ستيفن
فريرز، المخرج الإنكليزي الذي أوصل السينما السياسية إلى أرفع مستوياتها
العام الماضي مع فيلمه «الملكة»، هو خلال الأسابيع المقبلة، نجم السينما
الجادة في العالم، وتحديداً من خلال رئاسته لجنة تحكيم المسابقة الرسمية في
دورة هذا العام الستينية من مهرجان «كان». منذ الآن بدأت الصحافة الفرنسية
تفرد له صفحاتها وأعمدتها حتى وان كان الأمر لم يثر اهتمام الصحافة
الإنكليزية المتخصصة التي فضلت، بدلاً من التركيز على فريرز، ان تشكو من
الغياب شبه الكلي للسينما الإنكليزية عن المهرجان. وفريرز يبدو مرتاحاً
لهذا التكريم والاهتمام الفرنسيين، اذ انهما يتوجان عودته الصاخبة الى
السينما الانكليزية في العام الماضي بـ «الملكة» الذي روى، بأسلوب حاذق
وبفضل سيناريو مميز كتبه بيتر مورغان، حكاية الأسبوع الذي تلى مقتل الأميرة
ديانا، من داخل كواليس السلطة العليا، أي من خلال اللقاء والمجابهة بين
الملكة اليزابيث الثانية ورئيس حكومتها طوني بلير الذي كان وصل إلى السلطة
حديثاً. وبالتحديد عبر «صفقة سرية» عقدها مع منافسه في حزب العمال غوردن
براون.
وكأن هذا
كله لا يكفي فرنسا لإشباع فريرز تكريماً، إذ عرضت قناة «آرتي» الفرنسية –
الألمانية، مساء أمس الثلثاء، فيلماً تلفزيونياً – هذه المرة – من إخراج
ستيفن فريرز، عنوانه «الصفقة». وهذا الفيلم، وإن كان تلفزيونياً، فيما
«الملكة» سينمائي، يعتبر مستكملاً لهذا الأخير، من الناحية السياسية، حتى
وان كانت أحداثه، تاريخياً، تسبق أحداث «الملكة».
والقاسم
الأساس المشترك بين العملين هو طوني بلير، ذلك أن «الصفقة» التي جعلها
ستيفن فريرز، وكاتبه مورغان، موضوعاً للفيلم التلفزيوني وعنواناً له، هي
بالتحديد تلك التي عقدت بين بلير وبراون في أيار (مايو) 1994، على أثر موت
جون سميث زعيم حزب العمال البريطاني. يومها كان نجم السياسي الشاب غوردن
براون ساطعاً، وبالكاد كان أحد يتوقع ان تؤول زعامة الحـزب إلى طوني بلير.
لكن هذا الأخيـر عرف كيف يلعب لعبتـه إذ قرر ان يكون هو، لا غوردن، الخليفة
الطبيعي لسميث. فما الذي فعله؟ بكل بساطة دعا غوردن براون إلى العشاء في
مطعم «غرانيتا» اللندني الشهير.
طبعاً لم
يعرف أحد تفاصيل الحديث الذي دار بين بلير وبراون خلال ذلك العشاء. لكن كل
المعنيين، وغير المعنيين، يعرفون أن النتيجة كانت إقناع بلير براون بأن
يتخلى له عن زعامة الحزب، وبالتالي عن رئاسة الحكومة العتيدة في حال فوز
حزب العمال في الانتخابات المقبلة. وفي مقابل ذلك يعيّن طوني بلير، خصمه
الذي صار حليفه منذ ذلك الحين، ولكن ليس لفترة طويلة مقبلة من الزمن كما
قالت لنا الأحداث السياسية التالية، وزيراً للمال.
كانت تلك
هي الصفقة إذاً، الصفقة التي أعادت ستيفن فريرز، في سنة 2003، إلى السياسة
البريطانية، بل حتى إلى التلفزة البريطانية. إذ نعرف أن فريرز حقق هذا
الفيلم المتلفز في ذلك الحين، ليعرض في العام نفسه ويثير ضجة كبيرة في بلاد
الإنكليز، بالنظر إلى أن الفيلم لم يقدم، فقط الحدث السياسي كما هو معروف
تاريخياً، بل افترض انه يعرف تفاصيل الحوار الذي دار على مائدة العشاء
الفاخر بين الرجلين، ثم راح خلال الساعة وربع الساعة اللذين يستغرقهما
عرضه، محاولاً سبر أغوار ردود فعل كل من الرجلين... فالحال أنه إضافة إلى
الطابع السياسي الخالص للفيلم، حرص ستيفن فريرز، وساعده في ذلك السيناريو
الرائع الذي كتبه بيتر مورغان، على ان يسير على نهجه المعهود في تعامله مع
شخصيات أعماله: عبر التركيز على الطابع الإنساني والدرامي للشخصية وردود
فعلها على الحدث في بعد جواني ندر أن كان من نصيب شخصيات سياسية حين تصور –
روائياً – على الشاشة، كبيرة كانت أم صغيرة.
من هنا
أتى غريباً فيلم «الصفقة» الذي قام فيه دافيد موريسي بدور غوردن براون
ومايكل شين بدور طوني بلير (وليس ترتيب الاسمين بهذا الشكل صدفة هنا، إذ إن
الفيلم اهتم بشخصية براون أكثر من اهتمامه بشخصية بلير، ودائماً انطلاقاً
من توق فريرز الدائم لتصوير الخاسرين أكثر من تصوير الرابحين). إذاً في
الفيلم الذي حققه قبل «الملكة» بسنوات، قدم فريرز، لجمهور التلفزة فيلماً
أساسياً وعميقاً، لعل أهمية العودة إلى عرضه الآن، في فرنسا وغيرها، تنبع
من واقع يستكمل الحكاية، لكنه لم يكن قائماً حين تصوير الفيلم: واقع ان
براون الذي كف ذات يوم عن ان يكون حليف بلير، هو الذي يستعد الآن لإبعاده
من الساحة السياسية ومن زعامة حزب العمال... فهل يكون هذا «الثأر» موضوعاً
لعمل جديد لستيفن فريرز، يستكمل به ثلاثية فنية نادرة، وتؤشر لتوجهات جديدة
في علاقة الفن بالسياسة؟
ربما يجيب
ستيفن بلير على هذا السؤال خلال مهرجان «كان» المقبل حين يُسأل عن جديده.
وفي انتظار ذلك هل يكون كثيراً ان نتمنى لو يعرض هذا الشريط على محطات
عربية، لعل المتفرجين يشاهدون كيف ترسم السياسات وكيف تتم الصفقات، وكيف
يمكن للفن أن يساهم في فضح هذا كله؟
الحياة اللندنية
في 25 أبريل 2007
رئيس
لجنة التحكيم ستيفن فريرز:
وريث واقعية السينما الحرة هل أنهى تأرجحه
بين أوروبا وهوليوود؟
هل
يمكن اعتبار مشاركة ستيفن فريرز في هذه الدورة لمهرجان «كان»، شاغلاً
أعلى «سلطة» فيها، أي رئاسة لجنة التحكيم للمسابقة الرسمية، ثأراً
شخصياً له من مهرجان لم يكرمه في الماضي أو يكرم تاريخه الفني إلا
قليلاً وعبر عرض قلة من أفلامه السابقة في تظاهرات موازية؟ أم يمكن
اعتبارها، تعويضاً لبريطانيا العظمى عن غيابها شبه الكلي عن أهم
التظاهرات الأساسية في الدورة الستينية؟
سواء
كان الجواب هذا أو ذاك، من المؤكد ان حلول فريرز في مكانة شغلها من
قبله وونغ كارواي وإمير كوستوريتسا وكوينتن تارانتينو ودافيد كروننبرغ،
ويتطلع الى شغلها عدد من كبار السينمائيين في العالم، يأتي تتويجاً
لهذا المخرج وعمله بعد عام وصل فيه مجده السينمائي الى ذروته مع فيلمه
«الملكة» الذي اختير دائماً بين أفضل عشرة أفلام عرضت خلال العام
الفائت، كما يصل فيه مجده التلفزيوني الى مستوى رفيع مع إعادة عرض
شريطه «الصفقة» على التلفزة الفرنسية. وهو – كما حال «الملكة» – عمل
فني سياسي نال صخباً وإعجاباً كبيرين منذ عروضه الأولى في بريطانيا.
لكن
رئاسة فريرز لجنة التحكيم في ستينية «كان»، تتوج أيضاً مساراً
سينمائياً يقترب عمره الآن من أربعين سنة، تلى مساراً تلفزيونياً
ومسرحياً وضع فريرز دائماً في موقع متقدم على خريطة الإبداع الفني في
بريطانيا، بل قاده لاحقاً الى حقبة هوليوودية أكدت مكانته في عالم
السينما بمواضيع مبتكرة، ولغة فنية مجددة دائماً.
ولكن
أكثر من هذا وذاك، في تعبير عن قدرة هائلة على رسم الشخصيات وتعميق
العلاقات فيما بينها. من هنا لم يكن غريباً أن يتحدث النقاد، لمناسبة
عرض «الملكة» وكذلك لمناسبة عرض وإعادة عرض «الصفقة»، عن عملين
إنسانيين، بقدر ما هما سياسيان. حيث يعرف عن فريرز دائماً اشتغاله
انطلاقاً من سيناريوات تضع الاهتمام بجوانية الشخصية – حتى ولو كانت
شخصية عامة مثل الملكة اليزابيث الثانية أو توني بلير -، في مكانة
متقدمة من الاهتمام في الشأن العام.
بهذا
يهتم فريرز بالإنسان، حتى خلف السياسي، في المقام الأول. ولا يبدو لنا
هذا الأمر غريباً، على مخرج، بدأ نشاطه الحقيقي مساعداً للندسي اندرسون
وكارل رايس (والاثنان من أساطين التجديد السينمائي الإنكليزي الهائل
الذي حمل في ستينات القرن العشرين اسم «السينما الحرة») في أفلام مثل «مورغان».
قبل
ذلك كان ستيفن فريرز قد درس الحقوق في ترينتي كولدج، ثم استكمل دراساته
القانونية في جامعة كامبردج. لكنه حين قرر الانخراط في الحياة العملية
نحى الحقوق جانباً، ليعمل في التلفزة، مساعداً في كل الفروع الإنتاجية
والفنية تقريباً، ما وفر له أرضية مهنية صلبة، عززها عمله لاحقاً مع «رويال
كورت تياتر» في لندن. وهناك تعرف الى لندسي اندرسون الذي كانت له اليد
الطولى، مع ألبرت فيني، الممثل الكبير، في نقله الى السينما. والحقيقة
ان النقلة الثانية والكبرى كانت من طريق ألبرت فيني، الذي بعدما ارتبط
معه فريرز بصداقة خلال عملهما في فيلم «إذا...» لأندرسون، أعطاه أول
فرصة ليصبح مخرجاً سينمائياً، وكان ذلك في فيلم «الحريق» القصير الذي
صور العام 1967 في المغرب (وهو أمر ذكره فريرز بكثير من الحنين خلال
مشاركته سنة 2005 في مهرجان مراكش بفيلمه المميز «السيدة هندرسون
تقدم»).
ومن
بعد ذلك وفر له فيني فرصة ثانية فحقق روائيه الطويل الأول «غامشو».
صحيح أن هذا الفيلم الأول الذي حقق في سنة 1971، لم يطلق اسم فريرز
عالياً، بل ارتبط باسم البرت فيني الذي كان يعيش ذروة نجوميته آنذاك،
لكنه، أي الفيلم، كان الخطوة الأساس التي خطاها ستيفن فريرز، كي يتحول
كلياً – هذه المرة – الى الإخراج، حتى وإن كان لم يحقق طوال المرحلة
التالية، وريثما تكون انطلاقته الكبرى في تحفته «مغسلتي الجميلة»
(1985)، سوى ثلاثة أفلام منها واحد للتلفزة، وهي «صبية ملاعين» (1979)،
«والتر وجون» (للتلفزة 1983) و «ذي هيت» (1984). أما «مغسلتي الجميلة»
عن سيناريو للكاتب المعروف حنيف قريشي، والذي حقق أصلاً للتلفزة بدعم
من «تشانل فور» – التي كانت في ذلك الحين قد جعلت من نفسها المساند
الأكبر للسينما الانكليزية الجديدة -، فإنه كان مقفزه الحقيقي الى
العالمية، أولاً من خلال موضوعه المناهض للعنصرية الجديدة، وبعد ذلك من
خلال نبض لغته السينمائية التي ورثت كل إنجازات «السينما الحرة» مع
تحديث سيصبح هو القاعدة منذ ذلك الحين.
ومنذ
«مغسلتي الجميلة» لم يعد على ستيفن فريرز أن يعرّف بنفسه. ذلك أن هذا
الفيلم حقق من النجاح الجماهيري، والنقدي ما أعاد الاعتبار، ليس الى
مسار ستيفن فريرز الذي كان قد صار عمره الفني عقدين على الأقل في ذلك
الحين، بل كذلك الى السينما الإنكليزية ككل. إذ من رحم ذلك النجاح،
ستطلع أسماء كبيرة في سينما بريطانية سرعان ما اعتبرت من الأكثر
دينامية في أوروبا، أسماء مثل مايكل لي... وكذلك مثل المخضرم كين لوتش،
الذي سبق فريرز بسنوات، ثم عملا معاً لفترة، ثم استفاد من انطلاقة
زميله الأصغر.
بعد
«مغسلتي الجميلة» راحت أفلام ستيفن فريرز تتتابع وقد كرس نفسه نهائياً
للشرائط السينمائية، غير عائد للأطلال على التلفزة حتى العام 2003، حين
حقق «الصفقة». ولكن إذا كان فريرز كرس نفسه للسينما على حساب التلفزة،
فإن وفاءه للفن السابع، لم يواكبه وفاء لبلده إنكلترا، إذ نراه، بعدما
خاض تجربتين أخريين ناجحتين، إحداهما (فيلم «سامي وروزي») عن سيناريو
آخر لحنيف قريشي، والثاني في فيلم «بريك آب يور ايرز» (1987) عن نص هو
سيرة ذاتية لجو أورتون، نراه يتوجه الى هوليوود، حيث كانت بدايته
الأميركية مع فيلم «العلاقات الخطرة»، عن الرواية الفرنسية اللاأخلاقية
الشهيرة. وكان ذا دلالة أن يحقق هذا الفيلم نجاحاً تجارياً كبيراً، لم
يقل عنه النجاح النقدي الذي حققه فيلمه التالي «ذي غريفتر» (1990)،
الذي سمي لجائزة «أفضل مخرج» في الأوسكار، كما سيكون حال «الملكة» بعد
ذلك بستة عشر عاماً، علماً بأن فريرز لم يفز بالأوسكار في الحالين، وإن
كان سيفوز بجوائز عدة أخرى منها «بافتا» أفضل دراما، وأفضل فيلم أجنبي
في «سيزار» 1990، الفرنسي (عن «العلاقات الخطرة»)، ثم لاحقاً جائزة
«غويا» الإسبانية لأحسن فيلم أوروبي عن «الملكة» في العام 2006.
ومنذ
بداية تسعينات القرن العشرين، عاد فريرز الى بريطانيا، من دون أن يبارح
أميركا تماماً، إذ صار منذ ذلك الحين يوزع وقته بين البلدين محققاً
أفلاماً بدت شديدة الجماهيرية في الأميركي منها («بطل» – 1992 – أو
«ماري ريلي» – 1996)، وشديدة الارتباط بالسينما التي تجتذب إعجاب
النقاد والنخبة في ما كان أكثر إنكليزية (مثل «ذي سنابر» – 1993 -
و «العربة» – 1996 -، وحتى «أشياء حلوة قذرة» من بطولة أودري توتو، سنة
2002)، ثم خصوصاً «مسز هندرسون تقدم» و «الملكة»...
اليوم
صار مسار ستيفن فريرز السينمائي - والتلفزيوني كذلك – مساراً طويلاً
وحافلاً بالعلامات اللافتة. ومن هنا لم يكن غريباً أن تعطيه بريطانيا
«كرسي دافيد لين للإخراج الروائي» – في المدرسة الوطنية للسينما
والتلفزيون في بيكونسفيلد، حيث يدرّس بين الحين والآخر، ما بات يجبره
على أن يمضي، منذ سنوات، معظم أوقاته في بريطانيا وليس في أميركا...
الحياة اللندنية
في 27 أبريل 2007
|