خلخلت الرواية الحديثة منذ مطلع القرن العشرين الانظمة
التقليدية للسرد مما فتح الآفاق على انجازات تيار الوعي لدى
جويس وبروست وروب غرييه
وفرجينا وولف ونتالي ساروت، حيث نقضت تلك الانظمة السردية التقليدية وحلت
العلاقات
السرية بين الحوادث والشخصيات محل العلاقات السببية والمنطقية
وبدأت الرواية تبتدع
ضروباً كثيرة من العلاقات السردية بين العناصر الفنية، بل ظهرت بنظرية ضد
الرواية
وتوارى ذلك المفهوم الذي أرساه ‘’اميل زولا’’. وخلخل التشكيليون
المستقبليون مفهوم
الفن التشكيلي وخلخل مسرح العبث تقاليد المسرح كتابة وإخراجا
كذلك خلخل انطونيوني
تقاليد السرد السينمائي.
العزلة
والقلق
استقبل الجمهور فيلم ‘’المغامرة’’
للمخرج انطونيوني بالصفير والاستهجان اثناء عرضه في مهرجان ‘’كان’’. رغم
انه طور
لغة السينما الحديثة وأدخل الفيلم ضمن الاعمال العظيمة في تاريخ السينما
مخلخلاً
ومحطماً الحبكة التقليدية التي اعتاد الجمهور عليها، فالبطلة
تختفي من بداية
الفيلم، ليعرض ويؤكد الحياة العقيمة للافراد الفارغين مصوراً الرتابة التي
تبتلع
الشخصيات، ومركزاً على لحظات الصمت الطويلة المتكررة، كما يحدث في الواقع،
من خلال
استشفافه لدلالات عدة تقود الى انعدام الاتصال بين الافراد
والاستخدام الخارج عن
المألوف للاثارة الجنسية من اجل تلطيف العزلة أو القلق، القيم البرجوازية
المنهارة،
ضجر ولا مبالاة الاثرياء المكان والديكور والتكوين والبيئة عناصر اساسية
ومتممة
للفعل الاخلاقي، الادراك المعاصر للتفسخ كلها تتخلل هذا الفيلم
(المغامرة) العمل
المهم في السينما الحديثة متجاوزاً تبسيطات الواقعية، لكنه لم يكف عن
الاهتمام
والقلق بشأن الوضع الانساني رغم ان الغموض والمجاز والتعقيد يغمرنا مما
يجعل
انطونيوني من ضمن قائمة السينما التدميرية لدى ‘’1 فوغل’’
الكتاب الذي ترجمه امين
صالح.
مساهمة
فعالة
لأنطونيوني مساهمة فعالة في حركة الواقعية الجديدة في
الاربعينات ناقداً، وكاتب سيناريو ومخرج افلام تسجيلية. لفيلمه
‘’الانفجار’’ أو
‘’تكبير
صورة’’ أهميته خصوصاً في أي محاولة للتعريف بمعنى الحداثة السينمائية، وإذا
كان ‘’روبر توروسليني’’ الذي يعد النقاد من الذين ساروا في الدرب نفسه في
فيلم
‘’رحلة الى ايطاليا’’ التي كانت الارهاصات الأولى، حيث كانت بنية الفيلم
قائمة على
رحلة مع
العرض ‘’الصراع’’ الذي يدور داخل النفس البشرية عبر التفاعل بين الانسان
ومناظر الطبيعية، في محاولة ربط بطرق جديدة ? بين الشيء محل المشاهدة
والعين التي
تشاهده والتي لها صلة ببعض افلام السرد الروائي كفيلم
‘’الهند’’ لروسليني العام
1958
أو ‘’وصف
الكفاح’’ 1960 لكرس ماركر وكذلك طريقة تقطيع السرد السينمائية وتحريك
مجموعة من الشخصيات في حيز ضيق من المكان كما نراه في فيلم ‘’الصديقات’’
لأنطونيوني
.1955
ومثلما تتأصل جذور انطونيوني في الواقعية الجديدة، تتأصل ايضاً
في شكل آخر من
اشكال السينما يعنى بشخصيات ذات وضع اجتماعي محدد وفي هذا الشكل السينمائي
توضع
الشخصيات مع الملاحظة وهي في ظروف الحرب وما يتخللها من عنف وفي ظروف ما
بعد الحرب
مباشرة، وكانت الملاحظات التي تتناول هذه الشخصيات تجرى من
الخارج، أي من خلال
علاقاتها الشخصية والاقتصادية كما طرحها النقاد، فالواقعية الجديدة كانت
تقيم
جمالياتها على اساس اعادة بناء الحياة مستخدمة في ذلك كل ما لدى سينما
الاحتراف
التقليدية من معدات، كما يمكن ان نراها في عمل ‘’شيزاري
زفاتيني’’ في اعداد سيناريو
‘’امبرتو’’
وأعمال ‘’فيتوريودي سيكا’’ مع الممثلين الهواة لذا جاء فيلم ‘’امبرتو’’
على منوال افلام هوليود من حيث البنية المعدة سلفاً ومن حيث التمثيل وإن
اختلف في
الاسلوب.
اما اعمال انطونيوني المبكرة، فقد كانت تحمل طابع التشاؤم كما
كانت
افلام
الواقعية في الأربعينات، فالحبكة في هذه الافلام دائرية البنية تعود
الشخصيات
الى نقطة البداية، بعد ان تتعرض الى اغراء زائل وخاوٍ كوسيلة لاختبار
الحرية كما في
فيلم ‘’قصة حب’’ ,1950 حيث تكون حادثة الوفاة وقعت منذ سبع
سنوات سبباً في احياء
علاقة بين اثنين كانا ذات يوم حبيبين، لكن هذه العلاقة لا تؤدي في نهاية
الامر إلا
الى وقوع مصيبة تنجم عنها الاصابة بالشلل.
في فيلم الصديقات لا تنجح ‘’روزيتا’’
في
محاولة الانتحار لا تبرهن إلا العودة للمحاولة مرة أخرى.
في
فيلم ‘’الصرخة’’ 1957
يقوم
البطل برحلته الطويلة، لكن تلك الرحلة تعود به الى مشهد البداية، حيث
السعادة المفقودة لينتهي الى الموت.
لكن ما أدهش النقاد في افلام انطونيوني هو
استطاعته ان يقلب العنف الذي ورثه عن الواقعية الجديدة - ليكون
مداره على الدوام
روح الانسان، كما انهم يدهشون لتعدد الوفيات وما يكتنفها من غموض كما انها
تكشف عن
تباشير التطور الذي سيواصل سيره في افلام انطونيوني. فالشخصيات لها بعد
سيكولوجي
اكثر منه بعد اجتماعي، ولم يعد التركيز على الحوادث في حد
ذاتها، بل تعدى ذلك الى
بيان تأثير هذه الحوادث على الشخصيات ولم يعد التحري أو التحقيق أو النموذج
السينمائي المطروح يقوم به رجال الشرطة، حيث يطرحون الفروض او حتى الأدلة
الدافعة
على عمل ما. بل اصبح تحرياً تنهض به احدى الشخصيات لتزداد
تنوراً وبصيرة، ولكن من
دون ان تلوح لها بادرة امل كما في فيلم ‘’الصرخة’’
ويلعب الديكور دوراً مهماً في
الفيلم
الصرخة ليعكس هذا التحول في الاهتمام لدى انطونيوني، فبعد ان كان الديكور
عنصراً يحدد الهوية الاجتماعية التي تفصل بين العاشقين في فيلم ‘’قصة حب’’
نجده في
فيلم ‘’الصرخة’’ اصبح مع المطر ومناظر الدمار تعبيراً عن
الحالة النفسية
للبطل.
استعادة
الموقف النيتشوى
اذا كان الفعل يعوم داخل الموقف اكثر مما
ينجزه كما هو لدى ‘’فيسكونتي’’ في رؤيته المعقمة للانسان
والطبيعة لتوحدهما المحسوس
والجسدي اكثر مما يتعلق بالصراع ضد الطبيعة او فيما بين البشر انفسهم في
نبع جمالي
فني فإن فن انطونيوني يسير في منحنيين استثمار مدهش للأزمنة الميتة التي
تستغرقها
اليوميات المبتذلة والتعامل مع المواقف الحدية، حيث تدفع هذه
المواقف لتمثيل مشاهد
فاقدة للملامح الانسانية، وفضاءات خاوية تمتص الشخصيات وأفعالها فلا تحتفظ
فيما سوى
بوصف جيوفيزيائي، بجرد احصائي.
انطونيوني حسب جيل دولوز اقرب الى نيتشه منه الى
ماركس، فهو المخرج المؤلف الوحيد الذي استعاد المشروع النيتشوى
في نقد حقيقي
للاخلاق بمنهجية (السيميتو ما تولوجي) الباحث في الاعراض المرضية.
في فيلم
المغامرة توجد لقطة عامة طويلة لجماعة من الناس يبحثون عن سيدة مفقودة فوق
جزيرة،
وهذه اللقطة اطول بكثير من سائر اللقطات المأخوذة من اوضاع الكاميرا، فهي
تعرض
وبتركيز شديد صورة محكمة للاحباط الجماعي، وعزلة الباحثين،
الجميع يبدون من ظهورهم
والجميع يتجهون اتجاهات مختلفة الى حد ما وهم يشخصون عبر منطقة الجزيرة
بحثاً عن
اشارة ترشدهم الى المرأة، ومرة اخرى يستحوذ طول هذه اللقطة بالنسبة الى قصر
غيرها
من اللقطات على انتباه المتفرج، وحينما يكون تسارع اللقطات
العامة والمتوسطة
والقريبة متساوي الطول تقريباً، فمن الطبيعي ان ينظر لمحتوى هذه اللقطات
على انه
بالاهمية نفسها والاشياء الاخرى المتساوية كافة. رغم ان التصوير في موقع
خارجي يضفي
مصداقية على المنظور المصور إلا انه مع ذلك يقتضي تناولها
بالتغيير للحصول على
الضوء اللازم.
أو اظهارها من صور اكثر واقعية أو جاذبية مما يفرض وضع عواكس
ضوئية لكي تغير من الضوء المتاح بديكور طبيعي، كذلك يتم تلوين
وتغيير ألوان الأشياء
بقصد إضافة مؤثرات معينة، وهذا ما نراه لدى انطونيوني في فيلم ‘’تكبير
صورة’’ 1967
الذي جرى تصويره في متنزه وقعت فيه جريمة قتل كانت حشائش المتنزه يانعة
الخضرة،
فضاعف اخضرارها بالطلاء ليؤكد التناقض بين المنظر وبشاعة
الجريمة التي حدثت فيه.
فإذا كانت الأجسام في فيلم معركة الجزائر لا تظهر أي جسم ابيض جلياً بشكل
كلي، فإن
في
فيلم ‘’تكبير صورة’’ تكون مزركشة بالالوان الحمراء، والخضراء، والزرقاء من
خلال
استخدام الضوء منفصلاً عن اللون، فالجسم المضاء بنور ساطع سوف
يبرز للعيان في تناسب
مباشر على عتمة الاضاءة التكميلية. فكلما اقتربت شدة الضوء التكميلي من شدة
الضوء
الاساسي قل وضوح الجسم. وهكذا يتطلب تقدير الضوء في المقام الاول تحليلاً
للعلاقة
بين الضوأين الاساسي والتكميلي.
الوقت البحرينية
في 1 سبتمبر 2007
|