أفادت و كالات الأنباء مؤخراً وفاة اثنين من أهم رجالات
السينما
وأساطينها
وهما السويدي انغمار برغمان والايطالي مايكل انجلو انتونيوني، امضيت
معهما
أكثر مسيرتي المهنية ضنكاً، في سعي محموم لاستيعاب ما تود السينما التي
يحققانها أن تقول، بكل ما في هذه السينما من أسرار وأحلام
ومساحات ومعاني مستترة
وذكريات وأزمات وتفاصيل والاحساس الدائم بعدم الأمان، كان يقابل ذلك كله عشقي
للسينما السائدة وأعني السينما الأمريكية بكل التشويق الذي تحمله، وهوسي الدائم
أن
أخرج من عباءة هذه السينما بحثاً وراء سينما تمتحنك وترهقك،
ولكن أن تصبح سينمائياً
تتحدث
في مجالس السينما ومنتدياتها ومع كتاب السينما ونقادها لابد أن تحب وتفهم
وتستوعب سينما برغمان وبينويل وفلليني وانتونيوني وكل المخرجين الذين يملكون
القدرة
علي جعل أحداث أفلامهم مقلقة ومحيرة ويا لها من شروط صعبة.
1- مع
انغمار برغمان في عليائه
عرفت برغمان أولاً.. وتلك كانت تجربة قاسية، كان ذلك في نهاية
السبعينات
وأنا أخطو
أولي خطواتي في مدرسة الفيلم بلندن، وكان مقرراً علينا أن نشاهد هذا
النوع
من السينما يومياً، وأن ندل بدلونا فيما نشاهد من أفلام، كنت مهيأ بعض الشيء
فقد أحضروا لنا المخرج الروسي تاركوفسكي ليحاضر عن أفلامه التي
تعتبر الأكثر
تعقيداً وغموضاً.
كانت أول مشاهداتي لبرغمان فيلم الختم السابع الذي حققه عام
1957
وللأمانة
أصابني احباط شديد بعد مشاهدة الفيلم،
يبدأ الفيلم
بأناشيد كورالية، بينما
نري
نسراً يحلق في سماء ملبدة بالغيوم.. نري الفارس وتابعه علي شاطيء مليء
بالصخور.
المكان:
السويد في القرن 14
الوباء منتشر
الفارس يصلي
والموت واقف خلفه
يتقدم الموت
بجسمه الضخم ليلف الضحية بعباءته، ولكن الضحية تذكرت فجأة
إنها قد شاهدت الموت من قبل في بعض الرسومات وهو يلعب
الشطرنج.
يقترح الفارس
علي الموت أن يلعب معه مباراة في الشطرنج كنوع من التحدي،
يوافق الموت.. وينتصر الفارس ليستمر في رحلته.
أسلوب له طابع شخصي جداً، تحدث الحضور عن الفلسفة السوداء التي
تتخلل
مضمون
الفيلم، وعن الكآبة، ونظرته للحياة والناس ومخاوفه وأحلامه.
تحدث البعض عن قوة الفيلم التي تكاد تخلو من أي خطأ، وعن
الجمال المرئي
وقوة
التحكم في حركات الممثلين ودخول الموت والتقطيع الممتاز.. إلخ.
لم أر في الفيلم سوي مضامين مثيرة للقلق، وتقارير وأحكام لا
تمت لواقعنا
بصلة
وأفكار إنسان مريض تنوء روحه بآلام حقيقية، وقلت إنني أصبت بخيبة أمل
مريرة.
وللغرابة أعجبت وجهة نظري الحضور.. وأخذ الحوار منحي يؤيد
أفكاري التي
طرحتها
بعفوية شديدة نتيجة جهلي التام بمضمون الفيلم ومللي من شكل ومحتوي الفيلم،
وللأمانة فقد كنت مسطحاً تماماً، كان ذلك أشبه بمعجزة، فربما كان حديثي
انعكاساً
عما كان حقيقة يشعر به برغمان وما يود أن يقوله.
رأي الحضور ان من حقي كمتفرج أن أخرج من الفيلم بما يتوافق مع
عالمي
الداخلي
والخاص، تحدث الحضور عن أشياء كثيرة جداً، عن الإيمان ونقص الإيمان، عن
الطمأنينة والشعور بالمسؤولية، عن الأحلام و الواقع، وحين تتحول الأحلام إلي
واقع
معاش، ويتحول الواقع إلي حلم، عن محاولات برغمان إلي إزالة
الحواجز بين الحلم
والواقع.
قالوا إن الفيلم يطالب أن تستمر الحياة بشكل أو بآخر، أما
الرمز المهيمن
علي
الفيلم فهو الموت نفسه، الذي يصل إلي قمة القلق في مباراة الشطرنج واستمر
الحوار
أياماً.
وكان هذا هو المغزي الوحيد الذي خرجت به وقتها، إنها سينما
ملهمة، تثير
الكثير
من الحوار والجدل، سينما مختلفة تثير الكثير من التساؤلات وتبقي أعواماً في
الذاكرة، السينما التي تنعش وتجدد عقل الإنسان. أما فهمها فربما يجيء مع
الوقت.
واستمرت رحلتي مع انغمار برغمان لأكثر من ربع قرن شاهدت فيها
معظم
أفلامه الهامة
وجزءاً من أفلامه القصيرة، وهي أفلام تتسم بالتعقيد والقوة التعبيرية
وتقدم
حلولاً غير تقليدية لمشكلات السرد السينمائي، سينما تجعلك تبحث أكثر وتكتشف
أكثر، يتحرك برغمان بحرية شديدة في عوالم أحلامه وهواجسه دون
أن يفرض رأياً أو يقدم
شروحاً.
ومن الممكن تماماً أن تخرج من الفيلم لأيام وأنت تتساءل عن
المغزي
المطروح دون
أن تتوصل لشيء، وكثيراً ما صرح برغمان بأنه لم يفهم تلك الأفلام التي
قام
بصنعها. عندما أشاهد الأفلام التي قمت بصنعها فإن جسمي كله يصاب بالحمي
والاحمرار
.
ولد أرنست انجمار برغمان في عام 1918 في بلدة أوبسالا
السويدية، وكان
والده
قسيساً، فعاش طفولة جافة كلها قيود انعكست علي أعماله وتصرفاته.
وهو مخرج وكاتب سينما ومسرح وراديو وتلفزيون، ويعتبر واحداً من
أهم رموز
السينما في العالم، حصل علي شهرة عالمية بعد اخراجه لفيلم الختم السابع عام
1956
ونال
عنه جائزة التحكيم في مهرجان كان السينمائي عام 1957
.
الراية القطرية
في 08 أغسطس 2007
|