استطاع
مهرجان كان السينمائي الدولي ـ المنعقد حاليا أن ينجح في الاختبار الصعب
الذي وضع نفسه فيه باعتباره أهم مناسبة سينمائية في العالم.. فلم يخذله
النجوم الكبار وحضر الكثيرون منهم مثل ليوناردو دي كابريو وأندي ماكدويل
والمخرج دافيدلينش ولوك بيسون.. ولم يخذل المهرجان هو الآخر متابعيه وعرض
في الأيام الأولي أكثر من تحفة سينمائية كلها حطمت أفكار القرن العشرين
وعلي رأسها الرأسمالية والشيوعية.
أول
الأفلام التي تستحق هذا الوصف هو الفيلم الجديد للمخرج الأمريكي مايكل مور,
الذي حصل عام2004 علي السعفة الذهبية للمهرجان عن فيلمه فهرنهايت11/9,
وجاء بفيلم عنوانه سيسكو, وهو العنوان الذي لم يفك أحد شفرته حتي الآن,
برغم إعجاب الجميع بالفيلم إعجابا بالغا.
وبرغم أن
موضوع الفيلم ـ وهو عن التأمين الصحي بأمريكا ـ يوهم بأنه فيلم عن شأن
داخلي أمريكي يعرفه فقط الذين يعيشون هناك, لكن معالجة مايكل مور جعلته
فيلما عن آلام الإنسان وعلاقته بصحته وتعامله مع أمراضه.. بل جعلتنا
نتساءل عن علاقة الوطن بمواطنيه.. وإلي أي مدي يوفر لهم رعاية صحية
واهتماما بإنسانيتهم.
يبدأ
الفيلم بمجموعة من الأمريكيين الذين لا يتمتعون بالتأمين الصحي.. ويرينا
الفيلم مدي ما يتعرضون له من قسوة من المستشفيات والأطباء حتي أن أحدهم فضل
ألا يعيد إصبعه المقطوع لمكانه بعد أن طلبت المستشفي مبلغ32 ألف دولار
لعمل ذلك.. ثم يفاجئنا الفيلم بأن هناك250 مليون أمريكي لديهم تأمين
صحي بالفعل.. وتبدأ فصول المهزلة عندما كشف لنا مايكل مور عن كيف أن
شركات التأمين الصحي بالولايات المتحدة الأمريكية تتسبب في قتل الملايين
بسبب رفضها اعتماد تقاريرهم الطبية.. ويصل مايكل مور لنقطته الساخنة
عندما يقابل متطوعين في أحداث11 سبتمبر رفضت الحكومة الأمريكية علاجهم من
الأمراض التي لحقت بهم أثناء المساعدة في رفع أنقاض برجي مركز
التجارة..ثم يفجر مفاجأته الكبري, فيذهب لفرنسا وانجلترا وكندا لاكتشاف
أن كل تلك البلاد تمنح التأمين الصحي لمواطنيها مجانا ويصل لأعلي درجات
السخرية من الولايات المتحدة عندما يصطحب المرضي الذين قابلهم بالفيلم إلي
معسكر جوانتانامو المحتجز فيه المتهمون بالإرهاب.. بعد أن يعرض لنا أنهم
يحصلون علي رعاية صحية أفضل من كل الأمريكيين, ثم يعرج علي كوبا فيذهب
بالمرضي إلي أكبر مستشفي هناك ليتلقوا جميعا العلاج مجانا.
تلك
الرحلة التي جعلت الإدارة الأمريكية تفتح تحقيقا موسعا مع مايكل مور لأنه
خرق المقاطعة الأمريكية مع كوبا.. وليس هذا السبب الحقيقي للغضب علي مور,
لكن لأنه أعلن بالاسم أعضاء الكونجرس الذين حصلوا علي أموال ضخمة من شركات
التأمين الصحي بأمريكا, بل عملوا فيها بعد مستشارين لهذه الشركات,
وأعلن أيضا ما حصل عليه جورج بوش تحت مسمي تبرعات من هذه الشركات. والغضب
الأكبر من المسئولين بأمريكا جاء للنقد القاسي الذي وجهه مور للنظام
الأمريكي بأكمله.
أما النجم
الهوليوودي ليوناردو دي كابريو, فقد أكمل هو الآخر الصفعة علي وجه أمريكا
بفيلمه التسجيلي الساعة الحادية عشر الذي أنتجه وقام بدور الراوي وشارك في
كتابته مع المخرجتين ليلي ونادية كونورز.. والفيلم يتحدث عن ظاهرة
الاحتباس الحراري التي تتسبب في فقدان التوازن البيئي في العالم واختلال
درجات الحرارة مما يسبب البراكين والأعاصير والزلازل التي زادت أخيرا,
مثل تسونامي وكاترينا.. ويحلل الفيلم بصورة نادرة وشديدة الخصوصية كيف أن
نمط الحياة العصري هو الذي تسبب في ذلك.. فالرغبة في الاستهلاك جعلت
الحاجة للوقود أكبر وحرق غاز ثاني أكسيد الكربون أعلي.. ثم قطع ملايين
الأشجار التي كانت تختزن هذا الغاز.. فلم يجد له مكانا لطبقات الجو
العليا وصنع البطانية الحرارية التي تلحفنا والمسماة الاحتباس الحراري.
يقول دي
كابريو إن مصير الإنسان في الأرض مهدد بالانقراض, وإن الحل هو احترام
الطبيعة أولا ثم نبذ الحياة الاستهلاكية ثانيا, وشدد علي الأخري.. تلك
الأفكار التي تأتي من اسمين من كبار مشاهير الغرب وتنقذ الرأسمالية والنظام
الأمريكي وتضربه في مقتل لتثير الإعجاب بالدور الذي يلعبه فنانون في منتهي
الوعي هدفهم أن يكون الإنسان في وضع أفضل..
وعلي حد
النقيض, نري الفيلم الفرنسي رجل ضائع للمخرجة اللبنانية المقيمة بفرنسا
دانييل عربيد.. وهو فيلم شديد الرداءة, ليس به أي شيء حقيقي.. مجرد
مشاهد مطولة للممارسات الجنسية لرجل فرنسي ينتقل من الأردن للبنان ومعه رجل
عربي شارد دائما لا نعرف لماذا.. وقد أعلنت المخرجة في أحد حواراتها
بالمهرجان أن هدفها كان تقديم الجنس, وأن هذا هدفا في حد ذاته.. وأنها
واثقة أن ذلك لن يستقبل جيدا من العرب.. وأضافت: لا أريد أن أضع نفسي
في موقف المخرجة القادمة من العالم العربي في إشارة إلي أنها ليست تقدم
قضايا وطنها.
وبعيدا عن
الأفكار الكبري.. استمتعنا بفيلمين رائعين أولهما تنفس للمخرج الكوري كيم
مكي دوك الذي ملأ وجداننا بنسائم تأمل بفكرة الموت والحياة وما يستحق
الإنسان أن يعيش من أجله.. من خلال رجل محكوم عليه بالإعدام تزوره في
سجنه خطيبته السابقة وتقوم بتمثيل فصول السنة الأربعة له.. رغم معرفة
زوجها بالأمر, بل وصل لدرجة مطارحته الغرام في السجن إرضاء له.. فيلم
صعب حكيه لأنه مليء بالشعر السينمائي المرتكز علي فكرة التنفس وكيف أن
أنفاسنا التي هي الحياة ذاتها والفيلم الرائع الآخر هو الروماني4 شهور
و3 ساعات ودقيقتان وهو فيلم بسيط عن امرأة تحاول مساعدة صديقتها في إجهاض
نفسها في رومانيا وقت الشيوعية, وكيف أن السيدتين تتحملان تحرش الشخص
الذي يقوم بالإجهاض لهما.. مقابل أن يتخلصا من الجنين.. والفيلم علي
بساطته يثبت أن السينما الحقيقية الغلبة فيها للقدرة علي الترغيب وليس علي
الموضوع في حد ذاته.
أما
مفاجأة المهرجان, فهي في الفيلم الإسرائيلي زيارة الفرقة عن زياة فرقة
موسيقي من شرطة الإسكندرية لإسرائيل وتوهانها في إحدي المناطق هناك وكيف
تستضيف الفرقة بمنزلها سيدة تعشق مصر وتظل طوال الوقت تتغزل في أفلام
السينما المصرية, وكيف أنها تربت عليها.. بل وتذكر بالحنين أغاني فريد
وأم كلثوم.. رغم عدم منطقية الفكرة بأن ترسل مصر فرقة رسمية هكذا
لإسرائيل بدون أي ترتيبات.. قدم المخرج كل ما هو مصري بحق.. فأغلب
شخصيات الفرقة مليئة بالإنسانية.. وهو ما ترك تساؤلا ضخما عن مغزي صنع
الفيلم في هذا التوقيت؟.. وهل هو دعوة للتطبيع وإقناع المتفرجين بأن
الناس العاديين ليس لهم علاقة بالسياسة؟!
الأهرام اليومي
في 23 مايو 2007
|