أخيراً، وبعد مايقارب الستة شهور على عرضه في سينما أوال بالبحرين، نزل
فيلم (طيور الظلام - 1995) سوق الفيديو في البحرين. وهو الفيلم الذي جلب
ضجة رقابية وجماهيرية عند عرضه، وذلك للجرأة في الطرح الفكري والفني. قام
ببطولة الفيلم النجم الأسطورة عادل إمام مع يسرا وجميل راتب وأحمد راتب
ورياض الخولي.
وفيلم (طيور الظلام) هو الفيلم الرابع للثلاثي الفني (عرفة/ حامد/ إمام)،
بعد أفلام (اللعب مع الكبار، الإرهاب والكباب، المنسي). فبالإضافة الى نبض
شريف عرفة الخاص في الإخراج، كان هناك جرأة »وحيد حامد« كاتباً للسيناريو
ومنتجاً للفيلم، ومن ثم شعبية عادل إمام كنجم جماهيري خارق للعادة.
ففي فيلم (طيور الظلام)، يقدم وحيد حامد دراما إجتماعية جريئة، ترصد الواقع
المصري بكل تناقضاته وإتجاهاته، ويقدم موقفاً فكرياً سياسياً وفنياً حاسماً
تجاه أبرز القضايا المعاصرة التي يعيشها الفرد والمجتمع على السواء. وهو
بذلك يضع الفساد والإرهاب في مزيج واحد، ويقدم شخصيات حية من هذا الواقع..
شخصيات تجري وراء مصالحها الشخصية، حتى ولو أدى ذلك الى سلوكهم لطرق غير
مشروعة وملتوية. لذلك فهؤلاء هم طيور الظلام الذين يعملون في الخفاء، غير
قادرين على العمل في العلن أو الخروج بأفكارهم الى النور.
وتتمحور شخصيات وحيد حامد في ثلاثة أصدقاء تخرجوا من كلية الحقوق، الأول
فتحي نوفل (عادل إمام)، وهو محامي شاب وفقير يسكن شقة متواضعة في الأرياف،
ويعتبرها بمثابة المسكن والكتب في نفس الوقت. ولكنه عندما يريد الصعود، فهو
يستفيد من موهبته القانونية وذكائه الفطري في كشف ثغرات القانون. ومن خلال
أستاذه المحامي الكبير (نظيم شعراوي) الذي يعرفه على الوسط الراقي، عندما
يستخدمه في حل رموز قضية كبيرة تهم الرأي العام. حيث يقبل فتحي في تبرئة
متهم بإحدى قضايا الفساد مقابل المال الكثير. بعد ذلك يدير فتحي الدعاية
الإنتخابية لصالح أحد الوزراء (جميل راتب) ويلجأ الى أساليب ملتوية ذكية
الى أن ينجح في الإنتخابات، ومن ثم يصبح فتحي مدير مكتبه والرجل الثاني في
الوزارة، مما يرفع رصيده وينقله من حال الى حال، ليكون بعد ذلك أحد رموز
الفساد الكبيرة في البلد.
والصديق الثاني هو علي الزناتي (رياض الخولي)، الذي يتمتع بشخصية قوية،
ويرى بأن المستقبل سيكون للإتجاه الديني المتطرف، لذلك ينخرط فيه، ويحاول
أن يقنع فتحي بمشاركته في ذلك، إلا أنه يرفض أن يكون ضد السلطة. وينجح علي
الزناتي في الصعود ويضيء نجمه في سماء المجتمع، بعد أن وفر له أصحاب
الإتجاه الديني والإرهاب طموحات الشهرة والثراء، مستفيدين من ذكائه وقدراته
القانونية في تنفيذ مخططاتهم الإجرامية بحق المجتمع والدفاع عن الجماعات
المتطرفة.
أما الصديق الثالث فهو محسن مختار (أحمد راتب)، ذلك المواطن الشريف
والمثالي الحالم، الذي مازال يعيش سنوات الستينات المليئة بالأحلام
والشعارات السياسية. فبالرغم من أنه يعيش فراغاً ساسياً شديداً في واقع
مليء بالفساد كهذا، إلا أنه يرفض أن يكون أداة للفساد أو التطرف متخذاً
موقفاً سلبياً من الإثنين.
وهناك أيضاً، إضافة الى شخصيات الأصدقاء الثلاثة، شخصية سميرة (يسرا)،
الفتاة المطحونة التي وجدت في بيع جسدها وسيلة لتوفير حياة أفضل، والتي
دخلت حياة فتحي نوفل بعد إتهامها في قضية آداب، وبالتالي توكله للدفاع
عنها، ومن ثم تصبح البنك الذي يخفي فيه فتحي نوفل ثروته.
من هنا نتوصل الى أن فتحي نوفل وعلي الزناتي هما وجهان لعملة واحدة.
فالإثنان إنتهازيين، إلا أن إنتهازية فتحي تختلف عن إنتهازية صديقه علي،
فهو يفضل اللعب في النور ومع السلطة، على العكس من صديقه الذي يلعب مع
الجماعات الدينية المتطرفة والمعارضة للسلطة. الإثنان تجمعهما مصالح مشتركة
أحياناً.. نوفل يستعين بالزناتي في إنجاح حملته الإنتخابية للوزير، في
مقابل التستر على الزناتي في تحركاته غير المشروعة لتقوية التطرف، وإبعاد
الأمن عن طريقه. ويصل الإثنان الى مرحلة متقدمة من الشهرة والتورط.. تصل
عند الزناتي الى أن يتورط في تأمين إختباء إرهابيين بعد قيامهم بإحدى
العمليات. فيقبظ عليه. وفتحي يستغل منصبه في تكوين ثروة كبيرة، يخفيها في
جيب الشركة التي ينشئها بإسم صديقته سميرة فتاة الليل التي يضعها في طريق
الوزير، بل ويزوجها منه عرفياً ويحتفظ هو بورقة الزواج. هذا إضافة الى
زواجه من سيدة أعمال ثرية يخفي ثروته غير المشروعة في ثروتها. صحيح بأنه
يتم القبض على فتحي نوفل وعلي الزناتي من قبل الأمن، إلا أنهما يؤكدان
بأنهما لن يظلا في السجن طويلاً، فليس هناك ما يدينهما قانونياً.
إن فيلم (طيور الظلام) يقدم صرخة جريئة في وجه المجتمع، مبيناً أخطر
القضايا التي تؤرقه. وقد نجح وحيد حامد في صياغة كل ذلك في سيناريو قوي
ومتماسك وسريع، إحتفظ بعنصري الإثارة والتشويق حتى نهاية الفيلم. كما أنه
إستطاع تقديم مبررات منطقية وواقعية لتصرفات شخصياته. هذا بالرغم من تلك
السطحية التي إتصفت بها شخصية سميرة، وعدم التعمق في دواخلها. وكذلك الضعف
الواضح في رسم شخصية الوزير، الذي بدى ساذجاً مقلوباً على أمره. وقد تجسد
هذا السيناريو بعناصر سينمائية خلاقة، ساهمت كثيراً في إخفاء العيوب
القليلة التي إتصف بها السيناريو. فالمصور محسن نصر نجح في إختيار زوايا
تصوير تعبر عن الموقف وتتناسب والحدث الدرامي، إضافة الى حركة الكاميرا
السلسة والتكوينات الجمالية القوية والمعبرة والراصدة للوجوه وتعبيراتها في
الكثير من المشاهد. وقد كان المونتاج السريع والمحفز عوناً في إيصال هذا
التعبير الى المتفرج وذلك بشحنه بالتوتر. كذلك الموسيقى التصويرية ذات
التأثير الدرامي التعبيري، والتي جعلتنا نتعايش أكثر مع الحدث. كذلك
التمثيل الذي كان في عمومه صادقاً وطبيعياً ومجسداً للشخصيات كواقع حي.
وجميعها عناصر فنية نجح المخرج المبدع شريف عرفة في إدارتها وتطويعها لخدمة
السيناريو. أدارها كمايسترو لأوركسترا متناسقة ومنسجمة. |