأتي فيلم
(الكذاب) وهو عن حادثة سرقة أموال القطاع العام في مصر.
4.
أبو
سيف والرقابة:
كانت
أفلام صلاح أبو سيف محل انتباه الرقابة دائماً. فمثلاً كان شرط الرقابة
لتمرير فيلم (الأسطى حسن) هو وضع عبارة (القناعة كنز لا يفنى) في أحد
مشاهد الفيلم. كما اشترطت الرقابة لإجازة فيلم (الوحش) بأن توضع عبارة
(قديماً).. في أقاصي الصعيد) في بداية الفيلم. أما فيلم (القضية 68)
فقد منع من العرض في مصر، وعرض في الخارج أولاً، وبعد أن لاقى نجاحاً
كبيراً أجيز للعرض داخل مصر وهوجم في الصحافة بشكل قاس جداً. وقد كانت
صالة العرض تحت حراسة الشرطة، وإلى اليوم الموقف من هذا الفيلم في مصر
لم يتغير. ورمي الفيلم في المخازن، ولا أحد يريد أن يسمع عنه شيئاً.
5.
محفوظ.. أبو سيف:
إن
ارتباط اسم الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ بمعظم أفلام أبو سيف،
ليعتبر تجانساً أدبياً وفنياً واقعياً، قد أثمر أفلاماً سينمائية جيدة
وقوية في المضمون الدرامي والتكنيك الفني. فنجيب محفوظ يعتبر من أبرز
كتاب الرواية الواقعية في الوطن العربي، وأبو سيف من أبرز المخرجين
الواقعيين. وقد عمل الإثنان في أفلام كثيرة ليكونا ثنائياً فنياً
ناجحاً.
هذا
هو صلاح أبو سيف الذي رحل.. رحل بعد تاريخ فني طويل وحافل بالإنجازات
السينمائية، والتي ستظل علامات محفوظة في ذاكرة السينما والجمهور على
السواء.
|