أول من
أمس كان نهاراً لبنايناً على ضفاف الكروازيت في "كان" التي استضافت في
تظاهرة "كل سينمات العالم" السينما اللبنانية. وهي تظاهرة اطلقها المهرجان
قبل عامين وتعتمد في كل دورة على دعوة سبعة بلدان الى تقديم نتاجها
السينمائي. شاركت في التظاهرة أربعة أفلام لبنانية طويلة وأربعة قصيرة.
الافلام اللبنانية الطويلة التي عُرضت يوم 21 أيار/مايو هي: "أطلال" لغسان
سلهب، "فلافل" لميشال كمون، "يوم آخر" لخليل جريج وجوانا حاجي توما و"لما
حكيت مريم" لاسد فولادكار. في الطرف الآخر من الكروازيت، استضافت صالة "نوغ
هيلتون" فيلمي "سكر بنات" و"رجل ضائع".
بين
تجربتي نادين لبكي ودانييل عربيد مسافة تحكمها التجربة والشخصية. لعل
المقارنة بينهما ما كانت لتبدو ملحة لولا تجاور فيلميهما في مهرجان كان في
الفئة عينها: نصف شهر المخرجين أو
Quinzane Des
Realisateurs.
الأولى توقع فيلمها السينمائي الاول "سكر بنات"
Caramel
آتية من عالم الصورة الملمّعة والموسيقى الرائجة التي تخطب ود شريحة كبرى
من جمهور الشباب والمراهقين وحتى الناضجين. ثبتت اسمها فيه لتتحول في غضون
سنوات قليلة نجمة توازي شهرتها شهرة من تصورهم. أما الثانية فتأتي الـQuinzane
مرة ثانية بثاني تجربة سينمائية روائية "رجل ضائع"
Un Homme
Perdu،
تتبع محاولتها الأولى "معارك حب" وعدداً من التجارب القصيرة الروائية
والوثائقية، تلوح في خلفيتها شخصية مشاكسة. تختلف التجربتان شكلاً ومضموناً
مع احتفاظ كل منها بمزاياها وهناتها. قد تكون بيروت القاسم المشترك الحاضر
الغائب في الفيلمين. انها بيروت الحرب في شريط عربيد، نلمحها خراباً
ونشتمها دخاناً وغباراً في المشهد الافتتاحي الذي يشير الى العام 1985.
الكاميرا تحاصر وجه رجل مذعور يركض هارباً في ما أصبح مشهداً كلاسيكياً في
الافلام اللبنانية التي أُنجزت عن الحرب سواء أبعدها أم خلالها. الصورة
باتت تمتلك رموزها فهي تحيلنا على احتمالات الموت والهرب والفقدان والخطف
والهجرة... وبيروت هي بيروت الحاضر في شريط لبكي وان كان لا يُشار الى ذلك
بوضوح وليس للأمر أهمية فما يقوله الفيلم يخص شخصيات لا نتخيلها الا موجودة
دائمة الحضور، لا تترك أمكنتها ليس بدافع بطولي وانما لانعدام خياراتها. قد
تكون شخصيات "سكر بنات" خارجة لتوها من حرب أهلية او من حرب تموز أو
سواها.. فذلك لن يغير في الامر شيئاً. انها شخصيات بسيطة تعيش اللحظة
وترتضي عيشها اليومي مهما تقلبت الأحوال اذ انها لا تملك سوى أن تصارع في
سبيل البقاء. يغزل كل فيلم عالمه انطلاقاً من شخصياته. عالم الفيلم هو عالم
الشخصيات المتشكل من رغباتها ومخاوفها وأحلامها وخيباتها. ولكن بينما تشرع
لبكي عوالم شخصياتها على نهارات المدينة وشوارعها وناسها، تتصل شخصيات
عربيد بالليل والسهر والبارات حيث اطلاق العنان للرغبات يظهر وجوهاً أخرى
للشخصيات. شخصيات "سكر بنات" تعيش ضياعها البسيط المحكوم بقدر ارتضت هي به.
أما شخصيات عربيد فتحيا ضياعاً داخلياً في محاولة صنع قدرها كل يوم. بين
حلاوة الاول ـ صفة تنطلق من العنوان وتنطبق عليه ـ ومرارة الثاني تتشكل
صورة غنية ومتناقضة لبيروت وأشخاصها هي غالب الظن ما أغرى ادارة التظاهرة
لعرض الفيلمين مجتمعين مع كل مخاطر المقارنة والنقد. على أن تلك المقارنة
لن تنتهي الى نتيجة واحدة. فالاختلاف هنا بين الفيلمين وتناقضهما ينسحب على
المخرجتين أيضاً. بين نادين لبكي التي تختزل النجومية والنجاح بالمعنى
الجماهيري ودانييل عربيد ذات الحضور الخاص الذي يتملص ظاهرياً من سلوكيات
النجومية تصبح اللعبة مقرونة بمن يذهب أبعد في الاطار الذي يحتويه. والواقع
ان كلتيهما تلعبان اللعبة بمهارة من دون تجنب مخاطرها وأبرزها سيطرة اللعبة
على صاحبتها. لبكي بأنوثتها الطاغية وشهرتها المبكرة تُخرج فيلماً محملاً
بحلاوة الحياة وخفتها ـ وهما ما اختبرته فيها ـ وتحضر فيه وجهاً اساسياً
تجد الكاميرا صعوبة في أن تحيد عنه. انه ذلك الحضور الذي تطغى فيه الشخصية
الواقعية على الشخصية السينمائية فتحضر نادين لبكي في الفيلم أكثر مما تحضر
"ليال". أما عربيد التي تحاول أن تصنع لنفسها صورة المشاكسة والمتمردة
والمختلفة بخياراتها الحياتية والسينمائية فتدفع بالخطوط الامامية أبعد
ذاهبة باللعبة الى تخوم المواجهة مع الاعراف والتفاليد والمجتمع. بمعنى
آخر، تستغل كل منهما صورتها الى أبعد حدود وتتمسك بما لديها من ذخيرة حققت
لها بعض الحضور والتألق. غني عن القول أن جهد لبكي المنصب على تكريس صورة
تتماشى مع المجتمع ويتوافق عليها الجميع من جمهور ومعجبين وصحافيين ـ وليس
في ذلك أي خطأ ـ لن تُتاح لعربيد الآتية أصلاً من خارج قوانين المجتمع وفوق
ذلك تحاول أن تدفع بخطوطه الحمراء الى سقف أعلى. بهذا المعنى، قد لا تكون
المقارنة لصالح عربيد ذلك انه يسهل التواصل مع "سكر بنات" بينما يحتاج "رجل
ضائع" الى جهد أكبر وتخطي للحواجز والممنوعات وتجاوز "الصدمة الأولى" اذا
جاز التعبير من فكرة تقديم فيلم لبناني لمخرجة لبنانية (إمرأة) هذا القدر
من الجنس والعري. في المحصلة، تقود المقارنة بين الفيلمين ومخرجتيهما الى
معادلة التناقضات الجذابة حيث يتلاقى اللين بالقسوة والرقة بالخشونة
والأنوثة بالشغف والحب بالشبق.
بجهد
مشترك بين لبكي وجهاد حجيلي ورودني حداد خرج سيناريو "سكر بنات" مشبعاً
بحكايات النساء وعالمهن وأسرارهن الصغرى والكبرى. عالم وردي حالم، تحكمه
الصداقة والتكاتف والبساطة والاحلام العادية. "ليال" و"نسرين" و"جوانا"
ثلاث صديقات يعملن معاً في محل لتزيين الشعر تملكه الاولى او تشرف على
ادارته. في عالمهن المغلق ذاك والمفصول عن العالم الخارجي بستائر تحمي
خصوصية الداخل بينما تثير مخيلات المارة في الشارع، تدخل شخصيات نسائية
أخرى مثل "جمال" الامرأة الاربعينية التي تأبى الاعتراف بمرور الزمن الذي
أفقدها شيئاً من جمالها والكثير من بريق الشباب. لذلك نراها تسعى لدى كل
فرصة سانحة الى تجربة أداء للاعلانات في محاولة لإقناع نفسها أنها مازالت
تصلح لها النوع من العمل. وما اصرارها على التأكيد على أنها مازالت تعاني
من مشكلات الحيض وآلامه الا مؤشراً الى مشكلة أعقد تتمثل بإحساسها بفقدان
الخصوبة كإمرأة بالدرجة الاولى. يفسر ذلك غياب زوجها وانفصالهما. أما "روز"
الخياطة فتعيش أزمة الشيخوخة والوحدة حيث لا رفيق لها سوى شقيقتها "ليلي"
البعيدة من أي توصيف عقلاني سليم. أما الفتيات الثلاثة، فلكل مشكلتها: ليال
التي تعشق رجلاً متزوجاً لا يفي بوعوده، نسرين المقبلة على زواج من شاب
محافظ وجوانا التي تميل بمشاعرها الى البنات. يُحاك الفيلم حول نقاط تحول
تواجهها النساء الشابات وتتطلب قرارات حاسمة. في هذه الأجواء، يسهل على
الفيلم أن يوظف عناصره الجذابة كالرومنسية والصداقة لينتصر في نهاية المطاف
لعالمه النسائي ولفكرة أن كل شيء ممكن مع الحب والصداقة. يتخذ الفيلم عناصر
القوة من حميميته ومن حواراته الطريفة. ثمة قدرة على اجتراح واقع ملموس
يسهل تخيله ومعايشته خلال فترة الفيلم وربما التماهي او التعاطف مع
شخصياته. انه ذلك العالم المغلق المغري خلف الابواب الذي يشكل معظم الفيلم.
المشاهد الخارجية قليلة كذلك هي اللقطات المتحركة والكادرات القريبة بما
يذكر أحياناً بمقاييس الفيديو كليب التي شكلت انطلاقة المخرجة. يشكل الأداء
التمثيلي نقطة ثقل أخرى في الفيلم تتقاسمه الممثلات بالتساوي مع حضور طاغٍ
للبكي في دور "ليال" لا يلعب دائماً لصالح العمل. كذلك يحاول الفيلم توسيع
مروحة موضوعاته بأن يحيد على أفكار المثلية الجنسية والاجهاض والجنس قبل
الزواج ولكنه مرة أخرى يستعير نعومة شخصياته للتعاطي معها بلين كأنه يمرر
يداً من حرير على حديد ساخن.
لا تعترف
دانييل عربيد بالرقة في "رجل ضائع" حيث يتحول الفيلم طرقاً متواصلاً على
موضوعات حساسة انما من دون اطلاق أية أحكام. من بيروت العام 1985 في المشهد
الافتتاحي، ينتقل الفيلم الى شمال سوريا في العام 2003 حيث الوجه الذي
شاهدناه هارباً في البداية قد شاخ أكثر وازدادت حدته يعمل في حقل ما. على
أثر مشادة صامتة مع رئيس العمال، يترك المكان ويتجه في سيارة أجرة الى
الحدود الاردنية السورية. هناك وبعد القاء القبض عليه بسبب استغراقه في
مقاربة إمرأة، يثير اهتمام مصور وصحافي فرنسي. ينتهي المطاف بالرجلين في
فندق درجة رابعة في الأردن حيث المصور يحاول استدراج الاول الى الكلام انما
من دون طائل. يروي المصور افتتانه بالتجارب الانسانية الغريبة التي يسافر
من مكان الى آخر لاصطيادها من دون ان يفوت على نفسه فرصة البحث عن طرائده
الليلية في الحانات والبارات. يغرق الاثنان في الملذات الليلية مع بقاء
الرجل اللبناني متيقظاً خائفاً من ان يلتقط الفرنسي صورته. بينما الأخير لا
يتوقف عن التصوير حتى خلال ممارسة الجنس ليتضح ان تصوير المومسات هو من
هواياته. يقضي الاثنان أيامهما متسكعين بحثاً عن بؤرة صالحة للتصوير
ويصطدمان بمواجهة السلطات. على أن المصور عازم على معرفة سر الرجل فيحرض
عليه مومساً لاستنطاقه ونقل أخباره اليه. يتضح انه لبناني، ترك بيروت في
1985 من دون ان يترك خبراً أو أثراً لزوجته هناك. ولاحقاً بعد مشادات
ومضايقات، يعترف للمصور بأنه هرب على اثر محاولته قتل زوجته في ما ستبقى
نقطة غامضة في سياق الاحداث. في بيروت، يتمكن المصور من معرفة مكان سكن
الزوجة ويزورها ليخبرها لاحقاً بأنه يعرف زوجها. أما الأخير فيكون في تلك
الاثناء قد تعرض لحادثة سيارة أقعدته في المستشفى.
يمتلك
الفيلم عالمه الخاص المدفوع الى حدوده القصوى بإصرار مخرجته التي يمكن
اطلاق وصف "الوقاحة" مجازاً عليها. فهي منذ أفلامها السابقة تلاحق
موضوعاتها وشخصياتها وتصر على اقتحام عوالمهم بكاميراها التي لا تعترف
بخصوصية ولا حدود فتذهب الى الفراش مع المصور وتعبر الأجساد كما لو كانت
يداً تستفز أكثر منها تمسد. انه عالم سقوط الأقنعة وسقوط الأسئلة والهواجس
أمام حقيقة واحدة هي حقيقة الجسد العاري. يبني الشريط لعلاقة مثيرة
للاهتمام بين الرجلين لا تخلو من افتتان ومن تبادل المواقع والهويات ويطرح
فكرة المفقودين من منظار آخر مضاد لفكرة الانتظار حيث ترفض الزوجة عودة
زوجها كما يرفض العائد عودته فيقرر أن يهرب من جديد راكضاً مرة ثانية كأن
قدره الهروب المتواصل. (ستكون لنا عودة الى الفيلم بمقالة منفردة).
بينما
ينطلق "سكر بنات" في الصالات اللبنانية منتصف الشهر القادم، بنتظر "رجل
ضائع" مصيراً مجهولاً وان كان شبه معلوم لمخرجته التي تستبعد عرضه في بيروت
الى أن تبرهن الأخيرة (بأجهزتها المسؤولة) عن قدرة على احتضان الاستفزازيين
لتكتمل المعادلة.
المستقبل اللبنانية
في 23 مايو 2007
|