كتبوا في السينما

سينماتك

... وفي اليوم الثاني لمهرجان «كان» الستين تبدأ الصورة الحقيقية في الظهور...

السياسة من طرق مواربة والإنسان في وحدته جزيرة تبحث عن ذاتها

كان (جنوب فرنسا) – إبراهيم العريس

مهرجان كان الـ 60

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

ليس من السهل، منذ اليوم الثاني للمهرجان أن يعرف المرء الاتجاه العام لأفلامه، وبالتالي – وهذا يمكن قوله خصوصاً عن مهرجانات في مستوى «كان» – الاتجاه العام لنظرة السينما الى العالم. والسبب بسيط فأي فيلم حقيقي وطموح لا يكتمل معناه الحقيقي إلا بالترابط مع ردود الفعل التي يثيرها لدى المتفرجين. وفي «كان» حيث لا يكون قد عرض مع إطلالة اليوم الثاني بعد الافتتاح، سوى أقل من نصف دزينة من الأفلام، يحتاج الأمر تحديداً الى ردود الفعل تلك حتى يصبح لجوهر ما يقوله السينمائيون معناه. ويصح هذا، حتى وإن كانت النشرات والملصقات وحتى بعض المقالات الصحافية النادرة التي يكتبها صحافيون كان من حظهم أن شاهد الواحد منهم فيلماً من هنا أو آخر من هناك. من بين تلك المشاركة في المهرجان والتي – في طبيعة الحال – ستكون من بين أفلام العالم التي ستقول أين السينما ولماذا السينما وكيف تنظر هذه السينما الى عالم اليوم، طوال الشهور المقبلة.

مثل هذه التوليفات الاستنتاجية، لن يكون ممكناً الركون اليها منذ الآن. ومع هذا، ثمة في الأفق، وفي شكل افتراضي على الأقل، بعض المقدمات التي إن لم تقل لنا بتفصيل أو وضوح كامن، أين هي سينما اليوم، فإنها تقول على الأقل الكيفية التي ينظر بها بعض هذه السينما الى عالم اليوم.

الأحداث الكبرى ولكن

من هنا، حتى إذا افترضنا، مثلما جرى الحديث من قبل، ان السياسة في معناها اليومي تكاد تكون غائبة من هذه الدورة الستينية لأعرق مهرجانات السينما في العالم، فإن ثمة حضوراً لما هو شديد الدنو من السياسة: موقع الإنسان من العالم ونظرته إليه، وربما انطلاقاً من علاقته بالمؤسسات والمجتمع والأفكار الكبيرة. فمثلاً إذا كان من الصعب القول إن فيلماً مثل «الكسندرا» للروسي الكسندر سوكوروف هو فيلم يحكي حقاً عن حرب الشيشان أو يحاول أن يدين هذا الطرف أو ذاك من طرفي الحرب، فإن في إمكاننا في المقابل أن نقول إنه فيلم عن الإنسان تجاه هذه الحرب. فبطلة الفيلم الكسندرا (وتقوم بدورها مغنية الأوبرا الروسية غالينا فنشسكايا، أرملة العازف الراحل أخيراً روستروبوفتش)، تتوجه الى الشيشان وهي الروسية بحثاً عن ابنها، ثم تعود وقد وجدت ان المخرج الملائم هو التقارب بين الشعبين، من خلال نسائهما. إذاً، لا حرب في الفيلم ولا سياسة مباشرة إنما موقف انساني يطرح أسئلته الحادة على حماقة البشر.

وفي الفيلم الصيني التسجيلي الطويل «مدونات امرأة من الصين» لوانغ بنغ، لدينا ثمانينية أخرى عاشت حياة نضالية ومتقلبة في الماضي وعانت من الثورة الثقافية، وها هي الآن أمام الكاميرا تحكي لنا مغامرتها، مغامرة الإنسان في قلب أحداث كبرى لم يردها وتخطته ثم عاش من بعد زوالها.

كل من هاتين السيدتين الروسية والصينية تبدو – ومواربة – وكأنها تحاكم الماضي وبعض الحاضر، ولكن من وجهة نظر الإنسان، لا من وجهة نظر السياسة أو حتى من وجهة نظر الأيديولوجيا. لكنهما – معاً – في المحاكمة التي تقومان بها، أمام الكاميرا أو أمام الذات، ليست السياسة أو حتى إدانتها ما يهمها.

وفي هذا السلوك من الواضح ان كلاً من السيدتين لا يمكنها أن تعتمد إلا على نفسها، على وحدتها. فهي – لحسن حظها أو سوئه لا فرق – وحيدة في مجابهة الماضي أو الأحداث. جزيرة في عالم بات يتكون من جزر لا جسور بينها. وحتى حين تكون ثمة جسور تكون هذه موقتة عابرة. من هنا مثلاً، إذا كانت بطلة «ليالي بلوبيري» (نورا جونز) لوونغ كارواي، تحاول أن تجد مبرراً لحياتها بعد قطيعة عاطفية، من خلال ترحال تقوم به بين ولايات عدة ومدن أميركية وإذا كانت تلتقي بين مكان وآخر، بآخرين يخففون من وحدتها، فإن هذه اللقاءات ليست أكثر من عابرة، لأن الأساس في وجودها هنا هو وحدتها.

أليس ما نقوله عن بطلة فيلم الافتتاح، هو ما سيمكننا أن نقوله نفسه عن المغني بطل فيلم «عدني بهذا» لأمير كوستوريتسا، الباحث وحيداً عن ذاته؟

وإذا كان العجوز والمرأة الحزينة في فيلم نعومي كاوازي «غابة موغاري»، يتجولان في الغابة معاً، هو بحثاً عن إمكانية الحداد أخيراً وبعد 33 عاماً، على زوجته التي فقدها، وهي بحثاً عن ابنها الذي رحل بدوره... إذا كان هذان الشخصان يدخلان الغابة، أي عمق الطبيعة معاً، هل تلغي هذه الرفقة وحدة كل منهما؟ لا ريب في أن الجواب هو لا... حتى وإن كان تغيير ما، كما وُعدنا، سيطرأ على كل منهما بين أول الفيلم وآخره.

وحدة قاسية أيضاً يعدنا بها غاس فان سانت في فيلمه الجديد المشارك في المسابقة «بارانويد بارك». هي وحدة فتاه المراهق لاعب الروليت، الذي يجد نفسه أمام ذاته واسئلته الحائرة حين يتبين له أنه قتل حارس البارك، على سبيل الخطأ، ويمكنه الآن أن يعترف أمام الشرطة أو لا يعترف. القرار له... لكن المسألة ليست في مثل هذه السهولة. وهو عار تماماً أمام النتيجة التي عليه أن يقررها. انه انسان العصر الحديث – بل الإنسان دائماً – الذي لم يعد في وسعه الاتكال على أحد لاتخاذ قراره.

انه، في شكل من الأشكال، الإنسان عند نقطة انعطافية من حياته. وهو في هذا يكاد يكون صورة لمعظم الشخصيات الأخرى. صورة تكرر وفي مجال مختلف، إنما انطلاقاً من الجوهر نفسه، ما كان فان سانت نفسه قد وسم به بطل فيلمه السابق «الأيام الأخيرة» – انطلاقاً من شخصية كورت كوبان مغني النرفانا الذي انتحر شاباً -.

هواجس البشر

وهذه السمة الانعطافية في الزمن الإنساني حتى وإن كان ما يبررها هو أن الكاميرا – سواء كانت روائية أو تسجيلية – موجودة لتسجيلها، تبدو لنا تاريخية أيضاً. فاليوم واضح ان غياب الأيديولوجيا والسياسات الكبرى، يضع الإنسان أمام مصيره من جديد وفي شكل لم يسبق له أن وجد نفسه فيه. وفي مثل هذه الوضعية واضح أن السينما – كدأبها الدائم – تلعب دورها التاريخي كمعبّر عن هواجس الناس وقلقهم وأسئلتهم. ومن الطبيعي ان الانسانية، إذ تدخل الآن عصوراً جديدة حائرة بين المذابح والإرهاب واختناق البيئة وتفكك الروابط العائلية والموت المجاني وما إلى ذلك – وكلها مواضيع لا شك في أنها تسيطر على القسم الأعظم من الأفلام المعروضة في «كان» هذا العام -، هذه الإنسانية تجد صورتها في السينما المعاصرة، سينما الحداثة أو حتى سينما ما بعد الحداثة، إذا شئتم. وبالتحديد السينما التي تطرح ضروب القلق - وفي أحيان كثيرة بكثير من الأمل حتى من دون أن يكون هذا الأمل مفتعلاً أو أيديولوجياً. واللافت ان السينمائيين الذين يقولون هذا كله من دون أن يلتفوا في قولهم على السياسة في شكل مباشر، يتفادون في الوقت ذاته قوله من خلال سينما السيرة المباشرة، أو من خلال لغة السيرة الذاتية حتى.

وإذا كان في إمكاننا أن نلاحظ مع أفلام مثل «مدونات امرأة صينية» المذكور أعلاه، أو مثل «محامي الرعب» (عن أفكار وحياة المحامي الفرنسي جاك فرجيس، للمخرج باريت شرودر) ان ثمة دنواً مباشراً من السيرة... يوازيه حتى دنو أكثر أهمية ووضوحاً في فيلم الرسوم المتحركة «برسيوليس» للإيرانية مرجان ساقرابي (المتحدث عن طفولتها البائسة أيام ثورة الخميني واضطرار أهلها الى «تهريبها» الى النمسا كي تعيش حياة عادية)، علينا أن نلاحظ في الوقت نفسه أن هذه الأفلام الثلاثة تخرج عن المألوف، إذ ان اثنين منها وثائقيان، أما الثالث فرسوم مأخوذة عن كتاب شرائط مصورة. ما يعني بالنسبة إلينا أن ما ترك للأفلام الروائية – وهي الطاغية طبعاً – إنما قول الأشياء الخطرة ولكن ليس بالضبط عبر مرشح الذات. ليس لدى المخرجين وكتابهم، هذه المرة، ذلك النمط من التدخل المباشر في الفيلم. وكأن مبدعي السينما عادوا الى السرد البسيط، الى حكايات الآخرين يطلون من خلالها على العالم، وحتى من دون أن يقفوا، في النهاية، ليصدروا حكماً، سواء كان هذا الحكم سياسياً أو أخلاقياً. ولعل واحداً من أسباب هذا الانزياح، انزياح آخر، سبق أن أشرنا إليه باختصار في رسالة سابقة. فإذا كان معظم أفلام هذه الدورة من «كان» حقق تحت مظلة الترحال (وحسبنا هنا أن نذكر بعض النماذج، من «ليالي بلوبيري» الى «غابة موغاري»، الى «عدني بهذا» وحتى الى «ما من مكان للرجل العجوز» للأخوين كون، حيث مطاردة قاتلة تشغل معظم وقت الفيلم، توازيها مطاردة أخرى أكثر قسوة هي تلك التي تهيمن على فيلم «زودياك» لدايفيد فنشر من دون أن تفضي الى أية نتيجة، مروراً بالرحلة التي تقوم بها بطلة «الكسندرا» وحتى الرحلة الداخلية التي تقوم بها صبية فيلم «سمايلي فايس» لغريغ آراكي)، فإن ما يتعين رصده أيضاً هو أن مخرجين كثراً يبدون في هذه الدورة منزاحين عن حيزهم الجغرافي المعتاد. فالصيني وونغ كارواي يبارح هونغ كونغ أفلامه القديمة ليصور في رحابة القارة الأميركية. والفرنسي رافائيل نجاري، بعدما حقق أفلاماً في الولايات المتحدة، يقدم الآن فيلماً صوره في القدس – من دون أن يكون موضوعه «سياسياً»! -، والهنغاري بيلا تار يقدم في «رجل من لندن» موضوعاً للبلجيكي الراحل جورج سيمنون، لا علاقة له بهنغاريا. وفي مجال الانزياح، إنما غير الجغرافي هنا يمكننا أن نتحدث عن الطابع الكوميدي غير المعتاد الذي يسم فيلمي كوينتن تارانتينو («برهان الموت») وآبيل فيرارا («غوغو تاليس»). والحقيقة ان معنى هذا الانزياح المختلف لن يتضح إلا لمن يعرفون مقدار العنف الذي كان يطبع أفلام مخرجين يجربان حظهما ولو لمرة في عالم ليس لهما.

أجوبة غائبة

وفي المقابل. إذا كان زميلهما ومواطنهما دايفيد فنشر يعود في «زودياك» الى عالم المقاتلين بالجملة الذي صنع له مجده خصوصاً في «سبعة»، فإن علينا أن نلاحظ هنا أيضاً أن «زودياك» فيلم مأخوذ عن الواقع الذي حدث فعلاً. وانه ينتهي من دون حل أو إجابة شافية، ما يظهر لنا انزياحاً حتى لدى فنشر الذي يتسابق في «كان» للمرة الأولى، ويقال ان حظوظ فوزه بـ «شيء ما» كبيرة، وفي مثل هذا السياق أيضاً قد يكون من المفيد أن نتحدث عن انزياح آخر، ربما سيكون من شأنه أن يخيب أمل كثر من الذين يحلمون منذ أعلن عن مشاركة الفرنسية كاترين بريّا في المسابقة الرسمية لـ «كان» بأن يشاهدوا، أخيراً في المهرجان العريق، جنساً فاضحاً. ولكن لا... هذه المرة يبدو أن صاحبة «رومانس» الفضائحي قد عقلت، على غرار كثر من المخرجين الذين يظهرون هذه المرة بوجوه جديدة. ذلك ان فيلمها المشارك «العشيقة العتيقة»، ليس فيلماً إباحياً... بل هو فيلم عاطفي على طريقة حكايات الحب في القرن التاسع عشر!

مهما يكن، واضح ان كل ما لدينا الآن، حين تصل هذه السطور الى القارئ، مجرد إشارات، لأن معظم الأفلام لا يزال في طي الغيب، ونحن في ثاني أيام المهرجان. لكنها إشارات ترهص بتوضيح الصورة، بعدما كانت هذه الصورة خلال الأسابيع الماضية شديدة الغموض، وهو أمر معهود... تدور في إطاره لعبة التعرف في «كان»، كما في غيره من المهرجانات: تبدأ الأسئلة بمن وماذا سيشارك... ثم ترد الأسماء تباعاً، مغلفة بغموض لذيذ. ثم شيئاً فشيئاً يزول الضباب حول الأشكال أولاً... ثم حول المواضيع. وفي هذا المجال يحق دائماً للمهتمين أن يتوقعوا ما لا يكون في الإمكان توقعه في البداية. وهذا كله يوصل في أحيان كثيرة الى صورة عامة للمهرجان... وكذلك للسينما، تختلف كثيراً عن الصورة الأولية.

ولا شك في أن القارئ يدرك الآن... إننا وإياه، في منطقة وسط بين الغموض التام والانجلاء الكلي وفي يقيننا ان هذه المنطقة هي الأكثر امتاعاً... أليس كذلك؟

الحياة اللندنية في 18 مايو 2007

 

سينماتك