صفحات ذات صلة

كتبوا في السينما

 

حتى سنوات الستينات، بقيت الشركات الخاصة تنتج الأفلام السينمائية المصرية، ولم تنشأ أي شركة جديدة أو أي مبنى سينمائي جديد. ورغم تخرج أول دفعة من معهد السينما عام 1964، لم يتح القطاع العام ولا فرصة واحدة لأحد من خريجي المعهد. مع ظهور التلفزيون، بدأت السينما المصرية تتعرف على بعض المصطلحات مثل "الفيلم الجاد أو الهادف"، وكان القطاع العام يشتري الروايات الأدبية أو يوافق على بعض السيناريوهات ويكلف بعض المخرجين بتنفيذها.

بعد هزيمة يونيو عام 1967، توالت دفعات التخرج من معهد السينما، لكن الجميع كان يسارع للالتحاق بالجيش أو للعمل كموظف في التلفزيون وشركات القطاع العام. في عام 1968 أخرج كل من ممدوح شكري وناجي رياض ومدكور ثابت أول أفلامهم القصيرة من إنتاج القطاع العام. وفي أعقاب مظاهرات فبراير 1968، تجمع بعض الشباب السينمائيين والنقاد وأسسوا جماعة السينما الجديدة التي فتحت طريقاً جديداً للسينما في مصر وكل العالم العربي. استطاعت هذه الجماعة إصدار أول مجلة ثقافية عن السينما في تاريخ مصر، وإنشاء أول ناد يعرض الروائع السينمائية العالمية، وإنتاج أول فيلم تمثيلي طويل من إخراج أحد خريجي معهد السينما، وكان "الحاجز" لمحمد راضي عام 1972.

لم يكن من باب الصدفة بعد نكسة 1967 وثورة الطلبة وموت جمال عبد الناصر ورئاسة أنور السادات وصولاً إلى حرب أكتوبر عام 1973، أن تظهر مجموعة من الشباب داخل السينما المصرية، المتطلعين إلى مزيد من الالتصاق بقضايا أمتهم برؤية حديثة وبدرجة عالية من الوعي وخوض التجربة. جاءوا استجابة لاحتياجات المرحلة، حيث انبثق داخل نفوسهم إرادة قوية للأسئلة وإصلاح ما كان، والبحث عن أسباب معالجتها من خلال سينما ناضجة تميزت بمفهومها الخاص. هكذا ولدت هذه الجماعة التي وصفت بالعصر الذهبي الثالث في تاريخ السينما المصرية بعد عصر استديو مصر وعصر حرب السويس، وبدأت الترويج لسينما ملتزمة وواقعية ومختلفة تهتم بالمواطن البسيط وأحلامه المجهضة، وتعبّر عن الجوهر الحقيقي لشريحة عريضة من المصريين سميت مجازاً بالمهمشين، واستطاعوا تقديم سينما لم يتقبلها المشاهد في البداية الذي اعتاد على نوعية من الأفلام سيطرت على الشاشة بأفلام الجنس والمخدرات والكوميديا الهابطة. استطاعت جماعة السينما الجديدة ومخرجوها تقديم أفلام أقبل عليها الجمهور بسرعة، بعد أن سلطت الضوء على موضع الخلل في المجتمع. خرجت الكاميرا إلى الشارع، واهتمت بالشخصيات الهامشية، ولم تتقيد بالأفكار الكلاسيكية في التعبير باللغة السينمائية، حتى استطاع هذا الجيل التعبير عن عصره كما لم يعبّر جيل آخر من قبل، واستطاع أيضاً أن يعيد السينما المصرية إلى الساحة الدولية مرة أخرى.

عندما كان تلميذاً في مدرسة الزقازيق الثانوية الصناعية، سمع الطالب أحمد زكي أن الرئيس جمال عبد الناصر سيزور المدينة. وقف يومها تحت أشعة الشمس الحارقة من الساعة الثامنة صباحاً حتى الثالثة بعد الظهر حاملاً العلم المصري، ثم تسلق عمودا كهربائيا مرتفعا كي يستطيع رؤيته عندما يمرّ في الشارع، وعندما رآه رمى نفسه من فوق العمود ولمس يده، لدرجة أن القطار الذي كان يقل عبد الناصر كاد أن يدهسه، وأصيب بعدها بضربة شمس ألزمته الفراش لأيام.

عندما بدأت النكسة، كان عمر أحمد زكي 18 عاماً. تألم.. أحس بالرعب. وعندما توفي عبد الناصر، مشى في شوارع المدينة حتى الصباح يبكي بحرقة وبصوت عال. مشى في الجنازة، وكان سينتحر وراءه. كان يحترم أيضاً الرئيس أنور السادات في كل ما قام به، لغاية توقيعه اتفاقية كامب ديفيد وزيارته القدس، وحملة الاعتقالات التي سميت بـ"اعتقالات سبتمبر".

كانت السينما الجديدة بحاجة إلى ممثلين من نوع جديد، لأن شخصياتها كانت مختلفة تماماً وطالعة من صفوف الناس مباشرة. بحثوا عن ممثل يملك المصداقية ويأتي من واقع الحياة السياسية والاجتماعية كي يكون قريباً من المشاهد، فكان أحمد زكي البطل الأنسب للتمرد على البطل القديم، وفرصة لإنجاز أفكارهم، ونموذجاً للشاب المصري العادي القادر على تغيير كل القواعد الثابتة. كسر مفاهيم الصورة الكلاسيكية للنجم السينمائي، وانجذبت الناس له أولاً بسبب شكله العادي والمألوف الذي يشبه الكثير من البشر. قبلها، كان هذا الفتى النحيل الأسمر، بشعره المجعد وسمته الريفية، يكافح للحصول على دور صغير في فيلم أو مسلسل، وهو وفق مقاييس نجومية السبعينات أبعد ما يكون عن الأدوار الهامة. شخصيته الفنية كانت قادرة فقط على إقناع مجموعة الشباب المجنون بالسينما الواقعية، وعدد قليل آخر من المخرجين.

وقف أحمد زكي أمام كاميرا السينما لأول مرة في حياته سنة 1974 حين اختاره المخرج محمد راضي ليمثل أحد الأدوار الرئيسية في فيلم "أبناء الصمت"، وكانت بدايته مشجعة مما جعل راضي يختاره أيضاً لفيلم آخر بعنوان "صانع النجوم"، إلى أن لمع اسمه كنجم سينمائي من خلال دوره في فيلم "وراء الشمس" الذي أخرجه محمد راضي أيضاً. بعدها صار الممثل المفضل لكل مخرجي تيار الواقعية من محمد خان، خيري بشارة، الراحل عاطف الطيب، رأفت الميهي، شريف عرفة وغيرهم.. باختصار، تعامل مع الأفضل من المخرجين في السينما المصرية.

كان أحمد زكي الاتجاه الذي قلب السينما المصرية خلال عقد الثمانينات، وبطل هذه الواقعية الجدية بلا منازع. تقمص شخصياته الدرامية ببراعة شديدة، وصار يقوم بعملية تجديد ثقافية وفنية، ويقدم في كل مرة وجهاً مصرياً أكثر صدقاً، كما كان ينتقل من دور إلى آخر بطواعية وإقناع في كل الحالات التي جسدها. ورغم كثرة أدواره لم يكرر نفسه إطلاقاً، بعيداً عن النمطية التي أصابت الآخرين، وحرص دوماً على تقديم أفلام للتاريخ وأخرى للنجومية وإسعاد الجمهور.

تمت معارك مفتعلة حول هذه الأفلام في سنوات الثمانينات من بعض النقاد وحتى مخرجين آخرين، على رأسهم الراحل حسام الدين مصطفى الذي ظل حتى آخر يوم في حياته يهاجمها بضراوة، واصفاً أفلام محمد خان على سبيل المثال بسينما الصراصير والبلاعات، وأكد قبيل وفاته في برنامج تلفزيوني خصص لتقييم أفلام الواقعية الجديدة أن مخرجي هذه النوعية من الأفلام خربت صناعة السينما وطفشت الجمهور وشوهت الواقع.

في أوائل التسعينات، بدأت عملية هجوم منظم لعملية طرد لهذه الأسماء من ساحة السينما المصرية وإشعارهم بالإحباط. حصر القائمون على صناعة السينما اهتماماتهم بالأفلام الكوميدية الموجهة لعمر الشباب أصحاب القطاع الأعرض جماهيرياً. وبدأت محاولات مستمرة لغاية اليوم لطرد رموز السينما الجادة ودفعهم إلى الاعتزال، وعرقلة عملهم كصعوبات الإنتاج أو عرض الأفلام دون إعلان وترويج كاف. ينسحب الأمر نفسه على السينما العربية، حيث الحكومات العربية ليست مهتمة بالسينما، ما لم تكن ضدها. صارت صالات العرض تفرد عدداً قليلاً للأفلام الكوميدية الحديثة، فيما تسيطر السينما الأميركية على مدار العام، وأصبح هذا النهج من التعامل يقلل عمل هؤلاء المخرجين، مقابل النمط الواحد من الإنتاج الذي يحقق إيرادات مضمونة وسريعة. حتى أن مواصفات البطل تغيّرت، ولم يعد المنتجون يقبلون النجوم الحقيقيين.

توقف رأفت الميهي عن العمل لأن هذه الأفلام تتطلب تكلفة إنتاجية عالية، إلى جانب أن جيله من المخرجين لم يعد مطلوباً، وهو تحديداً مرفوض من المنتجين لأنه لا يستطيع أن يساير الموجة ويقدم ما تطلبه السوق السينمائية. الميهي ليس ضد هذه النوعية كما يقول، ولكن لا يجب أن تكون الوحيدة الموجودة على الساحة، فتحجب أشكالاً أخرى من التعبير. بينما يؤكد محمد خان أن سينما اليوم جعلت مخرجين من أعلى مستوى فني يجلسون في منازلهم ويتوارون في الظل لأنهم شعروا أن الساحة لم تعد تتسع لفنهم، وأن المنتجين يرفضون التعامل معهم لأنهم يريدون الأفلام الفارغة التي يتم تزيينها ببعض المقولات السياسية التافهة.. "لا يتعلمون من السينما الأميركية التي تنتج الفيلم الذي يحقق خمسة ملايين، والفيلم الذي يحقق 100 مليون دولار، وبذلك يحدث التنوع المطلوب في الأفلام".

توفي عاطف الطيب قبل عشر سنوات بعد أن قدم 21 فيلماً مهماً في تاريخ السينما المصرية. رحل رضوان الكاشف بعد أزمة قلبية وإخراجه لثلاثة أفلام فقط. يواجه داود عبد السيد في كل فيلم يقدمه حتى اليوم مشكلات عديدة مع الرقابة. "باب الشمس" الفيلم الأخير للمخرج يسري نصر الله عرض قبل أشهر على ثلاث شاشات فقط، اثنتان في القاهرة وواحدة في الإسكندرية، مقارنة بمتوسط 30 شاشة للأفلام الأخرى. بينما مر خيري بشارة في تجربته السينمائية بمرحلتين مختلفتين، مرحلة الواقعية الجدية وهي الأهم، ومرحلة حديثة أخرى تميز فيها بتقديم عالم آخر من أفلام السهل الممتنع آخرها عام 1996، قبل أن يتحول العام الماضي إلى الإخراج التلفزيوني.

اليوم، بعد كل هذه التحولات، ورحيل أحمد زكي الممثل المفضل لهؤلاء المخرجين، هل أصبحت السينما الجديدة قديمة المعنى وعلى مخرجيها الانصياع لمتطلبات السوق السينمائي، أم إن الساحة الفنية لم تعد قادرة على احتضان جميع الأجيال لتقديم أفلاماً برؤى مختلفة ومتنوعة؟

موقع "إيلاف" بتاريخ 27 أبريل 2005

 

ملف أحمد زكي

أحمد زكي يعود إلى القاهرة لاستكمال علاجه فيها

أحمد زكي أستاذ يحلم النجوم بالوقوف أمامه

حكاية صراع الامبراطور مع الالام في الغربة

الفنانون العرب والمصريون يلتفون حول أحمد زكي

محمد هنيدي:أحمد زكي مقاتل مملوء بالإيمان والتفاؤل

تصوير الضربة الجوية بعد الشفاء مباشرة

مديرة منزل احمد زكي تبحث له عن زوجة

ملف أحمد زكي

أحمد زكي واندثار سينما الواقع

بين رحيل أحمد زكي واندثار السينما الواقعية

بلال لبّان من بيروت

 

صور لأحمد زكي

كل شيء عن أحمد زكي

شعار الموقع (Our Logo)