إنتهى عبد السيد من كتابته فيلم (الصعاليك) عام 1981. ومنذ ذلك التاريخ
وحتى ظهور الفيلم الى النور عام 1984 ، كانت هناك مشاكل إنتاجية على شاكلة
ماحدث للسيناريو الأول ، إلا أن سيناريو الصعاليك كان أوفر حظاً، حيث قرر
عبد السيد ومجموعة العاملين في الفيلم على التعاون في إنتاجه، وإخراج
الفيلم الى النور. وهذا بالفعل ماحدث.. (...إنا لا
أعتقد بأن هناك مخرجاً في العالم لا يشكو أحياناً أو كثيراً من التعامل مع
المنتج ، سوى حالات قليلة نادرة . وتزداد الصعوبة كلما كان المخرج مبتدءً ،
وكلما كان يملك فهماً متطوراً أو طموحاً جديداً لسينما مختلفة...).
إن أول عرض لفيلم (الصعاليك) كان في مهرجان القاهرة السينمائي عام 1984.
وكان الإحتفاء به من قبل النقاد كبيراً، حيث أعتبر الفيلم بمثابة شهادة
ميلاد لمخرج جديد، وفنان صاحب رؤية فنية إجتماعية، أكدها من خلال أولى
تجاربه السينمائية الروائية. صحيح من أن الفيلم لم يلاقي ذلك الإقبال
الجماهيري المتوقع، إلا أن لذلك أسباباً وظروفاً خارجة عن الفيلم نفسه. فقد
تأخر عرض (الصعاليك) في الصالات أشهراً، بعد إطلاقه في الفيديو، ثم برمجته
في صالة عرض لم تتعودها الشعبية بعد، هذا إضافة الى سوء الفهم الذي أوحى
بأن (الصعاليك) هو إمتداد لموجة أفلام الإنفتاح.. بينما هو قصة صداقة
حميمية جداً ساخنة جداً، آسرة وحزينة جداً. إن تحديد فيلم (الصعاليك) بأنه
يتحدث عن الإنفتاح، يشكل نظرة ضيقة جداً إليه. فالموضوع الجوهري هو..
(...موضوع الصداقة بين شابين. وكان من الممكن أن
تدور العلاقة في جو آخر غير الإنفتاح. فـ "الصعاليك" ليس عن صعود إثنين، بل
عن صداقتهما...). وبالرغم من ذلك الفتور الجماهيري، إلا أن الفيلم
وصاحبه قد قوبلا من قبل النقاد بحفاوة وحرارة غير طبيعية. فقد حصل الفيلم
على الجائزة الثالثة في مهرجان القاهرة. كما حصل على خمس جوائز في مهرجان
خريجي معهد السينما الثالث في أسوان، وهي جائزة العمل الأول للمخرج، وجائزة
الإنتاج الثانية، وجائزة الصوت، وجائزة الديكور، إضافة الى شهادة تقديرية
لمدير التصوير.
والفيلم، في الجانب الأهم منه، يحكي تلك الصداقة بين صعلوكين، صلاح (محمود
عبد العزيز) ومرسي (نور الشريف). يعيشان حياة اللامبالاة والصعلكة، ويمران
بمراحل تصاعدية في السلم الإجتماعي الى أن يصلا الى عالم الصفقات والمال.
وفي الجانب الآخر من الفيلم، يتناول عبد السيد ـ في إستعراض مقنع ـ حركة
المجتمع المصري، وما صاحبها من تغيرات إقتصادية وإجتماعية، حولت البعض من
صعاليك الى أصحاب ملايين. وذلك من خلال متابعة مشوار صعلوكيه.
لقد حاول عبد السيد البحث عن المنطق النفسي والإجتماعي في تصرفات شخصياته،
كما إستطاع الكشف عن ما يعتمل في داخلها من الحب والإشتهاء والندم أو
الخيانة والجشع. كل ذلك من خلال عرض واقعي صادق لحياة صعلوكيه، في
محاولتهما تأمين إحتياجاتهما المعيشية، التي تبقيهما أحياء بواسطة أي عمل
شريف (الشيالة، السياقة، مسح السيارات وتنظيفها والمناداة على الركاب)، أو
غير شريف (النصب، السرقة، أو العيش بقوة الذراع).
في النصف الأول من الفيلم، نجح عبد السيد في تجسيد معنى تلك الصداقة بين
صلاح ومرسي، في مرحلة الفقر والتشرد والصعلكة، وذلك من خلال مشاهد قوية
وقصيرة ذات إيقاع سريع، وبشكل عفوي وواقعي ندر تناوله في السينما المصرية.
ففي مشهد حادث السيارة مثلاً، والذي دخل مرسي على أثره السجن، لم يعتمد في
تجسيده على الحوار فقط، بل إستطاعت تعابير الوجه والتصرفات العفوية
للصديقين، أن تترجم أحاسيسهما الداخلية تجاه بعض. وهو مشهد قدمه لنا عبد
السيد بشاعرية معبرة وحساسية رقيقة وعفوية، أكدت مدى الإرتباط الوثيق فيما
بينهما. كذلك مشهد سقوط الزوجة صفية (يسرا) في أحضان صلاح، والذي يعد من
بين أقوى المشاهد في الفيلم، حيث نفذه المخرج بإتقان، إضافة الى كتابته
بشكل قوي ومؤثر. وقد كان عبد السيد حريصاً على تقديم هذا المشهد بوعي وحذر،
لتوضيح معاني جديدة ومشاعر حقيقية.. وهي أن السقوط لم يكن سقوطاً جسدياً،
بقدر ما كان سقوطاً نفسياً لاشعورياً، وتحت ضغوط ظروف المكان والمشاعر
الطارئة المهزوزوة، التي فرضها غياب الزوج (في السجن) وشعور الزوجة بأنها
في حماية الصديق المخلص. فكانت لحظة ضعف المشاعر الإنسانية، أمام ظروف
طارئة وغير مستقرة. وقد نجح عبد السيد، بإعتماده ـ هنا بالذات ـ على الحوار
السريع والمركز، في إقناعنا بمبررات مادية حقيقية على قبول هكذا موقف،
بالرغم من حساسيته، لاسيما في لقطات عقاب النفس لكل من الزوجة والصديق. وقد
وصلت (يسرا) في هذا المشهد الى قمة أدائها، حيث قدمت أهم مشهد أتاحته لها
السينما قبل ذلك.
وفي (الصعاليك) تبرز لنا وجهة نظر مختلفة للجنس عن ما هو سائد في السينما
المصرية. فالجنس هنا لا يحمَّل بفكرة الخطيئة، والشخصيات مكللة ببراءة
أولية تجعلها إنسانية.. (...حاولت فيلماً غير
أخلاقي، ليس فيه الأحكام الأخلاقية التي في أغلب سينمانا.. وتالياً، لا
تتطلع بإدانة، بل تتفهم الدوافع...).
وقد كان عبد السيد حريصاً ـ أيضاً ـ على إختصار الزمان الى أقصى درجة
ممكنة، بحيث لا يتعارض ومسار الأحداث الدرامية وتكوين شخصياته. فإستطاع
بذلك التخلص من الزوائد التقليدية، خصوصاً في النصف الأول من الفيلم. فهو
يقدم لنا مثلاً، علاقة مرسي بصفية وزواجهما، في مشاهد معدودة قصيرة جداً.
كما أنه لا يسرد لنا قصة مطولة ومقحمة عن وفاة والد صفية، بل يكتفي بلقطة
واحدة قصيرة لصفية وهي بثياب الحداد السوداء. ثم لا ننسى الإشارة الى أن
السيناريو كان موفقاً الى درجة كبيرة في رسم وصياغة مشهد تهريب المخدرات من
الميناء. مستفيداً من أسلوب المفاجآت، لشد إنتباه المتفرج والتلاعب
بمخيلته.
أما النصف الثاني من (الصعاليك)، فقد جاء مختلفاً في أسلوب الطرح
والمعالجة، وفاقداً لبعض قوة التأثير والجمال، التي إتصف بهما النصف الأول.
هنا يتابع عبد السيد مسار شخصياته، مقدماً لنا تفاصيل كثيرة ومعقدة، ربما
لتتناسب والمستوى الإقتصادي والإجتماعي الذي الذي وصل إليه صعلوكاه.
فالصديقان الآن يعيشان ـ أيضاً ـ فتوراً وتوتراً في علاقتهما، تلك العلاقة
التي بدأت تفقد بريقها الأول. فقد وصل عبد السيد بالفيلم الى المنطقة
الحرجة في علاقة صلاح مع مرسي، أو بالأحرى الى ثنائية العقل والقلب أو
العقل والمشاعر. فالأول مستعد أن يخسر كل شيء في مقابل الإحتفاظ بمبادئه
وأخلاقياته وصداقته مع الآخر، بينما الآخر على النقيض. فالثروة والمال
يمثلان بالنسبة لمرسي كل شيء، ضارباً عرض الحائط بكل من يقف في طريقه
للحيلولة دون الوصول إليهما. ليصل الفيلم الى النهاية المأساوية، نهاية
العلاقة الحميمية بين الإثنين اللذين جمعتهما أيام الفقر والتشرد والصعلكة،
وفرقتهما أيام العز والثراء.. نهاية لحياة صلاح الذي رفض الخضوع لإبتزاز
مافيا الإنفتاح. وهي بالطبع ثمناً غالياً لإحتفاظ مرسي بكل ما وصل إليه.
إنها نهاية للفيلم، لكنها بداية جديدة لصعلوك آخر.. نهاية تعني الكثير
وتنقل واقعاً قائماً.. إنه عالم الصراع في دنيا المال. وعبد السيد هنا لا
يعبر عن هذه الثنائية (العلاقة) كأمر طبيعي لا مفر منه، وإنما يعتبر أن
الطبيعي هو عدم وجود هذه الثنائية وإستمرارها، حيث أن نهاية الفيلم هي
النتيجة الوحيدة لهذه الثنائية على أرض الواقع.
لقد حاول عبد السيد أن يبرر أفعال بطليه وإنحرافهما نحو الشر، وقد نجح في
ذلك الى حد كبير، خصوصاً إنه إعتمد على أداء ممثليه اللذين قدما مباراة
متواصلة في الأداء التلقائي، نجح فيها الإثنان. نور الشريف بتقديمه عرض
لقدراته على الأداء الطبيعي والتعبير الحركي، ومحمود عبد العزيز بتمكنه من
شد الإنتباه لحيويته وخفة دمه ويقضته المتأججة. كل هذا الإبداع التمثيلي،
قد خفف كثيراً من سخط المتفرج علىهما وتحويله الى رجل المافيا الإنفتاحي
(علي الغندور). وبالرغم من هذا، إلا أن السيناريو في نصفه الثاني يبدو أقل
تأججاً، حيث حمَّله عبد السيد أكثر مما ينبغي، وأضاف إليه زوائد يمكن
الإستغناء عنها، دون الإخلال بالموضوع الرئيسي. فمثلاً، علاقة الحب
الرومانسية التي عاشها صلاح مع منى (مها أبو عوف)، أخذت من الوقت حيزاً
أكبر من اللازم، بالرغم من أن عبد السيد قد قدمها بشكل واقعي جديد.
إن عبد السيد في فيلمه الروائي الأول، لم يستطع التخلص من مآخذ العمل
الأول، حيث إحتوى (الصعاليك) على التطويل والدسامة في الأفكار خصوصاً في
النصف الثاني، رغبة منه بالإحاطة بكل شيء، مع أنه لو واصل فيلمه بنفس
الوتيرة التى في النصف الأول، لنجح فعلاً في تخطي سلبيات كثيرة. وبالرغم من
تلك السلبيات التي إحتواها الفيلم، إلا أنه إستطاع الكشف عن ميلاد مخرج
متمكن من أدواته السينمائية ومتواصل مع مجتمعه. كما أثبت عبد السيد بأنه
قادر على كتابة الصورة السينمائية المعبرة، وتحويلها الى نبض متدفق
بالمشاعر والأحاسيس الجياشة. كذلك نجح عبد السيد بالتخلص من قيود الأستوديو
الجامدة، مقدماً نظرة جديدة للإسكندرية بشوارعها وأزقتها، خصوصاً وأن
تجربته في مجال الفيلم التسجيلي قد وهبته إحساساً غنياً بالطبيعة والواقع
.لهذا جاء فيلمه الروائي الأول غنياً بالتفاصيل الحية، مستغلاً أماكن
التصوير بشكل موحي ومؤثر، مما أضفى على طابعاً واقعياً صادقاً.
ثم لا ننسى الإشارة الى أن فيلم (الصعاليك)، لا يشكل مولد فنان سينمائي
فحسب، بل يشكل ـ أيضاً ـ مولد فنان موسيقي مبدع، هو الفنان "راجح داود"،
حيث عبرت موسيقاه عن مسار أحداث الفيلم ودواخل شخصياته، وإستطاع تقديم
نموذج حقيقي للموسيقى التعبيرية، تندمج في الفيلم فتصبح جزءاً من الصورة
السينمائية.
إن فيلم (الصعاليك)، كتابة وإخراجاً، يقدم نظرة جديدة للعلاقات الشخصية..
نظرة متحررة من كل حكم وأفكار مسبقة.. نظرة غير أخلاقية، بمعنى أنها لا
تنجر وراء الأحكام الأخلاقية على السلوك البشري، بل تبحث وتتفهم الدوافع.
فالشخصيات التي يقدمها عبد السيد، يلفها بالحنان دون التقاضي عن نقاط
ضعفها. وفي منأى عن ثقل فكرة الخطيئة، يلتقط نماذج شفافة تحيا مشاعرها
بقوة.. بتطرف، تحترق من ركضها اللاهث وراء شعاع سعادة ورفاهية. فعبد السيد
في فيلمه هذا لا يكتفي بالكشف عن النظام الداخلي للإنفتاح كنظام إقتصادي،
وإنما يندفع للتعبير عن وجهة نظره في الإنسان من الداخل، ويعبر بعمق عن
الجدل بين الفرد والمجتمع. |