خمس سنوات، هي الفترة التي أمضاها عبد السيد حتى يقدم فيلمه التالي بعد
باكورة أعماله (الصعاليك - 1984). وهي بالطبع ليست فترة قصيرة بالنسبة
لإخراج فيلم آخر. لكن البحث عن منتج يقتنع به وبأفكاره، كان أمراً صعباً،
في ظل سينما يهيمن عليها التيار التجاري. إلى أن اتفق مع الفنانة سميرة
أحمد على إنتاج فيلم له، وكان فيلم (البحث عن سيد مرزوق - 1990). إذ يتحدث
عبد السيد عن تجربته في هذا الفيلم، فيقول: (...لن
أسمح لنفسي بتنازلات في النوعية، والى اليوم أشعر أنني لم أتنازل والحمد
لله. في تصوير سيد مرزوق شعرت في أكثر من يوم أنني أتساهل، أنني أتنازل،
لأنه لا وقت لدي لشيء من التفكير، لشيء من التأمل. جزء من الاستمتاع بالعمل
أن تتأمله، أن تكون مطمئناً أن كل مشهد صورته تناولته بطريقة صحيحة. أما أن
ترجع البيت ولديك شكوك فيما صورته، فهذا هو الأمر المتعب، وقد عانيت منه في
سيد مرزوق...).
وفيلم (البحث عن سيد مرزوق) عمل فني مختلف ومتميز، ليس فقط عن الأفلام
المصرية السائدة، بل أنه يتميز أيضاً عن أفلام رفاق عبد السيد الذين
وصفناهم بالفرسان، في مقدمة موضوعنا هذا. فقد حطم عبد السيد كل تقاليد
الفيلم المصري البالية، بل وتجاوز الواقعية الجديدة التي صنعها الفرسان.
وانطلق إلى آفاق فنية رحبة، وقدم أسلوب تعبيري أقرب إلى السريالي أو
الفنتازي، على نحو لا مثيل له في السينما المصرية. هذا بالرغم من أن الفيلم
لا يبتعد عن الواقع، بل ويعبر عنه بجرأة وصدق.
يتناول الفيلم، وبأسلوب جديد، يوماً حافلاً في حياة بطله يوسف كمال (نور
الشريف)، وهو موظف يعيش ما بين عمله وبيته، في عزلة عن العالم منذ عشرين
عاماً. نراه يستيقظ صباحاً كعادته ليذهب للعمل، لكنه يكتشف بعد خروجه من
المنزل، بأن اليوم هو الجمعة وأجازة. هنا يقرر في أن يخرج من عزلته الطويلة
هذه، ولو ليوم واحد، يقضيه خارج المنزل. وبالتالي يبدأ رحلة مليئة بالأحداث
الغريبة عليه، ويلتقي بشخصيات عدة، أيضاً غريبة عن عالمه. ومع تطور
استيعابه ـ تدريجياً ـ لهذا العالم، يشعر بخطئه بعزلته الطويلة تلك. ولكي
يتطور استيعابه وينمو وعيه، بخروجه من هذه العزلة، عليه أن يصطدم مع
الآخرين ومع السلطة أيضاً. فهو يلتقي بشخصيات غامضة تظهر وتختفي.. شخصيات
تبدوا وكأنها متصلة ببعضها في لعبة ضحيتها هو، ومخططها وقائدها شخص يدعى
سيد مرزوق.
والفيلم في تناوله وتشخيصه للمجتمع المصري في مطلع التسعينات، يتحدث عن
أربعة عوالم يتكون منها الواقع الراهن. عالم السادة الذين يملكون كل شيء
ويحميهم القانون، وعالم المطاريد الخارجين على السادة وقوانينهم، وعالم
الغلابة القابعين في منازلهم، وأخيراً عالم المتمردين المشاغبين الذين
يواجهون ويجابهون بقوة وشجاعة. وبهذا التقسيم للمجتمع، يدين الفيلم ـ وبعنف
ـ تلك السلبية التي تكمن في أمثال بطله يوسف كمال، والذين سمحوا لبعض
الطفيليين بأن يتبوؤوا مراكزهم في حاضرنا، وإنهم بسلبيتهم وعجزهم عن
المواجهة، قد أتاحوا الفرصة لأمثال سيد مرزوق أن يفرضوا وجودهم وسلوكياتهم
على واقع الحياة في مصر. فبطل الفيلم يوسف قد آثر العزلة، وأحجم عن الخروج
إلى الحياة والمشاركة فيها، خوفاً وهلعاً وامتثالا لصوت قاهر أمره بالرجوع
إلى بيته. ولأن الفيلم يرفض حالة الإذعان والامتثال والسلبية التي يعيش
فيها يوسف، فهو بالتالي يقدم تحليلاً دقيقاً ـ عبر بناء درامي محكم ومتماسك
ـ عن نقل بطله من حالة الهزيمة الداخلية إلى حافة الفعل المجهض والتمرد
الأخرس.
في بداية الفيلم، ومنذ اللحظات الأولى، يكتشف يوسف عالم سيد مرزوق ويقع
أسيراً له.. بل ويعلن بصراحة وبراءة «أنا بحب سيد مرزوق.. أنا عايز سيد
مرزوق». إلا أنه يدرك، وعبر رحلة يوم واحد فقط، مدى زيف هذا العالم الذي
انبهر به، ومدى توحشه وكذبه. فسيد مرزوق هو نموذج لعالم السادة المتحكمين
في كل شيء.. عالم بدأ يزحف ليستعيد مواقعه السابقة.. عالم نجح تماماً في أن
يتسيد عن طريق ثروته ونفوذه. هذا بالرغم من أنه عالم يتصف بالسوقية
والابتذال والخواء الروحي، والمستند أساساً على تاريخ مزيف، ساعياً نحو
لذائذ الحياة بتطرف، حتى ولوكان ذلك على حساب العوالم الأخرى. ومع ذلك
النمو المتواصل لوعي يوسف كمال، نتيجة توالي الأحداث وتأثيرها عليه، يقرر
مواجهة سيد مرزوق والتمرد عليه. فهو يشعر برغبة في التحرر والتحدي، إذ يعلن
في ثقة «ح أقتلك يا سيد مرزوق»، وبذلك يعتبر من عالم المطاريد في نظر
السلطة، التي تحمي سيد مرزوق.
وهنا لا يفوتنا الإشارة إلى أن الفيلم يقدم هجائية متواصلة للسلطة/ الشرطة،
ممثلة في رجلها المقدم عمر وبقية رجال الأمن والمباحث، وذلك من خلال عشرات
المشاهد المشحونة بالتفاصيل الصغيرة الموحية. فنحن مثلاً نفهم بأن الذي أمر
يوسف بالرجوع إلى منزله، هو مخبر.. والذي يطارد شابلن المصري ويقاسمه في
رزقه هو عسكري أو ضابط.. ويد المقدم عمر هي التي تضغط على جرح يوسف وتؤلمه،
حين يدعي بأنه يربت عليه ويعتذر منه.. ورجال عمر هم الذين يقتحمون
الحضّانه.. وكلابه هي التي تسعى لنهش جسد يوسف وحماية جسد سيد مرزوق. إن
السلطة/ الشرطة، كما قدمها عبد السيد في فيلمه هذا، مشغولة بحماية حرية
السيد، وتكبيل حرية المسود.
وفي مشهد موحي ومؤثر، يعلِّم عبد السيد يطله درساً بليغاً، حين يقول بأن
الحرية أقرب إلينا مما نتصور، وإن القيد الحديدي، أو أي قيد آخر يكبلنا، من
السهل التحرر منه إذا امتلكنا الإرادة. جسد عبد السيد هذا المعنى في مشهد
يظهر المقدم عمر وهو يحرر قيد يوسف، حيث نرى كيف أن القيد يخرج بسهولة من
معصم يوسف، وهو الذي ظل يربط يوسف بالكرسي، وجعله يحمله على كاهله أينما
ذهب، متوسلاً عمر كي يفكه. وتركيز الكاميرا على الكرسي، والقيد يتدلى منه،
لهو تأكيد بالصورة على أن الحرية أقرب إلينا من حبل الوريد، إذا شئنا أن
نراها وفكرنا في انتزاعها.
ثم لا ننسى الإشارة إلى وجود ذلك الشيء الوحيد الذي كان يهون على يوسف
رحلته ومشواره اليومي ذاك.. ألا وهو وجود تلك الشخصية، والغامضة أيضاً، في
ثنايا يومه الصعب. فمنى أو عبلة أو رضا أو نجوى، كلها أسماء للشخصية التي
تلعبها الفنانة آثار الحكيم.. شخصية تحلم بالسفر والانسحاب من هذا الواقع
غير المتعاطفة معه، والذي يحاول امتلاكها دون أن يكون مؤهلاً لذلك.. شخصية
ترمز إلى ذلك الشوق الغامض للحب، وتبدي بعض التعاطف نحو يوسف، الذي يهيم
بها دون أن يعرفها. حيث تبدو، كلما ظهرت في مشهد أو في لقطة، كقطرة ماء في
صحرائه المجدبة. ولا يستطيع الإمساك بها إلا في اللحظة التي يقرر فيها أن
يكون إيجابياً. وفعلاً أصبحت هذه الشخصية بمثابة القوة الدافعة ليوسف
للخلاص من سيد مرزوق وعالمه.
نحن في (البحث عن سيد مرزوق)، أمام سيناريو خلاق يتصف بالدقة والحذر، ويبلغ
درجة عالية من الحرفية والإحكام، هذا إضافة إلى اهتمامه بكافة التفاصيل
الكبيرة والصغيرة. وربما نلاحظ، ويلاحظ المتفرج أيضاً، ذلك الانقطاع
واللاتتابع في العلاقة بين كل مشهد وآخر. هذا لأن عبد السيد، في كتابته
للسيناريو، اعتمد على منطق اللاوعي، وعبر عن منطق الحلم أو الكابوس، في
بنائه السردي، دون أن يجعلنا نفقد الصلة بالواقع. وبحكم تعدد مستويات
الفيلم، فهو لا يفصح عن نفسه بسهولة، بالرغم من إيغاله في الواقعية. وذلك
بسبب عملية الترميز التي بدت مكثفة وشديدة التركيز.
وهذا هو المنطق الخاص لأسلوب السرد الفيلمي في (البحث عن سيد مرزوق)،
وعلينا نحن كمتفرجين ـ قبلنا هذا أو رفضناه ـ مشاهدة الفيلم بمنطقه الخاص،
وليس لنا فرض منطق آخر دخيل عليه. علماً بأن عبد السيد قد نجح، إلى حد
كبير، في دعوتنا للتعامل مع منطق فيلمه هذا منذ البداية. كما يبرز أيضاً،
ذلك الاعتماد من عبد السيد على منطق الصدفة في أحيان كثيرة، إلا أن هناك ما
يبرر هذا. وهو أن السيناريو، في تناوله لمشوار أربعاً وعشرون ساعة متواصلة،
قد اهتم أساساً بشخصياته. وهذا ـ بالطبع ـ لا يعني الفوضى في السرد الدرامي
والتنامي الحدثي، فالسيناريو يراعي وحدات الزمان والمكان والموضوع
الكلاسيكية، بل ويلتزم بها بشكل واضح. فالزمان: أربعاً وعشرون ساعة من حياة
موظف في وقتنا الحاضر. والمكان: مدينة القاهرة. أما الموضوع: فهو عن حيرة
مثقف الطبقة المتوسطة وأزماته الفكرية والروحية، وبحثه الدائم عن العدالة
والحرية. يتحدث عبد السيد في هذا الصدد، فيقول:
(...وجهة نظر المتخصصين درامياً، ترى أن يكون لكل شيء يقدم نتائج حتمية
وواضحة جداً. ولكني أرى أن الحياة ليس فيها ذلك، فليس شرطاً أن يبدأ الفيلم
بالبداية وينتهي بالنهاية المتوقعة كالزواج أو الموت. أنا لا أحب الدراما
المغلقة بين قوسي البداية والنهاية، وأرى ضرورة وجود توازن بين الضرورة
والتلقائية.. كل شيء لا بد أن تكون له ضرورة، ولكن في نفس الوقت لا بد أن
تكون هناك تلقائية الحياة.. أنا أحب ذلك، ويجب أن تكون التلقائية
ضرورية...).
أما بالنسبة للإخراج، فقد كان عبد السيد أيضاً دقيقاً جداً، إذ يقدم
أسلوباً خاصاً للإخراج يتناسب وذلك السيناريو الخاص. فلكي يقنعنا عبد السيد
بذلك المنطق السردي اللاواعي للسيناريو ـ مع إصراره على تقديم الأماكن
والشخصيات بشكل واقعي ـ يصبح عليه كمخرج اختيار زوايا خاصة للتصوير، وأحجام
خاصة للقطات، وإيجاد علاقات خاصة بين الصوت والصورة وبين الضوء والظل
والألوان. وهذا ـ بالضبط ـ ما نجح عبد السيد في تجسيده، بجهوده وجهود فريقه
الفني، الذي أدرك بالفعل تلك الخصوصية للإخراج، وهي خصوصية تقوم على
التناقض بين الواقعي واللاواقعي. فبالرغم من مراعات الإضاءة لحركة الزمن
الطبيعية، إلا أنها تتجاوز الواقع في مشاهد كثيرة.. كمشهد المقابر مثلاً.
كما أن المونتاج كان دقيقاً في ضبط حركة الانتقال بين مشهد وآخر.. من
انتقال بالقطع الحاد إلى غيره، كالإظلام التدريجي، هذا إضافة إلى خلق إيقاع
تراجيدي متناغم بين لقطات الفيلم ومشاهده. ثم لا ننسى دور الموسيقى التي
عبرت بصدق عن ذلك الواقع الفكري والروحي للفيلم. وفي صدد حديثه عن (البحث
عن سيد مرزوق)، يقول عبد السيد: (...كان فيلماً
مرهقاً بالنسبة لي، وطيلة التصوير كنت أشعر بقلق.. بخوف من أن تأتي النتيجة
غير جيدة. لأنني كنت مرهقاً، أعمل حوالي أربع عشرة ساعة في اليوم. إنما
عندما بدأت في تركيب الفيلم، شعرت بقيمته. لا أقول إنه خالٍ من نقاط الضعف،
مؤكد أنه كان من الممكن الاعتناء به أكثر من ذلك، ولكن النتيجة تبدو
معقولة.. أراها جيدة...).
و(البحث عن سيد مرزوق) فيلم مثير للاهتمام على أكثر من مستوى. فالفكرة
والأسلوب جديدان على منهج السينما المصرية، وإسقاطاته الرمزية على الواقع
متعددة. هذا إضافة إلى منهج الأسلوب الفنتازي السريالي، الذي حاول عبد
السيد ونجح ـ إلى حد كبير ـ في إضفائه على الفيلم، وذلك رغم الفقر
التكنولوجي الذي تعاني منه السينما المصرية. وبالتالي افتقار المخرج لبعض
أدوات التعبير المناسبة لمثل هذا الأسلوب في الإنتاج. إلا أن الفيلم قد
أثار جدلاً كبيراً عند عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي، وحصل على جائزة
الهرم الفضي من لجنة التحكيم في المهرجان. كما حصل على ثلاث جوائز في
مهرجان جمعية الفيلم السنوي، وهي: أفضل ممثل ثانٍ، أفضل صوت، أفضل تصوير.
وبالرغم من كل هذا الاحتفاء الفني بالفيلم، إلا أنه لم ينل ذلك النجاح الذي
يستحقه في عرضه الجماهيري، حيث لم يستمر عرضه سوى أسبوعين.. إلا أن عبد
السيد يبرر ذلك، فيقول: (...عدم استمرار الفيلم في
دور العرض كان لأسباب خاصة بظروف عرضه، فالفنانة سميرة أحمد (منتجة الفيلم)
لم تقم بعمل الدعاية المناسبة له. كما أن موعد عرضه جاء عقب انتهاء مهرجان
القاهرة السينمائي، وهو موعد غير ملائم للأفلام المعروضة بعد المهرجان،
بعدما يكون جمهور السينما قد حصل على جرعة سينمائية كبيرة من الأفلام...). |