يجسد التاريخ الفني للنجم الأمريكي جورج كلوني درسا بليغا حول
ما يمكن للفنان أن يفعله، وشعوره بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية كلما
اتسعت شهرته، فربما لم يكن هناك أحد يتوقع لهذا الممثل تحقيق أية نجومية،
عندما بدأ حياته الفنية في مسلسلات تلفزيونية متواضعة، يعتمد فيها في
الأغلب على وسامته وليس على موهبته التمثيلية، وهو الأمر الذي استمر في
أفلامه الأولى، لكن عندما جاءته النجومية متأخرة بالمقارنة مع أقرانه في
هوليوود، أسس شركة للإنتاج، وصنع روابط فكرية مع فنانين جادين، ومع
استمراره في الاشتراك في أفلام مسلية على طريقة “عصابة أوشن”، فإنه خلال
العامين الأخيرين قدم بعضا من أهم الأفلام ذات الرسالة الجادة، مثل “سيريانا”،
و”مساء الخير وحظاً سعيداً”، ليكشف عن جوانب مظلمة من المجتمع الأمريكي،
وهاهو يفعل الشيء ذاته في فيلمه الأخير “مايكل كلايتون”.
للوهلة الأولى يبدو فيلم افتتاح مهرجان دبي مايكل كلايتون
وكأنه تنويع على الأفلام التي تكشف عن الصدع بين القانون والعدالة، من خلال
إلقاء الضوء القوي على مهنة المحاماة على الطريقة الأمريكية، ومعظمها يجعل
المحامي يقف إلى صف الجناة، باحثا عن ثغرات القانون والمماطلة في إجراءاته
والمساومة مع المجني عليهم، حيث لا يصبح في النهاية للعدالة معنى أو وجود،
مثل فيلمي “إيرين بروكوفيتش” و”تبديل المسارات”، وهو الأمر الذي ذهبت فيه
السينما إلى الحد الأقصى مع فيلم “محامي الشيطان”، الذي كتبه توني جيلروي،
الذي لم يكتف في “مايكل كلايتون” بكتابة السيناريو، لكنه يقدم فيه أيضا
تجربته الإخراجية الأولى.
وعلى عادة بعض الأقلام الفنية في الفترة الأخيرة، اختار جيلروي
ألا يسرد الحكاية سردا طوليا يمتد من الماضي إلى الحاضر، لكنه يقفز في
الزمن إلى الأمام وإلى الخلف، وهو ما سوف يكلف المتفرج بعض الجهد لجمع شتات
الخيوط التي تبدو مبعثرة، وإن كان قادرا على الإمساك من أول لحظة بجوهر
“الشخصيات” التي تعيش هذه الدراما، وهي شخصيات سوف تبقى في ذاكرة المتفرج
لأنها بالفعل شخصيات مفعمة بالحياة. لا يبدأ الفيلم -كما قد يتوقع المتفرج-
بالشخصية التي يجسدها جورج كلوني، وإنما بتلك التي يتمثل فيها الصراع في
أقوى صوره، هانحن في البداية مع المحامي آرثر إيدنيز (توم ويلكينسون)، وقد
أصابته حالة من الهياج التي تضعه على حافة الجنون، وهو يهذي بكلمات غامضة
لشخص لا نراه، لكننا نفهم من تلك الكلمات عجزه عن الاستمرار في قضية اكتشف
-خلال السنوات العشر التي قضاها في متابعتها- أن المطلوب منه هو الدفاع عن
شركة للكيماويات الزراعية، روجت لأحد المبيدات الذي قتل مئات من المزارعين،
فكأنه يلعب دور “محامي الشيطان” رغم يقينه بأنه يقف إلى صف الجناة ويضيع
على المجني عليهم حقوقهم.
تأتي الحيوية في كتابة شخصيات الفيلم الأخرى- من أننا لا نرى
أمامنا فارسا نبيلا يتلو مواعظ حكيمة، لكنه رجل اكتشف أن حياته المهنية
جعلته عبدا للجانب الظالم، وأنه حتى يدفع ضميره إلى السبات طوال السنوات
الماضية، كان يتعاطى أقراصا مهدئة، وأنه في لحظة من حياته رأى في عيني إحدى
الضحايا، المرأة العادية أنا (ميريت ويفر)، إمكانية تحطيم قيوده التي تجعله
في نظر الآخرين مجنونا، وإن كان بالفعل يقف على شفا حفرة من الجنون. يأتي
أخيرا دور الشخصية التي يحمل الفيلم اسمها ويلعبها جورج كلوني، مايكل
كلايتون، الذي تستعين به شركة المحاماة لإنقاذها من المأزق، بفضل خبرته
الطويلة كنائب عام سابق، كانت وظيفته في الماضي الإيقاع بالمجرمين لكنه
أصبح اليوم مستشارا لهم ليجد لهم الثغرات القانونية التي يمكن بها هروبهم
بجريمتهم، وهو كما يصوره الفيلم يحمل بين جنباته مأساة إنسانية، في حياة
عائلية ممزقة انفصل فيها عن زوجته، ولم يعد يستطيع أن يرى ابنه الطفل هنري
(أوستين ويليامز)، إلا يوما واحدا كل أسبوع، كما أفلس مشروع مطعم أنشأه
بسبب شقيق سكير، بينما شقيق آخر يعمل ضابطا في الشرطة، لينتهي به الحال إلى
طاولة القمار التي جعلته مدينا بمبلغ كبير.
قد تكون هناك في الفيلم بعض الثقوب الدرامية، مثل إصرار شركة
المحاماة على استمرار المحامي آرثر، برغم فشله في تولي القضية، أو المصادفة
التي جعلت مايكل يفلت من محاولة اغتياله، لكن المتفرج لن يدرك هذه الثقوب
في الأغلب إلا بعد أن ينتهي الفيلم، وسوف تنطبع في ذهنه مشاهد ساحرة ومقبضة
في وقت واحد، مثل إعلان الشركة الزراعية الذي يتضمن حقولا خضراء وأطفالا
تعلو وجوههم الابتسامة، برغم أننا نعرف أنها تروج لمبيدات سامة. وفي
التحليل الأخير فإن الفيلم تنويع شديد المعاصرة على نمط “الفيلم نوار”،
فإذا لم يكن البطل محققا بوليسيا فإنه مثله يمضي في رحلة تتكشف فيها أمامه
مظاهر الفساد، الذي تغلغل في المؤسسات الأمريكية، حيث “المال” هو الهدف
الوحيد بلا أخلاقيات أو ضمير، وحيث لا وجود إلا لقانون قوة السلطة وفرض
الأمر الواقع، لكن ما يدهشنا حقا -ويدعونا للمقارنة مع السينما العربية- هو
أن يتحمل “نجم” مثل جورج كلوني مسؤولية هذه الرسائل، لأنه يعرف أن النجومية
في جوهرها الحقيقي تعني المسؤولية.
الخليج الإماراتية في 10
ديسمبر 2007
|