وإذا كان أهل القرية في فيلم (امرأة الملازم الفرنسي ـ 1981)
يُسمُون "سارة" (الآنسة مأساة) فقد يكون ما يعنونه هو مأساتها
الشخصية مع الملازم الفرنسي الذي أقامت معه علاقة آثمة ثم هجرها،
وهم بذلك يحبسون أنفسهم في النظرة الأخلاقية.. مع أن الفيلم، في
رؤيته الشمولية، يتجاوز هذه الرؤية الأخلاقية إلى مأساة أكبر هي
مأساة الوجود في العصر الخطأ. هنا تكون مأساة "سارة" أعمق من مجرد
سقوطها الجسدي مع ملازم فرنسي، بل إن هذا السقوط نفسه هو أُكذوبة
اخترعتها "سارة" (نعرف ذلك عندما تعترف لـ"شارلز" بعد اكتشافه إنه
أول رجل في حياتها)، وكأنها اختارت أن تعاقب نفسها بالفضيحة والعار
والامتهان، كنوع من تعذيب النفس.. وما نفهمه نحن من هذا السلوك
الغريب هو أنها وجدت نفسها عنصراً غريباً أكثر رقياً من الوسط
المحيط بها فقررت أن ترتفع عن هذا الوسط بأن تصبح منبوذة فيه، أي
منفية باختيارها.. وما كانت تبحث عنه "سارة" بالتأكيد هو أن توجد،
لا بالمعنى الجسدي وإنما بأن يصبح لها كيان ويمكن أن يحقق ذاتها،
لذلك نراها تصر على أن ترسم باستمرار حتى تنجح في النهاية، وتجد ما
يجعلها متفردة بموهبتها في الرسم، ولكن ما هو أهم من ذلك بالنسبة
لها أنها وجدت حريتها.
يبقى أن نقول بأن (امرأة الملازم الفرنسي) فيلم رائع ومبتكر في
أسلوب إخراجه، حيث استطاع مخرجه "كاريل رايز" أن يتجاوز القاعدة
السينمائية التقليدية ويرسم خطاً جديداً للسينما، استخدم فيه خبرته
الطويلة في المونتاج عبر لغة سينمائية هادئة ومتوازنة مع الحدث
ومستفيداً بالموسيقى الهادئة أيضاً، والتي ألفها "كارل ديفز"
ليوظفها باقتصاد وتركيز بحيث لا تفرض نفسها في صخب وإنما تبقى في
الخلفية لتتناسب وأسلوب الفيلم في قول أشياء كبيرة من خلال مشاعر
داخلية. وهناك أيضاً الدور الهام جداً للتصوير في فيلم كهذا يقوم
أساساً على الصورة وجمالها وقوة تعبيرها، ليس فقط من حيث توفير
الجو المطلوب درامياً كخلفية للأحداث، أو في التصوير الداخلي الذي
يتطلب تحقيق جو من الكآبة والاختناق لمحاصرة الشخصيات، وإنما أيضاً
محاولة الاستفادة من كل جماليات الطبيعة الإنجليزية، والتي يقدمـها
مـدير التـصـويـر "فريدي فرانسيس" فيما يشبه اللوحات التشكيلية
المبهرة.
ثم لابد، قبل ختام موضوعنا هذا، من الإشارة إلى ذلك الأداء المتميز
والمذهل للممثلة "ميريل ستريب"، فلا يمكن تخيل هذا الفيلم بدونها،
فهي روح الفيلم ووسيلته الأساسية لتوصيل كل ما يحمله من فكر
ومضمون، ليس فقط بجمالها الأخاذ وإنما بقدرتها الرهيبة على التعبير
عن روح الضياع والانكسار والطموح والعذاب الداخلي الهائل والذي
يعكس رغبة ملحة في الحياة والحب، بمجرد التعبير الهامس منها
بالنظرة أو الإيماءة. وهناك أيضاً الممثل القدير "جيرمي إيرونز"
الذي أدى دوراً صعباً يحوي مشاعر شديدة الصعوبة باقتدار كبيراً،
وكان يمكن أن يلمع أكثر لولا أضواء "ميريل ستريب" التي سيطرت على
الأذهان والقلوب. |