الفنان خيري بشارة هو مخرج قدم نفسه بشكل قوي منذ بداية مشواره السينمائي..
مخرج جاء من السينما التسجيلية ليقف في صف أبرز مخرجي السينما المصرية،
خصوصاً بعد فيلمه الثاني (العوامة رقم 70).
لقد كان اسم خيري بشارة من الأسماء اللامعة في سماء السينما التسجيلية خلال
السبعينات، تخرج من المعهد العالي للسينما عام 1967، وعمل مساعداً للمخرج
عباس كامل في فيلم (أنا الدكتورـ1967) ومع المخرج توفيق صالح في فيلم
(يوميات نائب في الأرياف ـ1969). ثم سافر في بعثة تدريبية إلى بولندا لمدة
عام ونصف وعمل هناك مساعداً للإخراج في فيلم (في الصحراء والأحراش). وبعد
عودته من بولندا عمل في السينما التسجيلية، فأخرج عدداً من الأفلام
التسجيلية الهامة مثل: (صائد الدبابات ـ 1974) و(طبيب في الأرياف ـ 1975)
و(طائر النورس ـ 1977) و(تنوير ـ 1978)، والتي حصلت على تقدير نقدي وجوائز
في المهرجانات المحلية.
وبد تفوقه وبروز اسمه في المجال التسجيلي، قدم خيري بشارة فيلمه الروائي
الأول (الأقدار الدامية) عام 1980، وهو إنتاج مشترك مع الجزائر. ولم يحظ
هذا الفيلم بأية فرصة للعرض داخل مصر لأسباب عديدة. وحاول خيري بشارة في
فيلمه الأول أن يصور وضع مصر عشية حرب 1948، وذلك من خلال تعرضه للتناقض
القائم بين طبقتين إجتماعيتين: الطبقة البورجوازية الحاكمة والمالكة وبين
الطبقة العاملة والفلاحين. وقامت نادية لطفي بالبطولة مع أحمد محرز ويحيى
شاهين وأحمد زكي. وقد مزج خيري بشارة في هذا الفيلم (الجانب التسجيلي) من
خلال متابعته لحرب فلسطين (بالجانب الروائي) من خلال تصويره للوسط
البورجوازي الجامد، وتشويه صورته بشكل مبالغ فيه ومقصود، على عكس تصويره
لحياة الريف والفلاحين الذي تميز بواقعية شديدة بالغة الدقة.
أما فيلمه الثاني (العوامة رقم 70) الذي قدمه عام 1982، فقد كان الإنطلاقة
الحقيقية لخيري بشارة كمخرج جديد، بل إنه يعتبر النواة الحقيقية والمتكاملة
التي بشرت بوجود السينما المصرية الجديدة كأسلوب أو تيار مستقل عما تنتجه
السينما التقليدية في مصر.
خيري بشارة والسيناريست فايز غالي في هذا الفيلم يقدمان إدانة لجيل كامل من
خلال هذه النماذج السلبية للشخصيات التي قدماها، حيث أن (العوامة 70)
بمثابة رمز لجيل السبعينات ومشاكله وهمومه. وهما يصران حتى النهاية على عدم
خلق أي تعاطف مع بطلهما، باعتبار أن المتفرج هنا عليه أن لا يكون سلبياً
ويخرج من صالة العرض وهو راض عما شاهده. بل عليه أن يكون إيجابياً ويحاكم
البطل ويرفض سلوكه.
إن اختيار العوامة كمكان لإقامة البطل، لم يكن بالطبع أمراً اعتباطياً، بل
لأنها تمثل جزءاً مهماً من تلك الشخصية الهامشية التي فرضت على جيل كامل
ودفعته إلى الإستغراق في اللامبالاة.
وفي فيلمه (الطوق والإسورة) إنتاج عام 1986، يكشف لنا خيري بشارة عن موهبته
الفذة وطاقاته الفنية القادرة على مفاجأتنا وإذهالنا. ففي هذا الفيلم تبلغ
العناصر الفنية مستوى عالي من الإتقان وتأتي لتجسيد شكل مغاير لم تألفه
بقية الأفلام المصرية. هذا إضافة إلى السيناريو الخلاق الذي كتبه مع المخرج
الدكتور يحيى عزمي، والذي اعتمد علي خلق حالات واجواء أكثر من إعتماده على
الحدوتة والحبكة الدرامية.
والفيلم بشكل عام ينتقد بقسوة ذلك التخلف والعجز الذي يعيشه المواطن العربي
في ظل مجتمع مجدب عاجز عن الإخصاب. وهو بما يقدمه من أفكار وشخصيات لا يطرح
حلولاً، بل يطرح وجهة نظره القاسية معتمداً على خيال المتفرج لإكتشاف الخلل
وإمكانياته لتغيير تلك البنية التركيبية التي أفرزت وضعاً ونظاماً كهذا.
ثم يقدم خيري بشارة مع السيناريست فايز غالي فيلم (يوم مر.. يوم حلو) عام
1988، والذي يتحدى به الواقعية الكلاسيكية والميلودراما التجارية. حيث يقدم
فيلماً لا يبحث فيه عن حكاية تقليدية (بداية ـ وسط ـ نهاية) وإنما يبحث من
خلال شخصياته عن حالات ومواقف معينة بداقة ولافتة في حياتهم اليومية.
يقدم الفيلم شخصية الأم التي تسعى لتعليم أولادها والإظمئنان على مستقبلهم.
إلا أن الظروف الإجتماعية والإقتصادية الصعبة التي تعيشها تجعلها تفشل
أحياناً وتستسلم أحياناً أخرى.
لقد نجح خيري بشارة في تقديم فيلم يتميز بأسلوب حيوي رشيق وجميل يتأرجح في
تجسيده الواقعي بين العقل والعاطفة، مبتعداً قدر الإمكان عن تلك البكائيات
والفواجع والمصادفات التي عودتنا عليها الميلودراما التجارية.
وفي عام 1989 بدأ خيري بشارة مرحلة فنية جديدة بفيلمه (كابوريا)، حيث تمرد
على الواقعية الجديدة التي قدمها في السابق، وقدم كوميديا غنائية تسخر من
تناقضات الواقع الإجتماعي. فبعد أفلامه الأربعة السابقة الذكر والتي صبغها
بألوان واقعية شاعرية تميل الى السواد، قفز بشارة ـ وبلا مقدمات ـ الى عالم
الفانتازيا الساخرة بفيلم (كابوريا). وهو الفيلم الذي إستقبله نقاد السينما
في مصر بفتور وأحياناً بعداوة.. بينما أقبل عليه الجمهور المصري بحماس
شديد، فحقق إيرادات مرتفعة لم تسجلها سوى أفلام قليلة، من بينها أفلام
النجم عادل إمام. لقد أثار فيلم (كابوريا) عاصفة نقدية، حيث لم يكن هذا
الفيلم مختلفاً في الأسلوب عن سابقه من أفلام خيري بشارة فحسب، وإنما كان
ضعيفاً في بعضه أيضاً.. هذا إضافة الى أن النقاد والمهتمين بأفلام هذا
المخرج الفذ لم يتقبلوا هذا التحول الفني الخطير بسهولة. إلا أن خيري بشارة
لم يكترث لكل ذلك، وإستمر فيلماً بعد فيلم يؤسس لمرحلته الجديدة هذه. وفي
مرحلته الفنية الجديدة، قدم خيري بشارة بعد (كابوريا) أفلام: رغبة متوحشة
(1991)، آيس كريم في جليم (1992)، أمريكا شيكا بيكا (1993)، حرب الفراولة
(1994)، قشر البندق (1995)، إشارة مرور (1995).
مع بداية الألفية الجديدة.. لم يجد خيري بشارة في استمراره بالعمل إلا
الدراما التلفزيونية.. فقدم مجموعة من الأعمال البارزة.. إلا أن حنينه
للعمل بالسينما، دائماً ما يراوده
(ليلة في القمر ـ 2008) و(Moondog ـ 2012).. فقد كانت فعلاً فرصة مهمة
بعمله في واحد من الأفلام القصيرة (في الحب والحياة) انتاج نتفلكس، وكان
بعنوان (يوم الحداد الوطني في المكسيك). وقد لاقى استحسان الكثيرين، بسبب
طرافته وطزاجته.
# # # #
العوامة رقم 70
1982
في ظل موجة الأفلام الهابطة التي سيطرت على سوق الفيلم المصري في ثمانينات
القرن الماضي، برز لنا فيلم (العوامة رقم 70) إنتاج عام 1982، لمخرجه خيري
بشارة. ليكون بشارة للغد الآتي لسينما تحترم المتفرج.. وليعتبر أحد الأعمال
الجريئة والجادة التي ناضلت من أجل قيام سينما متقدمة وسط الكم الهائل من
الأفلام التجارية التي تصيب المشاهد بالتبلد الحسي المؤقت عند مشاهدتها.
و(العوامة رقم 70) رمز لجيل السبعينات ومشاكله، ومن خلال استعراض شخصيات
الفيلم يكون لدينا محصلة نهائية لمفهوم الفيلم .. فشخصية أحمد الشاذلي
(أحمد زكي) هي الشخصية المحورية. أحمد مخرج أفلام تسجيلية ويحلم بالتحول
إلى مخرج أفلام روائية لكن الظروف لا تسمح بذلك، ويعيش حلماً دائماً وصعب
التحقيق خاصة في الظروف التي عاشها وعاشتها مصر خلال العشر سنوات الماضية،
إنه ينتمي لجيل ممزق فقد الكثير من حماسه والتزامه الثوري، وفقد كذلك
القدرة على مواجهة الواقع بشجاعة ففضل الاستسلام للأقدار. إن أحمد واع لذلك
ولكنه مصاب بمرض جديد هو اللامبالاة، فعندما يخبره عامل محلج القطن
عبدالعاطي (أحمد بدير) عن الاختلاسات في المحلج الحكومي، لا يحرك أحمد
ساكناً وكأن الأمر لا يعنيه، بل ويحاول إلقاء العبء على خطيبته وداد (تيسير
فهمي).
وتزداد حدة الصراع داخل أحمد الشاذلي من خلال قضية عبدالعاطي، ويصبح غصباً
عنه طرفاً فيه، وعليه مجبراً اتخاذ موقف، ولأنه يعاني بعض الشيء من سيزيفية
اتخاذ القرار فلم يكن بالأمر السهل خاصة في ظل الأزمة التي وجد نفسه فيها.
حاول المخرج وكاتب القصة (خيري بشارة) أن يوضح الأزمة التي يعاني منها أحمد
بإلقاء الضوء على تاريخه وأحلامه وعلى علاقاته بمن حوله. فأحمد الذي ترك
الريف ليتلقى تعليمه في القاهرة يراوده شعور دائم بأن براءته قد سرقت، حين
يقول: (أنا لما سبت البلد براءتي إتسرقت مش قادر أرجعها تاني).. فهو يرفض
السكن في قلب القاهرة ويرفض أن ينصهر فيها.
في مقابل شخصية أحمد السلبي اللامبالي الذي يجد في عمه حسين الشاذلي السكير
الفاشل مثلاً أعلى له، علماً بأن عمه هذا يجسد جيلاً سابقاً حطمته الهزيمة
ولم يبق منه سوى حلم مكسور وحكايات بطولية واهية، نجد هناك نماذج لشخصيات
أخرى في الفيلم أكثر إيجابية من أحمد الشاذلي.
شخصية وداد خطيبته التي تعمل بالصحافة أكثر إيجابية منه، فهي المرأة
الجديدة المثقفة المتحررة والملتزمة في نفس الوقت، والتي ترفض أن تكون
تابعاً للرجل بل نداً له. وهي أيضاً نقيض النموذج النسائي الآخر الذي يقدمه
خيري بشارة.. نموذج المرأة الضائعة في شخصية سعاد (ماجدة الخطيب)، الوجه
النسائي لأحمد الشاذلي، فهما ينتميان إلى الوسط الريفي الذي يعيش تمزقاً
بين قيم القرية وقيم المدينة.
تتجسد الأزمة في داخل أحمد الشاذلي من خلال علاقاته بمن حوله، ولكن هناك
بقية شجاعة قديمة يمتلكها أحمد زيادة على الوعي الفكري الذي يحمله والذي
يمارس عليه رقابة دائمة. فالمشهد الأخير من الفيلم يوضح لنا موقف أحمد لرفض
ما يدور وإيمانه بأن الحل لن يكون بعمل أفلام عن قضية مقتل عبدالعاطي وإنما
عن دودة البلهارسيا التي تعيش في نخاع الفلاح المصري.
إن خيري بشارة وكاتب السيناريو (فايز غالي) في هذا الفيلم يدينان جيلاً
كاملاً من خلال هذه النماذج السلبية التي تقوم بدور البطولة في الفيلم،
وهما يصران حتى النهاية على عدم خلق أي تعاطف مع بطلهما. فالمتفرج هنا لا
يجب أن يكون سلبياً يخرج من صالة العرض وهو راض عما شاهده، بل عليه أن يحكم
على البطل ويرفض سلوكه.
أما اختيار العوامة لمكان إقامة أحمد الشاذلي فلم يأت اعتباطيا، فهي جزء من
هذه الهامشية التي فرضت على جيل كامل ودفعته إلى الاستغراق في اللامبالاة.
والمهم هنا أن أحمد ليس ميئوسا منه، وهذا في حد ذاته أمر إيجابي.
نجح المخرج في توظيف إمكانياته التقنية والفنية لإظهار عمل جديد وجيد في
صنعته السينمائية. حيث كان الإخراج ذو طابع مشوق وذلك لتتابع أحداثه بشكل
غير ممل، بحيث يجعلك مشدوداً حتى النهاية.
أما اختيار الممثلين، فقد كان موفقاً إلى حد كبير، فأحمد زكي في دور جعلنا
نفهم أبعاد الشخصية بكل مواقفها السلبية والإيجابية، أكدت على مقدرة هذا
الفنان في تقمص أي شخصية وإتقانها. كذلك تيسير فهمي، التي كانت منطلقة
واعية تملك الصدق والموهبة. أما الفنان الكبير كمال الشناوي في دور (حسين
الشاذلي) فقد نجح في إظهار عمق الشخصية وتقمصها بقدرة فائقة تؤكد حرفيته
كممثل له خبرته الطويلة في السينما، وهو بهذا الدور يقدم واحداً من أهم
أدواره على الشاشة. وماجدة الخطيب في دور صغير لكنه يؤكد أهمية الدور
الثانوي، حيث أعطت للدور كل ما يريده ونجحت في ذلك.
التصوير كان ذو طبيعة واقعية شاعرية تؤكد مقدرة مدير التصوير محمود
عبدالسميع على التصوير في الأماكن الحقيقية خارج الأستوديو. والموسيقى
لجهاد سامي، لم يكن لها دور رئيسي في الفيلم، فقد كانت أغلب المشاهد صامتة،
فيما عدا مشهدين أو ثلاثة، ورغم ذلك فقد كان للصمت دوراً مهماً من خلال بعض
المشاهد.
(العوامة رقم 70) يقدم لغة سينمائية راقية حاولت قدر الإمكان عدم السقوط في
توظيف مفرداتها من أجل الإبهار، وإنما من أجل تحقيق شيئاً جديداً يرفع من
مستوى الفيلم المصري وينتشله من الإسفاف والاحتضار.
# # # #
الطوق والإسورة
1986
ثلاثية التناسخ: الثبات.. العجز.. الخصوبة
في فيلمه (الطوق والإسورة) إنتاج عام 1986، يكشف لنا خيري بشارة عن موهبته
الفذة وطاقاته الفنية القادرة على مفاجأتنا وإذهالنا. ففي هذا الفيلم تبلغ
العناصر الفنية مستوى عالي من الإتقان وتأتي لتجسيد شكل مغاير لم تألفه
بقية الأفلام المصرية. هذا إضافة إلى السيناريو الخلاق الذي كتبه مع المخرج
الدكتور يحيى عزمي، والذي اعتمد علي خلق حالات وأجواء أكثر من اعتماده على
الحدوتة والحبكة الدرامية.
يعتمد الفيلم أساساً على رواية بنفس الاسم للأديب المصري الراحل يحيي
الطاهر عبدالله، ومن بين أهم ما يمتاز به الفيلم أنه أول عمل سينمائي عربي
مستوحى من رواية يجري تصويره في نفس القرية التي ولد فيها كاتبها وعاش بها
أيام الطفولة والصبا، حيث غادر خيري بشارة القاهرة المدينة مصطحباً معه
فريقه الفني من فنانين وفنيين متجهاً إلى الصعيد الجواني، وبالتحديد
الأقصر، حيث قرية الكرنك مسقط رأس صاحب (الطوق والإسورة) الرواية، من هنا
جاء ذلك الإحساس لدى مشاهدة الفيلم، بصدق الأمكنة وواقعية الأحداث التي
تتوالى صورها أمامنا محملة بالأوجاع والهموم الشيء الكثير.
يبدأ الفيلم بالتحديد في بيت "بخيت البشاري" (عزت العلايلي)، حيث ينام
وزوجته "حزينة" (فردوس عبدالحميد) وابنته "فهيمة" (شيريهان) في حجرة واحدة،
وحيث نرى الثلاثة محاصرين بالظلمة والسكون والتعب، منتظرين "مصطفى"..
الغائب الغالي الذي رحل مع الرجال هناك إلى البلاد البعيدة. هذا الغائب/
الحاضر الذي يعيش في عقل الأب المقعد العاجز الذي يبكي في الليل خلسة من
آلام مرضه، ويقاوم إلى أن يدركه الموت، كما يعيش هذا الغائب في قلب الأم
الملهوفة التي تخطف رسائله لتشمها وتقبلها ثم تدسها في الصدر الحنون، وهو
أيضاً في حواس الأخت الوحيدة وفي ذاكرتها ومخيلتها.
وينتهي الفيلم بعد عودة مصطفى من غربته فاشلاً أمياً كما كان من غير تحقيق
أي شيء، لذا نراه في النهاية يصرخ كالذبيحة (الواحد منا يسافر.. يسافر،
والغربة تفك قيوده، فيتحرر من الطوق.. يكبر ويوعى ويقطع السلاسل.. ولما
يرجع لداره.. لناسه، يكتشف الوهم.. الأساور في اليد أقوى من زمان، والطوق
على الرقبة أضيق من زمان.. والجذور هنا، الجذور قوية ومادة في الناس).
وفيما بين البداية والنهاية يحدثنا الفيلم ـ بصدق وجرأة ـ عن ذلك التخلف
الذي يعيشه مجتمع القرية بجميع أشكاله المتعددة، الاجتماعية منها
والاقتصادية، ويحكي كذلك عن مظاهر هذا التخلف المتمثلة في هيمنة الخرافة
الكبت بكل الصور والمستويات، والجهل، وازدواجية الإنسان العربي في مواقفه
وعلاقاته، وكلها مظاهر وظواهر تولد إنساناً عاجزاً ومتخلفاً.
يحدثنا فيلم (الطوق والإسورة) عن تلك الأسرة الريفية الفقيرة (بخيت
البشاري، حزينة، فهيمة) والتي سافر ابنها للسودان ومنها لفلسطين أثناء
خدمته بالجيش، فهم ينتظرونه متصورين أن الحل كله في عودته، وهو لا يعود..
يموت الأب وتتزوج الأخت من حداد عاقر (أحمد عبدالعزيز)، وبعد اجتهادات
عديدة من الأم تذهب بابنتها إلى المعبد (وهي عقيدة غريبة هناك، واقعها أن
رجلاً يقوم بإخصابها فيه).. وتموت الأخت بحمى النفاس بعد أن تضع طفلتها
"فرحانة". وتكبر فرحانة حاملة معها سمات التخلف لرمز هام يفتح آفاقاً واسعة
للتأمل في كل مقومات ذلك المجتمع وما يمكن أن يولد منه. وبعد ربع قرن يعود
الابن الضال مصطفى، لتنكشف من خلاله، حقيقة هذا المجتمع المجدب العاجز عن
الإخصاب، حيث نراه في النهاية بثور ويحطم كل شيء.. لينتهي عاجزاً عن فعل أي
شيء.
يقول خيري بشارة عن فيلمه: (...الخصوبة هي قلب الموضوع.. نحن غير قادرين
على الإخصاب.. لست معنياً أساساً بالعادات والتقاليد بقدر ما أنا معني
بالتركيبة العقلية أو الذهنية.. أنا معني بالخصوبة وعلاقة ذلك بالفاعلية
والقدرة على التغيير. فالفيلم يتحدث عن فقدان الخصوبة الإنسانية...).
ولكي يؤكد خيري بشارة رؤيته هذه فهو يلجأ إلى تجسيدها في أكثر من موضع
وبأشكال مختلفة. فنحن نصادف حالة العجز هذه، سواء جنسياً أو اجتماعياً، عند
الحداد العاقر، عند مصطفى الذي يطلق زوجته الشامية لأنها لم تنجب له ابناً،
وهو العاجز أيضاً عن فهم ما يدور حوله، نصادفها أيضاً عند الأم حزينة
العاجزة عن إنقاذ حفيدتها، وعند ابن الحداد العاجز عن امتلاك فرحانة
فيقتلها، عند المدرس العاجز عن تغيير الخطأ.
فيلم (الطوق والإسورة)، بشكل عام، لا يعتمد على الحبكة الخيط الدرامي
الواحد، وإنما يعتمد أسلوب التفاصيل والمواقف والحالات العديدة، وبذلك لا
يهتم بعرض تطور الشخصيات وتصوير مراحلها التاريخية، حيث أن القصد من
الامتداد الزمني ليس رواية تاريخ بقدر ما هو تجسيد لامتداد سيكولوجية
الشخصيات ووعيها ومواقفها، وبالتالي نجد بأن الشخصيات والحالات تتكرر أو
بمعنى أصح تتناسخ في شخصيات وحالات أخرى.
ففرحانة هي امتداد لأمها فهيمة وليس هناك مجال للمصادفة أن تمثل الدورين
ممثلة واحدة (شيريهان)، وأن تموت الشخصيتان بعد ظهور علامات الخصوبة
عليهما. كذلك مصطفى الذي نجده امتداداً لأبيه العاجز والمقعد (يمثل الدورين
عزت العلايلي أيضاً)، فمصطفى في النهاية يصل إلى نفس الحالة التي وصل إليها
أبوه. وهناك أيضاً ابن الحداد الذي يشكل امتداداً لخاله، فكلاهما انتهى
بفعل عنيف، الخال حرق زوجته ونفسه وابن الأخت قتل فرحانة.
هذا التكرار أو التناسخ في الشخصيات إنما يعبر عن حالة الثبات في المجتمع
وتوارث القيم والمفاهيم المتخلفة. ثم أن الفيلم بما يقدمه من أفكار وشخصيات
لا يطرح حلولاً بل يقدم وجهة نظره القاسية معتمداً على ذكاء المتفرج في
اكتشاف الخلل والسعي لتغيير تلك البنية المركبة التي أفرزت وضعاً ونظاماً
كهذا.
وبعيداً عما ذكرناه عن الطرح الفكري، فالفيلم يقدم مستويات فنية راقية في
مجمل عناصره، حيث نجح المخرج في إدارته للممثلين واستطاع أن ينتزع منهم
طاقات أدائية مدهشة بدون استثناء. كما برع مدير التصوير طارق التلمساني في
تجسيد جماليات بصرية رائعة جاءت كنتيجة حتمية للاختيار الموفق لمواقع
التصوير وزوايا الكاميرا وحركتها. أما بالنسبة للمخرج خيري بشارة، فقد نجح
في تحقيق إيقاع بطيء وهادئ يتناسب وموضوع الفيلم وزمانه.
وأخيراً، لا بد من القول بأن (الطوق والإسورة) فيلم سيظل علامة هامة ليس
بالنسبة لمخرجه وحسب، وإنما بالنسبة لتاريخ السينما المصرية.
# # # #
كابوريا
1990
في عام 1989 بدأ خيري بشارة مرحلة فنية جديدة بفيلمه (كابوريا)، حيث تمرد
على الواقعية الجديدة التي قدمها في السابق، وقدم كوميديا غنائية تسخر من
تناقضات الواقع الإجتماعي. فبعد أربعة أفلام صبغها بألوان واقعية شاعرية
تميل إلى السواد (الأقدار الدامية، العوامة 70، الطوق والآسرة، يوم مر ويوم
حلو) قفز خيري بشارة - وبلا مقدمات - إلى عالم الفنتازيا الساخرة وقدم
(كابوريا). وهو الفيلم الذي استقبله نقاد السينما في مصر بفتور وأحيانا
بعداوة، وأقبل عليه الجمهور المصري بحماس شديد، فحقق في الأسابيع الثلاثة
الأولى له على الشاشات المصريـة، إيرادات تـعـدت الثلاثمائة ألف جنيه وهو
رقم لم تسجله سوى أفلام قليلة، بينهما أفلام النجم عادل إمام.
شخصيا كان استقبالي للفيلم في مشاهدتي الأولى له استقبالا فاترا، بل أنني
صدمت بالفيلم واعتبرته أقل مستوى مما تعودته من خيري بشارة. هذه الصدمة،
ربما كانت نتيجة حتمية بعد كل ذلك الانبهار والتعاطف لما قدمه خيري بشارة
من قبل، وان هذا التحول المفاجئ في أسلوبه، هو بالضبط ما جعلني مرتبكا في
استقبالي لفيلمه الجديد.
يقول خيري بشارة: (...علي المستوى الشخصي، أنا طول عمري "كابوريا" أفلامي
الأربعة الأولى، على الرغم من كل العواطف التي تحملها، حققتها بوعي ذهني
شديد، وفي كل مرة كنت أسابق نفسي باحثا عن كيفية التخلص من سيطرة هذا الوعي
الذهني علي. كان كاتب الكابوريا في داخلي، وكبت رغبة التمرد الدائمة في
داخلي .. وأثناء تحقيقي لأفلامي التسجيلية وأعمالي الروائية الأربعة قبل
كابوريا، كنت أمينا مع رؤيتي في السينما هو دور تنويري (…) اليوم، من حقي
أن أتغير، أنا ديموقراطي مع نفسي قبل أن أكون ديموقراطياً مع الآخرين. في
داخلي أشياء مكبوتة لابد أن أعطيها فرصة للخروج، أشعر أنني كنت ديكتاتوريا
على نفسي، واليوم أعامل نفسي بمنتهى الرحابة، وأرى كابوريا اقرب فيلم
لتركيبتي الشخصية الحقيقية، وبداية مرحلة سأقلب فيها كل شئ من دون أي رقابة
ذاتية، وسأخرج من المياه العذبة لأستمتع بالمياه المالحة!!...).
ومن هنا يصبح ما قاله خيري بشارة أمراً مشروعا لأي مبدع، حيث يفترض أن يكون
الفنان صادقا مع نفسه، حتى يكون صادقا مع المتلقي، فمن حق أي فنان أن يقدم
ما يريده من فن، ومن حق المتلقي قبوله أو رفضه، فالاختلاف ليس ظاهرة سلبية،
بل هي على العكس إيجابية خاصة في مجـال الفن والإبداع، وليس صحيحا أن نهاجم
الفنان ونصادر حريته لمجرد اختلافنا معه.
ففي فيلمه (كابوريا) يتحدث خيري بشارة عن أربعة شبان من الطبقة الشعبية
الفقيرة، يهوون الملاكمة ويحلمون بالمبـاريات الدولية. ويتحدث من جانب آخر
عن سيدة ثرية (رغدة) تبحث عن أحاسيس قوية تخرجها من سأم حياتها المخمليـة،
فتصطاد الشباب وتدخلهم في فيلتها، حيث تستبدل المراهنات علي مباريات الديوك
بالمراهنات على مباريات الملاكمة، ويعيش هدهد (أحمد زكى) وأصدقائه سلسلة من
المواقف، يلمسون فيها زيف المجتمع المخملي، فيعودون إلى ناديهم الشعبي
الصغير، ويرجع هدهد إلى حبيبته فتاة النافذة المواجهة للنادي. ولأن
"الكـابوريـا" يتم اصطيادها في غبش الفجر، عندما تسير منتشية علي الشاطئ،
ليتسلى بأكلها ليلا، كذلك يتم اصطياد صعاليك الشوارع فجرا، ليتسلى بهم
السادة ليلا، من هنا تعمد الفيلم أن يكون اللقاء الأول بين "رغدة" و"احمد
زكى" على سطح النيل في الفجر، حيت يتسلق منتشيا جدار باخرتها، وهو لا يعلم
أنها تصطاده للتسلي.
هذه هي الفكرة العامة التي صاغها خـيري بشارة مـع السيناريست (عصام الشماع)
للفيلم، فهما في هذه الصياغة الجديدة، قد تجاوزا ما يسمى بالواقعية، وقدما
كوميديا غنائية تسخر من تناقضات الواقع الاجتماعي والاقتصادي.
يقول خيري بشارة، في هذا الصدد: (...أثناء العمل علي سيناريو كابوريا، كنا
دائما نردد أننا نريد أن نكون صادقين كالكريستال، لا مكان في اهتمامـاتنـا
لخلفيـات الشخصيـات الاجتماعيـة والاقتصادية والزمن والمكان التاريخيين،
وكل هذه الأشياء المرتبطة بـالواقـعيـة الاشتراكية، ما قبل ذوبان ثلوج 56
إنتهت بالنسبة لي، عبرت عنها في أربعة أفلام ولا أرغب في المزيد من
الترداد...).
وبما أن خيري بشارة يعلن صراحة بأنه في فيلمه هذا، لا يتخذ من الواقعية
أسلوبا له، فلن يكون هناك مجال للحديث عن مواءمة تصرفـات أي من شخصياته في
الفيلم مع طبيعتها وأبعادها من عدمها، حيث من المفترض عدم التعرض لمناقشة
الفيلم بأدوات لا تتناسب والأسلوب الفني الذي يتبناه. وهذا بالضبط ما وقع
فيه بعض النقاد عندما انتقدوا فيلم كابوريا، حيث تعاملوا معه كفيلم واقعي.
أننا في (كابوريا) أمام فيلم فنتازي ساخر يتعرض لطبقة الأغنياء
(المليونيرات) وطبقة الفقراء (الصعاليك) يسخر منهما ويدينهما في نفس الوقت.
إنه يصور لنا شكلا من أشكال الاستغلال يمارسه أغنياء على فقراء.
أن خيري بشارة هنا يقدم لنا حياة هؤلاء المرفهين الباحثين عن المتعة
والتسلية لقتل الفراغ والملل الذي يعانون منه، وبالتالي. يسعون للبحث عن كل
ما هو جديد يكسر هذه الرتابة والملل، حتى ولو أدى إلى توظيف بعض الكـائنـات
البشريـة لتحقيق أغراضهم. كما انه يدين أيضا تلك السلبية واللامبالاة التي
تلازم أغنياء من هذا النوع، كذلك عندما يتناول حيـاة هؤلاء الصعاليك، فهو
لايتعاطف معم تماما، إنما يقدمهم كحيوانات سرك، يتسلى بهم الأغنياء، بل
ويدين سلبيتهم كذلك وقبولهم لمثل هذا الوضع المزري. ، لقد نجح خيري بشارة
في تقديم فيلم جديد، هادف وسريع، حيث وفق في إدارة فريقه الفني من فنانين
وفنيين، خصوصا في تلك المشاهد التي يرصد فيها، بحيوية ومهارة، أثر اللكمات
علي وجوه الملاكمين.
# # # #
قشر البندق
1995
في فيلم (قشر البندق ـ 1995) يؤكد خيري بشارة بأنه يبحث دوماً عن الجديد
والمختلف. مهما يكن موضوع الفيلم. المهم أن يكون جديداً ومختلفاً في الفكرة
والطرح والمعالجة.
فكرة فيلم (قشر البندق) فكرة جديدة ومشوقة، وتعتمد على إقامة مسابقة في
الأكل من قبل أحد فنادق الدرجة الأولى من باب الدعاية والإعلان. فيندفع
الجمهور للمشاركة في هذه المسابقة والحصول على المكافأة المادية الكبيرة
المخصصة للفائز الأول في المسابقة، والتي تشرف عليها الفتاة الطموحة فاطمة
(رانيا محمود ياسين)، كانت تعمل كخادمة في نفس الفندق، إلا أن حماسها
وإندفاعها لتطوير نفسها هما اللذان دفعا مدير الفندق رؤوف (حسين فهمي)
لإختيارها كمشرفة أولى للمسابقة. وينطلق الفيلم منذ بداية الإعلان عن
المسابقة ليتابع دوافع الأشخاص الذين تم إختيارهم من قبل اللجنة المشرفة
للمسابقة. فمنهم الموسيقي والعامل والشرطي والرياضي ورجل الأمن وفتاة الليل
والنصاب والمقامر والمرافق والخادمة الصغيرة والمتقاعد وبائعة اليانصيب.
جميعهم دخلوا المسابقة وكلهم أمل بالفوز بالجائزة الكبيرة بغية تحقيق
أحلامهم. وتبدأ المسابقة، التي تتكون من عدة جولات هي عبارة عن أطباق
متنوعة من أكلات عالمية. ومع بدأ المسابقة تتم التصفيات الأولى ويبدأ عدد
المتسابقين في التناقص، ويشتد التنافس بين الباقين. إلا أن المسابقة تنتهي
بمأساة موت المتسابق فتحي من كثرة الأكل، حيث يصاب بسكتة قلبية، وتنتهي
بإنتهاء العلاقة بين فاطمة وخطيبها، وتنتهي بقتل محمود ذهني، وتنتهي بفشل
هشام في مراهناته.
أما شخصيات المشاركين في المسابقة فقد إنتقاهم السيناريو بدقة وصاغ حولهم
حكايات كثيرة منها الطريف والمأساوي.. وهم: فتحي (حميد الشاعري): الموسيقي
الإسكندراني المتسكع والنصاب وتابعه السمين. وتهاني (عبلة كامل): بائعة
اليانصيب التي تعشق فتحي الموسيقي وكانت تصرف عليه، هذا بالرغم من معرفتها
بأنه نصاب، ولكنه هجرها. وصقر (محمد هنيدي): شرطي الأمن الركزي الذي يعاني
من الفقر والجهل، ويعتبر إشتراكه في هذه المسابقة فرصة لتحسين وضعه المعيشي
هو وأسرته في القرية. والرياضي أبو زيد (محمد لطفي): الذي قدم من القرية
على قدميه متأخراً، وذلك لعدم حصوله على ثمن المواصلات. مع أنه بطل
الجمهورية وأفريقيا في كمال الأجسام. ومحمد (طارق لطفي): رجل الأمن وخطيب
فاطمة التي تسببت في فصله من عمله كرجل أمن، وبالتالي يعرض عليها أن تتوسط
له للإشتراك في المسابقة فترفض. مما يسبب خلاف بينهما يؤدي الى فسخ الدبل.
وبالرغم من محاولاته إنهاء هذا الخلاف أثناء المسابقة إلا أنه لا يفلح في
ذلك. وفتاة الليل (دينا): التي تخلى عنها زوجها (حسب قولها) وتركها في
الفندق. تشترك في المسابقة لسداد أجرة الفندق. وهشام (ماجد المصري):
السمسار المغامر الذي يستأجره رؤوف للبحث له عن سيارة موديل 45 لزوجته
الأمريكية. نراه يدبر مبلغ السيارة بطريق النصب من زوج أخته الذي يختلس
مبلغاً من عهدته على أن يسترد نفس المبلغ بعد بيع السيارة. وبعد أن يرفض
رؤوف أن يشتري السيارة، يجد هشام نفسه في ورطة فيستغل جو المسابقة ويعمل
شغل من خلال المراهنات بين الجمهور على المتسابقين. والفلاح محمدين (علاء
ولي الدين): البدين الساذج الذي هرب من الذين يضحكون عليه في قريته، وهو
يعيش الآن عاطلاً في القاهرة منذ ثلاثة أشهر. والخادمة مرزوقة: البنت
الصغيرة التي تجوعها مخدومتها لمدة يوم ونصف، لتجبرها على الإشتراك في
المسابقة لكي تستفيد هي من قيمة الجائزة. والمتقاعد (محمد يوسف): الأب
الفقير الذي يعجز عن توفير جهاز إبنته، بسبب المهر القليل الذي دفعه
خطيبها، فيلجأ الى الإشتراك في المسابقة لتساعده في تحقيق كل أحلامه.
أما لجنة التحكيم فتتكون من: دكتورة علم النفس والأديبة (صافيناز الجندي)،
وهي إمرأة محافظة إلا أنها تعاني من الكبت الجنسي بسبب العنوسة، وتشتاق
لممارسة الجنس مع الرياضي. وعندما تختلي به في أحد الغرف تجهل بأن الغرفة
مراقبة بكاميرا تكشف على الهواء كل مايدور بينها وبين الرياضي. والمحكم
الثاني دكتور في الأغذية من جامعة كاليفورنيا. والثالث هي ملكة جمال وملكة
شواطيء ميامي النجمة (مريم فخر الدين). أما المحكم الرابع والأخير فهو رجل
الأعمال محمود ذهني (محمود ياسين) الذي إختارته مشرفة المسابقة ليكون عضواً
في لجنة التحكيم بسبب إعتذار مفاجأ لأحد أعضائها. وبالرغم من أنه لا يريد
الإشتراك إلا أن فاطمة تذكره بأنه يدين لها بإعتذار وعليه أن يسدده
بإشتراكه في لجنة التحكيم لإنقاذ الموقف.
سيناريو الفيلم جيد وخلاق ومكتوب بعناية فائقة، إستطاع به خيري بشارة أن
يلفت إنتباه المتفرج الى أحداثه حتى آخر لقطة. فبالإضافة الى الحدث الرئيسي
وهو المسابقة، هناك العديد من الحكايات الثانوية كانت قد ساهمت في ربط
الحدث الرئيسي وتقويته.
فمثلاً هناك حكاية محمود ذهني (محمود ياسين) رجل الأعمال المشهور والشاعر
الفاشل والمتورط في قروض تقدر بالملايين لذلك نراه يختار هذا الفندق ليختفي
عن الأنظار والصحافة والرأي العام الى أن يحل مشكلته مع المتسببين في
توريطه. ولكن أجمل شيء في هذه الحكاية هو صياغتها في السيناريو. حيث حرص
كاتب السيناريو على أن لا تكون محشورة حشراً في السيناريو. فجعل الدكتور
زهدي يكتب رسالة لصديقه القديم عبد العزيز يروي له ويتحدث له في لحظة صدق
عن مشوار حياته خلال ال 25 سنة الأخيرة وعن كل ما يحسه ويشعر به، حيث يكتشف
متأخراً بأنه قد أخطأ الطريق في مشوار حياته. دون أن يكون لظهور شخصية هذا
الصديق على الشاشة ضرورة حتى ولو للقطة واحدة، مختصراً في هذه الرسالة قصته
بكاملها في دقائق معدودة. بدل المط والتطويل الذي عودتنا عليه أغلب الأفلام
المصرية. حيث يظهر محمود في لقطات سريع وذكية أثناء سرد قصته لصديقه. وهناك
إعلان المسابقة (هات حته.. هات حته) الذي نفذ بخيال جميل ومتناسب وجو
الفيلم العام. كذلك مشهداً يظهر المشارك فتحي الإسكندراني وهو في طريقه الى
الفندق مع مرافقه، يكح بصوت يتناسب مع نغمة المؤثر الموسيقى للفيلم، وتتبعه
عدة لقطات لآخرين يكحون على نفس النغمة، ليتكون مشهد فنتازي كوميدي جميل.
إنه حقاً مشهداً يعد من بين أبرز الشماهد التى إستخدمها المخرج لإعطاء
طابعاً خفيفاً مقبولاً لفيلمه. وهو بالطبع ليس مشهداً شاذاً كما يعتقد، بل
هو يتناسب والجو العام للفيلم. وهناك الكثير من المشاهد والمواقف التي
نفذها المخرج المبدع خيري بشارة بخبرة ودراية، ووصلت الى المتفرج بشكل جميل
وسلس.
بالنسبة للإخراج بشكل عام، نجح خيري بشارة في تقديم فيلم جميل وسريع
الإيقاع، كما نجح في إدارة فريق عمله الفني في الإرتفاع بمستوى الفيلم
الفني والتقني. من خلال حركة كاميرا سريعة وزوايا تصوير موفقة ومنسجمة مع
المونتاج السريع اللاهث والشفاف والمتناسب والحدث الدرامي. هذا إضافة الى
الموسيقى التصويرية والألحان التي أكملت هذا الإنسجام العام.
ولا يمكن إلا أن نشير الى ذلك الأداء الأخاذ من جميع الممثلين كباراً
وصغاراً، وإدارتهم الجيدة من قبل المخرج الحساس خيري بشارة. يبرز منهم
الوجه الجديد رانيا محمود ياسين، التي نجحت في أول تجاربها وقدمت دورها
بثقة وتمكن، وأعلنت عن وجودها على الشاشة. أما الفنانة عبلة كامل صاحبة
الأداء التلقائي الطبيعي، فهي تواصل تألقها الفني من فيلم الى آخر، وذلك
بتوفيقها في إختيار أدوار متميزة وناجحة.
# # # #
إشارة مرور
1996
في فيلمه (إشارة مرور ـ 1995)، يأخذنا خيري بشارة في رحلة ممتعة، وفي يوم
غير عادي، الى مدينة القاهرة الصاخبة والمزدحمة.. وفي موقع إحدى إشارات
المرور الكثيرة التي تمتليء بها هذه المدينة الكبيرة. والمناسبة: هي مرور
موكب رسمي في أحد الشوارع الرئيسية. وحادث مرور عند إشارة المرور في الطريق
الفرعي المحاذي والذي من المفترض أن يكون إحتياطياً للشارع الرئيسي.. عند
إشارة المرور هذه، تتوقف حركة المرور تماماً، وتبدأ الحكايات.. أنماط
مختلفة من البشر تتجمع في وسط الزحمة، كل له حكايته. حيث ينجح المؤلف في
إنتقاء شخصياته بدقة وعناية، ليصيغ حولها حكايات، منها المضحك الساخر،
ومنها المأساوي الميلودرامي.
فهناك سوسو أو سمية (ليلى علوي) الممرضة الباحثة عن الشهرة من خلال هوايتها
للغناء. وهناك أيضاً ريعو (محمد فؤاد) كبير المشجعين وعامل البناء الذي
يبحث عن والد خطيبته شرطي المرور، فيقع في حب سوسو الممرضة ويتفقان على
الزواج. وكذلك الموسيقي الشاب نبيل (عماد رشاد) الذي يعاني حادث غريب تعرض
له في صباح نفس اليوم. أما المدرس زكريا (سمير العصفوري) الذي حملت زوجته
نعمات (إنعام سالوسة) بعد خمسة وعشرون سنة زواج. فيكاد أن يصاب بالجنون
لمجرد إحساسه بأنه سيفقد إبنه الوحيد. وحكاية رجل الأعمال علي ظاظا (عزت
أبو عوف)، المتجه الى المطار لإنهاء صفقة رابحة والذي على علاقة عاطفية
بسكرتيرته وزوجته على علم بذلك ومصرة على الفوز به. وضابط المرور (سامي
العدل) الذي يكتب الشعر ولا يملك سيارة خاصة، والذي يريد أن يخلي الشارع
بأسرع ما يمكن تفادياً لأي إرتباك في حركة المرور في الشارع الرئيسي. وكذلك
المراهق المهووس بحبيبته، والذي يخجل من البوح بمشاعره. وعندما تواجهه
وتطلب منه الكف عن ملاحقتها، يصارحها بحبه ومعرفة مشاعرها تجاهه، حيث
يخرجان مع بعض ويطلب منها مسك يدها بشكل صريح، ويتزوجان في النهاية. أما
بائع الآيس كريم (محمد لطفي) الذي يتورط مع عصابة إرهابية في محاولة تفجير
الموكب الرسمي، فتكون نهايته في فتحة المجاري حيث يموت، والقنبلة تنفجر في
يد طفلة بريئة. والكثير من الحكايات والشخصيات التي صاغها السيناريو لتعطي
للفيلم مذاق خاص.
وكما في فيلمه السابق، يقدم خيري بشارة أسلوب السهل الممتنع.. ويبتعد
كثيراً عن الحكاية التقليدية، مع أنه يقدم فكرة بسيطة، مع حادث ومواقف
يومية يمكن أن تحدث كل يوم. يعتمد أيضاً على إمكانيات من معه من فنانين
وفنيين لتقديم أفضل ما عندهم، في عمل سريع وخفيف. فنرى أولاً السيناريو
الذكي ذو الحوار اللماح العميق. حيث أن ما جعل الفيلم أكثر حيوية، تلك
الحكايات والحالات والشخصيات التي صاغها السيناريو، في نطاق زمن قصير لا
يتعدى الأربع والعشرون ساعة، حيث يتشكل مجتمع صغير، يتكون من إنماط مختلفة
من البشر.. يتعايشون مع بعض، لتظهر كافة التناقضات.. من جراء تلك الحكايات
المتداخلة في نسيج درامي واحد.
ففي حكاية الموسيقي الشاب نبيل (عماد رشاد)، ذلك المصاب بالدهشة والمهانة
في نفس الوقت من جراء حادث غريب تعرض له في الصباح.. حيث يتلقى صفعة قوية
من الخلف من أحد المارة في الشارع. ولا يجد أي تفسير منطقي لماحدث. شخص لا
يعرفه وبدون أي سبب.. (...عمري لا شفته ولا شافني.. مفيش بيني وبينه أي
حاجة.. راكب عجل.. ضربني على قفايا وجري.. كأنه معملش أي حاجة.. ده حتى ما
بصش وراه...). نراه يحكي لحبيبته نور في حوار مشحون بالحزن والألم، لعلها
تساعده في تجاوز ما هو فيه. فهو يعيش إحساس فظيع بالمهانة، خصوصاً أنه لم
يستطع عمل أي شيء، مما زاد إحساسة بالتفاهة. ومن خلال حديثه مع حبيبته نور
نكتشف مدى شفافية هذا الإنسان، ومدى تأثره المباشر بحادث بسيط يحدث في
مجتمع متخلف كل يوم.
ونتابع أيضاً تلك العلاقة السريعة التي تكونت بين ريعو وسوسو. فبالرغم من
سرعة تكونها لدرجة أن تصل الى الزواج، إلا أن التفاصيل الصغيرة والكثيرة
التي أحاطت بالشخصيتين، قد جعلت منها علاقة طبيعية منطقية. ثم أن المتفرج
يصدق كلا الشخصيتين بسبب ذلك الحوار الأخاذ الذي يأتي على لسانهما ويضيف
عليهما تلك المصداقية.
أما ذلك المدرس الغلبان زكريا الذي ينتابه شعور باليأس نتيجة تعطله في زحمة
الحادث، حيث كان متجهاً الى مستشفى الولادة مع زوجته الحامل. فقد بدأ يهذي
ويكاد يفقد عقله، خصوصاً بأن هذا المولود إنتظره العمر كله وبعد خمس وعشرون
عاماً من الزواج، ولا يمكن أن يتصور بأنه سيفقده. ثم كيف نجح السيناريو في
تصوير علاقته بزوجته بشاعرية نادرة، وأيضاً كان للحوار دوراً في ذلك.
وهذه أمثلة فقط، حيث لا يسعنا الحديث للحصر.. إنما هذه الحالات والحكايات
التي جسدها السيناريو، لم تكن تصل بالشكل المطلوب لولا وجود صورة ناعمة
سلسلة ومعبرة، ومونتاج متناغم ومتناسب، إضافة الى الموسيقى التصويرية
المعبرة عن أحاسيس تلك الشخصيات. جميعها عناصر ساهمت في وصول الفيلم الى
هذا المستوى الجيد، تحت قيادة مايسترو فنان هو المخرج خيري بشارة. |