كتبوا في السينما

سينماتك

القبس في مهرجان كان الـ 60

 هل يكون 'الجواد الرابح' في السباق على 'سعفة' كان الذهبية؟

'حافة السماء' لفاتح أكين: 'حكاية شرقية' تعلي من قيمة التسامح

القبس ـ 'كان' ـ من صلاح هاشم

مهرجان كان الـ 60

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

من أجمل وأقوى الأفلام التي عرضها مهرجان 'كان' حتى كتابة هذا المقال فيلم 'حافة السماء على الجانب الآخر' لفاتح أكين، المخرج الألماني التركي الشاب (من مواليد هامبورج 1973) من أبوين تركيين وتربى وكبر في ألمانيا ويحاضر حاليا في مادة السينما في جامعة هامبورغ. ونرشح بقوة هنا فيلمه الروائي الخامس ذاك للحصول على سعفة 'كان' الذهبية ومن دون كلام. فهو من ناحية من أقوى الأفلام الروائية السياسية التي عرضها المهرجان، حيث لا يرحم مخرجه المجموعة الأوروبية ـ الإمبراطورية الاستعمارية القديمة التي لم تكن تغرب الشمس عن دولها، ويشكك في أن تكسب تركيا شيئا من الانضمام إليها، كما ينتقد في الفيلم السلطة السياسية التركية القمعية بشدة، وهو يكشف عن نضالات الشعب الكردي، الذي مازال يحارب داخل البلاد وخارجها، حتى يعيش ويتعلم، ويتمتع بحقوق المواطنة، ويمتلك حرية النقد والتعبير، وتضمن له أبسط حقوق الإنسان الكريمة.

كما يعرض الفيلم لأوضاع المهاجرين الترك المغتربين المنفيين، ويصور كيف تعاملهم الإدارة البوليسية البيروقراطية في ألمانيا، وكيف يتصرف بعض أفراد الشعب الألماني حيالهم بكراهية وعنصرية وسادية، وهو مازال مسكونا بعقدة 'الآخر' الأجنبي الغريب، ويرى فيه خطرا على حياته وممتلكاته وثقافته. ويعرض في الوقت ذاته لحالة الشارع التركي وفاشيته، المشحون بالعداء لكل ما هو غير تركي، والذي يكتفي فيه المارة بالفرجة عند اعتقال المناضلين السياسيين الأكراد، ثم تعقبها حملة تصفيق للقوات البوليسية الخاصة، التي تعتقل هؤلاء المناضلين الأكراد 'الإرهابيين' وتحاكمهم وتودعهم سجون تركيا، حيث تقتصر زيارة المسجونين هناك كما يقول أحد الموظفين البيروقراطيين الأتراك في الفيلم على الأقارب فقط، ويردد أن نعم، هذه هي تركيا.. إن كنتم لا تعلمون، ثم يهز رأسه.

واقعية وانسانية

ومن ناحية أخرى يتوهج فيلم 'حافة السماء' فنيا وإنسانيا، وهو يناقش قضية العلاقة بين ألمانيا وتركيا سياسيا واجتماعيا وثقافيا، وقضية الجيل الثاني من المهاجرين، الذي نشأ وتربى في حضن ألمانيا، من دون أن ينسى أصوله ودينه وثقافته، وحنينه إلى الوطن الأم، حيث يسعى 'حافة السماء' THE EDGE OF HEAVEN الذي بدا لنا مثل 'حكاية شرقية' متوسطية آسرة، إلى عقد مصالحة من نوع ما بين ألمانيا وتركيا، وينجح في ذلك الى حد كبير، بعد أن يكون أبطاله عانوا وتعذبوا وضحوا من اجل العبور إلى الجانب الآخر المشرق من الحياة، وتخلصوا من أنانيتهم بعد أن خبروا أهوال الموت، ومعاني فقدان عزيز، وفقط من خلال تجربة الألم ومواجهة الموت، كما يقول الشاعر والمسرحي الألماني الكبير برتولت بريخت، تشيد الأفلام والسدود وكذلك الكاتدرائيات العظيمة.

ومن ناحية ثالثة يكشف 'حافة السماء' من خلال أسلوب فاتح أكين عن 'حكواتي' سينمائي اصيل، ونعتبره ـ بواقعيته وإنسانيته ـ تلميذا وامتدادا لمدرسة المخرج التركي الكبير ايلماظ جوني (القطيع)، اذ يطبخ فيلمه على نار هادئة، وهو يطرز نسيج الفيلم براحته، ومن دون 'سربعة' أو استعجال، وكأنه يسقينا حكاية الفيلم مثل 'عصير عنب وخشاف' يرطب الحلق في حر الصيف الجامح وينعشه، فتخرج من قاعة العرض في مهرجان 'كان' الكبير، وتحدوك رغبة بعد مشاهدته في عناق البحر، ونخيل كورنيش الكروازيت المطل على الخليج، والتواصل بالمحبة والعناق مع كل الموجودات والمخلوقات.

سطوة المكان

وكما في كل الأفلام العظيمة، سيحيلك هذا الفيلم بمرجعيته، من ناحية ارتباطه بمدرسة أو تيار او اتجاه أو أسلوب معين، إلى مدرسة 'الحكواتية' العظام في تلك المنطقة المتوسطية من العالم. الى الأب الروحي 'هوميروس'، صاحب الإلياذة والأوديسة، المعلم الأكبر، وكتاب 'ألف ليلة وليلة' المجهولين، ويذكرك بأفلام باولو وفيتوريو تافياني (ليلة القديس سان لورنزو)، وقصائد الشاعر التركي العظيم ناظم حكمت، وهو يتسامى بروحك، ويعلي من خلال الفيلم من قيم العلم والتعليم، وقيمة التسامح والمصالحة RECOCILIATION بين الأجيال، بين الأب وابنه، والأم وبنتها، وينتهي في لقطة أثيرة هناك عند حافة البحر، والابن يجلس على الشاطئ وهو ينتظر الأب الذي خرج للصيد ويترقب عودته.والجميل هنا ان الكاتب والروائي التركي أورهان باموك الحاصل على جائزة نوبل في الأدب يشارك في لجنة تحكيم المسابقة الرسمية للمهرجان، ويقينا سيشرفه ويسعده الدفاع عن هذا الفيلم، واستحقاقه نيل سعفة كان الذهبية عن جدارة.

يحكي فيلم 'حافة السماء' عن عامل تركي عجوز متقاعد في السبعين من عمره، يتعرف على مومس تركية في بيت للدعارة في ألمانيا، فيعجب بها ويحبها،ويعرض عليها أن تهجر مهنتها تلك التي تعرضها في المترو لبعض الأتراك المتشددين المتطرفين، الذين يحذرونها من الاستمرار في تلك المهنة، لأنها تركية ومسلمة يا للعار، ولا ينبغي لها أبدا ان تمرغ سمعتهم التركية الشريفة في الوحل، وكأنها اختارت تلك المهنة بمزاجها، فتقبل عرضه، وبشرط أن يدفع لها ثلاثة الآف يورو كل شهر نظير الإقامة معه في بيته، ويكون من حقه أن يضاجعها وحده، ولا يشاركه في ذلك إنسان، ثم نتعرف في الفيلم على ابن ذلك العجوز، الذي اشرف على تربيته بعد وفاة أمه، ويمثل الجيل الثاني من المهاجرين الأتراك في ألمانيا، ونفاجأ بأنه على العكس من أبناء المهاجرين العرب في فرنسا، الذين يعانون التمييز العنصري، استطاع أن يدرس ويتسلق السلم الاجتماعي، ويصبح أستاذا في الجامعة، ويتعرف الابن على زوجة الأب الجديدة خليلته، التي لا تخجل من مصارحته بأنها مومس، وأن لها بنتا في السابعة والعشرين من عمرها وهي تعيش في تركيا، وترسل إليها كل شهر مبلغا كبيرا من المال لكي تعينها على الدراسة، وتتخرج في الجامعة مثله ويصبح لها شأنا، وتكذب الخليلة على بنتها وتدعي انها عاملة في محل لبيع الأحذية في ألمانيا!

حقوق ومظاهرات

ويتعاطف الابن مع زوجة الأب الجديدة ورفيقته ويحترمها، في حين تعطف هي عليه، وتلطف بحضورها من قسوة الأب السكير المشاكس، ويتشكل مثلث في الجزء الأول من الفيلم يجمع بين الأب والابن والخليلة.

وحين تموت الخليلة فجأة ويقتاد الأب إلى الحبس، يسافر الابن المثقف الأستاذ في الجامعة الى اسطنبول لكي يدفن الزوجة، ويبحث عن ابنتها لكي يساعدها ماديا على تكملة دراستها، ويلجأ الى الشرطة للبحث عن عنوان الابنة المفقودة، التي يتضح لنا في ما بعد انها تناضل في صف مجموعة مسلحة من الأكراد، وتخرج في مظاهرات تطالب الحكومة بمنحهم حقوقهم المشروعة، وتندد بالقمع الذي يتعرضون له في البلاد، وإنها لا تدرس في الجامعة كما تحسب الأم، وحين يطاردها البوليس تلجأ الى إخفاء مسدس في ركن من سطح عمارة، وهي لا تعلم انه سيكون السبب في خراب بيوت، ومصرع صديقتها الألمانية التي ستتعرف عليها في ما بعد، حين تهرب من محاكمتها في تركيا الى ألمانيا لتبحث عن الأم ومحل الاحذية الذي تعمل فيه، وهي لا تعرف أن أمها ماتت، وأن شابا ألمانيا مثقفا وأستاذا في الجامعة، يبحث عنها في حواري وأزقة اسطنبول لكي يساعدها!

الجواد الرابح

وحين تهبط الى ألمانيا، يتشكل في الجزء الثاني من الفيلم مثلث آخر مكون من البنت التركية المناضلة، وفتاة ألمانية تتعرف عليها في الجامعة وتصبح بسرعة صديقتها، وأم هذه الفتاة، وهي عجوز ألمانية عنصرية تكره الأتراك والغرباء، وتلعن ابنتها لأنها اصطحبت تلك الفتاة التركية لتقيم معهما في بيت واحد، وتنكد عليها عيشتها، وتلعب دور الأم في ذلك المثلث الجديد الممثلة الألمانية القديرة هانا شيغولا، التي كونت مع المخرج الألماني الكبير الراحل فاسبندر ثنائيا سينمائيا ألمانيا رائعا، لعب دورا كبيرا في بزوغ سينما طليعية ألمانية جديدة، وحين توفي فاسبندر، كان أن انطلقت شيغولا، ومثلت في أفلام للفرنسي جودار، والألماني فيم فندرز، والايطالي ماركو فيريري، وحصلت بدورها في فيلم 'قصة بييرا' على جائزة أحسن ممثلة في مهرجان 'كان' عام 1983 كما يلعب دور الأب في الفيلم الممثل التركي القدير تونجل كورتيز الذي اضطلع ببطولة عدة أفلام لايلماظ جوني من ضمنها فيلم 'القطيع'، وتتألق في الفيلم مجموعة من شباب الممثلين الشبان الجدد: نورجول يشيلشيل في دور البنت التركية المناضلة، ولوته ستوب في دور صديقتها الالمانية، وباكي دفراك في دور الابن الأستاذ الجامعي المثقف، كما تشمخ بتمثيلها الممتنع الممثلة التركية ييتر أوزتورك في دور المومس الخليلة على الرغم من قصر دورها، إذ تموت بعد قليل في الفيلم، وقد وفق فاتح أكين في اختيار طاقم الممثلين ونجح في إدارتهم ب 'معلمة' وحنكة، إلى الدرجة التي تحسب معها أنهم يلعبون شخصياتهم الحقيقية علي أرض الواقع، ولا يمثلون، وبسرعة سوف تتعاطف معهم، وتدخل في لحم ونسيج وشرنقة الفيلم الجميل، ولا تمل أبدا من الحكاية.

فيلم 'حافة السماء'، يكرس لعدة ثيمات وأجواء وحالات، في مواجهة الغربة ووحدتنا والموت، ويتنقل بين عدة مدن ألمانية وتركية، تحضر بشخصيتها، وتكون لها تأثيراتها ب 'سطوة المكان' على مجرى الأحداث في الفيلم ومشاعر أبطاله، كما يؤسس لسينما واقعية جديدة بحساسية جديدة، تأخذ أفضل ما في تلك التقاليد السينمائية التي أرساها كبار الحكواتية من أمثال ايلماظ جوني في تركيا، وصلاح أبوسيف في مصر، والأخوين تافياني في ايطاليا وغيرهم، لكي تصنع 'صورة' تشبهنا، وتحكي لنا حكاية الأرض، وتنبه الى تناقضات ومتغيرات عصرنا، وهي تهيب بكل تلك الفضائل التي يفاخر بها الإنسان، أن ساعدينا.

ولكل تلك الأسباب التي ذكرناها نأمل أن يكون فيلم 'حافة السماء' الجواد الرابح، في السباق على نيل سعفة مهرجان 'كان' الذهبية في دورته الستين.

القبس الكويتية في 26 مايو 2007

 

سينماتك