صفحات ذات صلة

كتبوا في السينما

 

أن يحب الناس فناناً جيداً فهذا هو الطبيعي منذ بدأ الفن, ولكن أن يتحول هذا الحب إلى ظاهرة مثل الظواهر الطبيعية للكون, وأن يتوافد المحبون البسطاء الى المستشفى الذي كان يعالج فيه الفنان على رغم بعد المسافات بين القاهرة ومدينة 6 أكتوبر الجديدة, وبين المحافظات, وأن يطلب الاطفال من آبائهم الذهاب إلى حيث يرقد الفنان والدعاء له, وأن اشياء كثيرة حدثت وتحدث منذ بدأ الفنان أحمد زكي يرقد رقدته الصعبة التي عبرت عن وضع صحي خطر بدأ منذ كانون الثاني (يناير) من العام الماضي, وهو ارتفاع درجة الاهتمام به شعبياً إلى درجة غير مسبوقة. صحيح أن رئيس الجمهورية اهتم بالسؤال عنه وحادثه أكثر من مرة هاتفياً - اثناء مرضه وقبل رحيله بأيام - وكذلك كثيرون من الوزراء والمسؤولين, ولكن الاهتمام الرسمي ليس هو المؤشر على وضع الفنان لدى رجل الشارع العادي, ولا موقعه في عالم الفن نفسه، وكم من اهتمامات رسمية حظي بها فنانون في سنوات سابقة توقفت عند لحظتها ولم تواكبها مشاعر شعبية متدفقة جارفة, وهو ما يدفعنا الى محاولة التوقف عند ذلك القلق وتلك المشاعر التي تكنها جماهير تعيش اليوم في مناخ مختلف تماماً عن ذلك الذي صنع فيه أحمد زكي مجده يوماً.

فأحمد زكي ليس ابن السينما المصرية اليوم ولكنه ينتمي الى سينما سنوات مضت كان لها جيل آخر عاش امجاده معه وصعدا معاً في الثمانيات من القرن الماضي. جيل رأفت الميهي ومحمد خان وخيري بشارة وعاطف الطيب والذي عجزوا عن الاستمرار عندما تغير المناخ بفعل التغيرات الاقتصادية السريعة وصعود جمهور جديد. لقد قاوم أحمد زكي طويلاً هزيمة جيله على المستويات كلها, بل إنه في لحظات الانتقال من سينما لسينما أعلن عن مشروعه الطموح الذي اراد فيه تقديم افلام عن أهم الشخصيات العامة المؤثرة في حياة المصريين والعرب في القرن العشرين. كان هذا الاعلان في بداية التسعينات, وكان زكي يومها يريد المساعدة ممن يتوقع منهم أن يكونوا على نفس الخط معه, لكن زملاء الكفاح السينمائي انفرطوا وراحوا يبحثون عن لقمة العيش في الاعلانات وفي الفيديو كليب فعاد زكي يبحث عن التلفزيون الذي أهمله, أو فلنقل حدد موقفه منه منذ البداية في أنه مفسدة للفنان السينمائي يقتل موهبته ويهدرها على امتداد حلقات المسلسلات، لكن زكي عندما ذهب يبحث عن التلفزيون في بداية التسعينات كان يبحث عن السينما فيه, وعن الامكانات التي توافرت لقطاع الانتاج الناهض وقتها بعد انشائه ورئاسة ممدوح الليثي له. وبدأ مشروعه من خلال فيلم عن الرئيس جمال عبدالناصر للكاتب محفوظ عبدالرحمن والمخرج محمد فاضل, وجاء فيلم «ناصر 56» ليحدث شرخاً في منظومة السينما الصاعدة وقتذاك (1996)...

الأحلام القومية

جاء فيلم «ناصر 56» ليكون فيلماً في مشروع, ونزل الى دور العرض السينمائي, وأنصف الناس أحمد زكي مؤكدين له أن أحلامه لم تكن هذياناً, وانهم يحتاجون الى اعمال تعيدهم الى زمن الاحلام القومية وفرسانها. بعد ذلك، كان فيلم السادات احد اكبر مفاجآت احمد زكي لأصدقائه الذين حسبوه على العهد الناصري, من هنا تحمل زكي سخرية كثيرين منهم, خصوصاً اليساريين منهم المعارضين لكامب ديفيد. لكنه ازداد عناداً واصراراً عليه مدفوعا بنظرة رومانسية وطنية ترى في السادات نموذجاً لزعيم اختلف الناس حوله وقام بأعمال أثرت في الملايين.

اختفى أحمد زكي في هدنة بعد «السادات» قبل ان يعود الى السينما في دور آخر مهم, ليس ضمن مشروعه عن الشخصيات المعروفة ولكنه يقترب من السلطة من خلال تشخيص حالة وزير يدرك اهمية موقعه وتقتله فكرة الخروج منه, كان ذلك الفيلم «معالي الوزير» لسمير سيف.

وهكذا في بداية العام الماضي, بدأ ما يمكن اعتباره مشهداً طويلاً مختلفاً, فأحمد زكي المقبل على حياة عبد الحليم المشهور بأزماته المرضية الشهيرة مع مرض التهاب دوالي المريء, دخل هو نفسه في أزمة أعنف مع مرض السرطان, وعاش أيضاً تجربة ان ينقل للعلاج في الخارج بأقصى سرعة بعد ان توحشت خلايا السرطان في جسده, كما زاد التهاب الرئتين من متاعب التنفس لديه, وفي عز أزماته لم يكف احمد زكي عن الحلم بالسينما, وفي زيارة له بالمستشفى في منتصف العام الماضي وكان جسده محاصراً بالانابيب والخراطيم وتحذيرات الاطباء بمنع الحركة، قال لنا زكي وهو يسخر انه يشفق على من يراه في هذه الصورة فيصاب بذعر, وانه يريد ان يرتب مع اطبائه لاحضار كاميرات سينمائية لتصويره وهو على هذه الحال للافادة منها في فيلمه المقبل, كان ممنوعاً من الحركة و»شغالاً» مع الفيلم يحلم بلقطاته, ومن هنا لم تكن مفاجأة ان يتم الاعلان عن توقيع عقود «حليم» من خلال شركة جديدة للسينما أسسها الاعلامي عماد الدين اديب وحرص على توفير اقصى درجات السخاء الانتاجي والاعلامي عن الفيلم الذي ذهب إخراجه الى شريف عرفة. وفي حفل الاعلان عن بداية التصوير، في مطلع العام الحالي كان المشهد غير مسبوق, فقد حضر الجميع لرؤية أحمد زكي الذي يمر في أزمة كبرى تجعل الشكوك حول اكمال الفيلم قائمة, وعلى رغم ان الشكوك حول عودته للعمل أصلاً هي الاكثر منطقية الا ان علاقة زكي بالتمثيل وجنونه به اوحت للجميع بأن الأمر عادي.

صدمة الاصدقاء والمحبين لم تتلاش بقراءة (نشرة اخبار) العمل في الفيلم والتي كانت بنداً ثابتاً في الصحف يومياً, ومن خلالها كان هناك تأكيد على ان زكي قام بأداء نسبة عالية من مشاهده, لأن «صورته» كانت تؤكد أنه يعيش في منطقة الخوف, وانه يندفع الى ممارسة عشقه الوحيد حتى آخر نفس مؤكداً ما قاله مراراً من قبل من انه يود ان يموت وهو يمثل, بينما كان عماد الدين أديب يؤكد أن عمل زكي في هذه الظروف الصعبة هو علاجه الوحيد وفي الوقت نفسه كانت الاورام السرطانية تنتشر لتصل الى الكبد والاوعية الليمفاوية مع التهاب رئوي حاد اضيف اليه ضيق في الشعب الهوائية مما استلزم ايقاف علاجه الكيماوي, واقامة خط ساخن بين الاطباء في مصر وفرنسا لمحاولة ايجاد حلول لكنه - اي ذلك السيناريو بتطوراته - كان معروفاً منذ عام مضى لدى الكثيرين, وان النجم الكبير تجاوز مرحلة المقاومة الشرسة للمرض, ولم يحقق ما أراد أن يحققه ضده من بطولات.

أسرته.. منطقة محرمة

من أكثر المناطق حرمانية في حياة أحمد زكي أسرته وعلاقته بها, الأم وابنتها غير الاشقاء له, وابناء خاله فقد كان يعتبرها منطقة ممنوعة على الاعلام وتخصه وحده, ومع ذلك لم يرحمه هذا من اشاعات راجت اخيراً عن تبرئه من عائلته وهو الابن البار بأمه وابنائها, وخاله وابنائه, وكثيرين من ابناء الحسينية في الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية التي ولد فيها عام 1949 لأب توفي وهو في بطن الأم, ليعيش طفولة مختلفة مع خاله الذي اخذه للحياة معه بعد زواج أمه. ولم يرَ زكي أباه ولكنه أخذ ملامحه ولونه الغامق بينما امه بيضاء البشرة ناصعة.

ألحقه خاله بالمدرسة الابتدائية والاعدادية ثم بالتعليم الفني حتى يواجه الحياة من خلال «صنعة» تفيده سريعاًً, وهكذا حصل على دبلوم صنايع تخصص خراطة معادن, ولكنه ترك العمل والزقازيق كلها الى القاهرة سعياً وراء حلمه بالتشخيص اذ كان مجنوناً بالسينما وبتقليد نجومه المفضلين محمود المليجي وزكي رستم واستيفان روستي وغيرهم من جيل السينما المصرية في الخمسينات والستينات, وفي معهد الفنون المسرحية بالجيزة, نجح في الاختبارات بتفوق وكان رئيس اللجنة عام 1968 فنان المسرح الكبير سعد أردش الذي لمح فيه ما جعله يتوقف عنده على رغم ارتباكه امام اللجنة.

هو والتلفزيون

في المعهد، لفت زكي انظار عدد من المخرجين الذين كانوا يتوافدون عليه دائماً بحثاً عن وجوه جديدة, ومن هنا التقطه عبدالمنعم مدبولي في مسرحية «العيال كبرت» ثم جلال الشرقاوي ليقدمه في «مدرسة المشاغبين» امام مجموعة من النجوم الصاعدة وقتها في مقدمهم عادل امام وسعيد صالح ويونس شلبي, لكن زكي ترك المسرح مبكراً, وطوى صفحته بعد هذه البداية في حسم غريب وبدأ البحث عن وسط فني اكثر ملائمة له, وهنا التقطه التلفزيون في ادوار صغيرة قبل ان تعطيه المخرجة علوية زكي فرصته الاولى الكبرى في مسلسل «اللسان المر» للكاتب عبدالوهاب الاسواني وكانت البطلة امامه مديحة حمدي. بعدها، توالت البطولات عليه لكنه رفض غالبيتها وكان في وضع يسمح له بأن يكون نجم التلفزيون الاول بينما كانت مشاعره تتجه الى السينما التي استولت عليه مبكراً. ومن هنا انتهز زكي فرصة النجاح الكبير الذي حققه مع المخرج يحيى العلمي في مسلسل «الايام» الذي قام به بأداء شخصية عبقري الفكر والادب الدكتور طه حسين عام 1979، ليتوقف عن الظهور على شاشة التلفزيون وليرفض مراراً العودة اليه محتفظاً برغبته في ان يُخلص تماماً للسينما, لكنه عاد مرة واحدة الى الشاشة الصغيرة بعدها من خلال صلاح جاهين الذي كان قد اصبح بالنسبة اليه راعياً وأخاً اكبر. وكانت العودة ايضاً مرهونة بموافقة سعاد حسني على العمل في التلفزيون للمرة الأولى من خلال حلقات متصلة منفصلة بعنوان «هو وهي» عن قصص للكاتبة سناء البيسي أعدها للشاشة الصغيرة جاهين وكتب كلمات استعراضاتها وأغانيها وأخرجها يحيي العلمي. خمس عشرة حلقة كان من المفترض ان تكون ضعفها ولكنها لم تكتمل, وتعد حتى الآن من روائع الاعمال التي قدمها التلفزيون وبعدها انتهت علاقة زكي بهذا الجهاز.

كانت ملامح احمد زكي وهيئته الشعبية احد مظاهر الاختلاف بينه وبين نجوم السينما في السبعينات عندما بدأ يشق طريقه, كان النجوم هم محمود يس ونور الشريف وحسين فهمي, وكانت بشرته السمراء الغامقة, وشعره الاكرت الخشن ضمن العناصر التي ابعدته عن الفرص في البداية, فقد رفض المنتجون هذا الشكل المغاير لصورة «النجم» المألوفة, وعندما جاءته فرصة العمر بترشيحه لبطولة فيلم «الكرنك» من قبل المخرج علي بدرخان, رفض منتج الفيلم واستبدله بنور الشريف, ومن هنا امتلأ بالغضب ودفعه هذا لتحدي هؤلاء الذين لا يعترفون به من خلال الادوار الثانية والثالثة التي يحظى بها, ولم يمض وقت طويل حتى اصبحت موهبته الخارقة مجال الجدل العام, خصوصاً بعد ان أصبح حديث الجميع بدوره الصغير في فيلم «الباطنية» الذي ضم كتيبة من النجوم على رأسهم نادية الجندي مع المخرج حسام الدين مصطفى في نهاية السبعينات, وبعده بدأت المرحلة الاهم في حياته.

افتتح أحمد زكي تيار الواقعية المصرية الجديدة في السينما بأول افلام رأفت الميهي كمخرج وهو «عيون لا تنام» مع فريد شوقي ومديحة كامل عام 1981, وبعدها توالت بطولاته مع جيل من المخرجين وجد فيه الممثل الأكثر ملائمة للتعبير عن الحياة من دون تجميل وعن المواطن العادي المأزوم.

ملامح مشتركة مع حليم وسعاد

من الناحية الانسانية, جمعت زكي ملامح مشتركة مع عبد الوهاب وعبد الحليم وسعاد حسني, فإذا كان عبد الوهاب وجد معلماً رعاه واحتضن موهبته كالشاعر احمد شوقي وكذلك وجد عبد الحليم عبد الوهاب نفسه ومجدي العمروسي وجيل محيط به من الشعراء والملحنين, فقد وجد أحمد زكي صلاح جاهين الشاعر والكاتب الساخر الكبير الذي احتضنه هو وسعاد حسني, ويوم وفاة جاهين اسودت الدنيا في عيون الاثنين, وشعر كلاهما بالاكتئاب اذ فقدا أباً روحياً تعلما بفضله الكثير من قوانين الحياة التي لم يدركاها بفعل طفولة محبطة وثقافة متواضعة. ولم يخرج احمد زكي من حالة الاكتئاب يومها الا بالعلاج النفسي عند طبيب كبير احبه وصادقه وساعده على ان يعيش من دون الأب أو بديله الذي فقده.

لقد سدد احمد زكي ما عليه للجميع مقدماً, ما عليه للفن, وما عليه للناس. دفع عمره في الترقي بمهنته والفناء فيها, ودفع وقته في البحث عن وسائل مكنته من تقمص الشخصيات التي يقدمها على الشاشة, ودفع كل ما كسبه في متطلباته كما يدفع اي مواطن عادي دخله بعيداً من المشاريع التجارية التي تقيمها غالبية الفنانين الآن. تمتع بالحياة كما يريدها, فلم يتزوج الا الفن قبل ان يقابل هالة فؤاد عام 1983, ولم يتزوج بعد طلاقهما, ولم يدفع بابنه الوحيد هيثم الى الاضواء مثل آخرين, بل انه كان يهرب من الاضواء بعيداً من العمل, ولسنوات عمره الفني خلت الحفلات التي يقيمها نجوم المجتمع ورجال الاعمال وحتى زملائه الفنانين من وجوده, وأوقاته الخاصة كانت ملكه وملك اصدقائه ينطلق منها كما يحب معهم, تلقائياً وكريماً ومبذراً وفوضوياً بعيداً من القيود, مجسداً شخصية فريدة في فوضويتها والتزامها في الوقت ذاته, في صخبها وفي انعزالها, انسان بمعنى الكلمة, متواضع وربما خجول بعيداً من الكاميرا, وروح اخرى امامها. لقد مر زكي بأوضاع وأزمات عدة, ولكنه لم يبالِ بها, ورفض اي استغلال دعائي لها, ومن المؤكد أن المواطن العادي الذي يراه على الشاشة ولا يقرأ عنه في الصحف ما يثيره ويعطل عليه تأثيره الفني, من المؤكد انه أدرك الكثير ووصلت رسائل زكي الابداعية, كما احب فيه فنان لم يتجمل, ولم يتعال على أحد. 

* ناقدة مصرية

الحياة اللبنانية بتاريخ 8 أبريل 2005

 

ملف أحمد زكي

أحمد زكي يعود إلى القاهرة لاستكمال علاجه فيها

أحمد زكي أستاذ يحلم النجوم بالوقوف أمامه

حكاية صراع الامبراطور مع الالام في الغربة

الفنانون العرب والمصريون يلتفون حول أحمد زكي

محمد هنيدي:أحمد زكي مقاتل مملوء بالإيمان والتفاؤل

تصوير الضربة الجوية بعد الشفاء مباشرة

مديرة منزل احمد زكي تبحث له عن زوجة

ملف أحمد زكي

أحمد زكي:

مجنون الفن... وفوضوي الحياة

ماجدة موريس

رحيل الفنان الذكي ... "أحمد زكي"

يوخنا دانيال 

أول ما يستوقف المرء في الفنان الراحل أحمد زكي ثلاثة أشياء : لون بشرته السمراء الداكنة، شعره المفلفل الكثيف، وأخيرا تقاطيع وجهه الدقيقة التي توحي بالحزن والذكاء والغضب الداخلي. يبدو الفنان أحمد زكي من خارج الكون السينمائي العربي ... هذا الكون الذي ظلّ يبحث في نجوم السينما عن أشباه وشبيهات لنجوم وفاتنات هوليوود والغرب. وقد تبدو للبعض ملاحظتنا هذه عرضية او حتى سطحية، لكن من يتتبع تاريخ السينما المصرية يدرك مدى اهتمام هذه السينما بالشكل الخارجي وملامح الوسامة والجمال التقليدي في أبطال ونجوم الشاشة البيضاء. حتى الشخصيات "السوداء" البارزة في التاريخ العربي مثل "عنترة" و"بلال الحبشي" كانت تسند الى ممثلين بيض، يطلون وجوههم بدهانات الماكياج. الممثلون والممثلات "السود" في السينما المصرية، احتلوا أدوار الخدم والبوّابين و"الدادات" بامتياز كما في هوليوود بالضبط.

نسوق هذا الكلام فقط لتذكير القراء وشد انتباههم لصعوبة الطريق الذي شقّه الفنان الراحل أحمد زكي في سنوات عمره التي لم تتجاوز الستين. وبين نجوم التمثيل السينمائي في مصر المتميّزين بوسامتهم الملحوظة وأناقتهم الدائمة، يبدو الفنان أحمد زكي وكأنه واحد من "أولاد الشوارع" – عذراً على هذا التشبيه. ان ما كرّس هذا الانطباع الأولي هو دوره المتميز في مسرحية "مدرسة المشاغبين" البرجوازيين، دور اليتيم الفقير الذي يعيّره ناظر المدرسة بفقره المدقع، وفي نفس المسرحية يردد أحمد زكي عبارة "وضعي مختلف" القاسية والواقعية أيضا، ربما في اشارة غير متعمّدة لوضعه الواقعي أيضا. لاحقا، في مسرحية "العيال كبرت"، انتقل الى مرتبة الابن الأكبر العاقل/ المتمرد الذي يعشق سيدة أرملة أكبر منه سنا، وسط أخوة مجانين مدللين، المهم انه أصبح فرداً من العائلة. ان تمكّنه من حرفة التمثيل مبكراً، وملامحه الشكلية المختلفة، قاداه الى أدوار عديدة ومختلفة في السينما والتلفزيون أيضا. وخلال ثلاثين عاما من عمله في حرفة التمثيل، كرّس أحمد زكي ملامح "فحولة" مختلفة، خشنة، محسودة، بوقوفه الى جانب أهم فاتنات السينما المصرية ... كما لو أنه "عطيل" الذي يقود أساطيل مدينة السينما المصرية، ويحظى بأجمل حسناواتها. لكنه بين جيله من نجوم السينما العربية، كان الأكثر عشقا والأكثر إخلاصا للفن وللسينما بالتحديد، ولم يتصوّر لنفسه طريقا آخر في الحياة سوى فن التمثيل.

في سنواته الأخيرة استهوته سينما السيرة الذاتية الى ابعد الحدود وكرّس نفسه لتجسيد شخصيات مهمة ومثيرة للجدل، مثل الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، وأخيرا الفنان عبد الحليم حافظ. لم يتوقف أحمد زكي او يستكين لشروط مظهره الخارجي في لعب الشخصيات المختلفة، في بعض الأحيان كان يلجا الى التفسير الداخلي للشخصية، في أحيان أخرى اعتمد على التطابق الشكلي الخارجي مع الشخصية، وفي معظم الأحيان كان يلجأ الى تقمّص الشخصية التي يلعبها … لكن من دون ان يستسلم لهذا التقمّص او يسقط في التكرار. في ذهني كنت أطلق عليه أحيانا اسم "أحمد زكي رستم" رابطاً بينه وبين الفنان العظيم "زكي رستم"، أحد عمالقة التقمّص في السينما العربية والعالمية أيضا، لكن أحمد زكي كان أكثر ذكاءاً ....  كان يحاول دائما ان يعطي من روحه وذاته للشخصيات المتنوّعة التي يلعبها على الشاشة. وربما كان أهم ما كان يميّز أداؤه هو الذكاء والحساسية اللتين يفتقر اليهما معظم نجوم السينما العرب في عملهم، وليس في حياتهم الشخصية بالطبع. لقد لعب دور تاجر المخدرات، المصور الفوتوغرافي، مفتش المباحث، بواب العمارة، الصحفي، المعاق بدنيا، الملاكم، المشعوذ الدجال، ابن الصعيد، ابن المدينة، طالب الجامعة الفقير، مجند الأمن المركزي الساذج، الوزير الفاسد، السائق، الطبال، المحامي، الجندي، رئيس الجمهورية، رائد التنوير العربي طه حسين .... كان مهووساً بلعب جميع الأدوار المختلفة، مندمجا في عمله الفني كأنه في رسالة او عبادة.

في مرضه العضال الأخير ضرب مثلاً رائعا في صموده واستمراره في العمل، وكأنه في سباق مع الموت القادم لا محالة هذه المرة. انه يعرف الموت جيدا، التقاه وراوغه سابقا، تحدث عنه كثيرا حتى في وسائل الإعلام. لقد صادفه الموت مبكرا في بداية السبعينات اثر إصابته بمرض عضال، بينما كان في رعاية الشاعر الكبير والرسام "صلاح جاهين" عند بداية مشواره الفني في القاهرة. ان موته، يحيلنا الى موت زوجته السابقة المبكر، الفنانة الرقيقة الجميلة "هالة فؤاد". وعندما كنت أفكر بالتناقض الظاهري الكبير بينه وبينها على مختلف المستويات، هالة بجمالها الرقيق الهادىء ... هو بعنفه وحساسيته المفرطة. تصورت ان الحب سينتصر على كل الاختلافات والتناقضات، لكن هذا الحب، وبالتالي هذا الزواج، لم يستمر طويلاًً. ان موتها المبكر قبل أكثر من عشرة أعوام كان صدمة كبيرة له، شوّشت الكثير من مساراته وخططه ومشاريعه في الحياة والفن.

من مناقب أحمد زكي المهمة، هي احترامه الكبير لنفسه ولفنه ولحياته الشخصية، قد حاول جاهدا ان يبعد حياته الشخصية عن الأضواء والإعلام وتحمّل الكثير من سوء الفهم والنقد الجارح جراء ذلك. بالنسبة له، الفنان إنسان عادي في معظم الأوقات، وما يستحق التغطية الإعلامية والشهرة هي أعمال الفنان وإنجازاته ليس إلاّ. والمدهش انه لم يكن عنيفا حتى في الدفاع عن أعماله وأدواره المختلفة، وكان يتقبّل النقد والملاحظات المختلفة ببساطة وأريحية، وهو المليء بالغضب او العنف الذي كان يتغذّى على جسمه النحيل. بالطبع، ان ابتعاد أحمد زكي المنهجي عن الأضواء وعن وسائل الإعلام، قد أضر بمكانته بين الجماهير أحياناً. وفي استفتاء بسيط أجريته بين نساء العائلة وبعض الصديقات، اكتشفت ان الثلاثي المفضل بين عموم النساء : هم "حسين فهمي، نور الشريف، محمود ياسين"، ثم يعقبه الثنائي "محمود عبد العزيز وفاروق الفيشاوي"، وأخيرا، وخارج هذه التقسيمات، هناك "الزعيم الأوحد" عادل إمام الذي يتربّع على عرش جميع القلوب. إذن، لم يكن أحمد زكي من  بين كل هؤلاء النجوم "المحبوبين" .... وجوده كان استفزازيا، متطلّباً، وهو لم يسعَ لأن يحبه الناس عن طريق الانتشار الفني والإثارة الاعلامية والمسائل الشخصية وتوسّل العواطف المجانية ..... ربما كان يريد ان يقول : لا أريد ان تحبوني، بل ان تحترموني، وتحبوا أعمالي الفنية، وربما كان يحس بالغربة حتى داخل الوسط الفني.

مثل هذه المواقف، ربما أضرّت حتى بفرص عمله في السنوات الأخيرة، سنوات أفلام "الكوميديانات" الشباب والسينما التجارية السهلة.... لكنه في هذه الأوقات بالذات جاهد ليصنع سينماه الخاصة، ونقصد إحياؤه لسيرة شخصيات مهمة في مصر من رؤساء وفنانين. في فلمه قبل الأخير "معالي الوزير"، قدّم أحمد زكي أداءً متنوعاً وذكياً الى أبعد الحدود، عن سياسي فاسد يدخل الوزارة بالصدفة المحضة، لـ "يعشعش" فيها طويلا، ثم تداهمه الكوابيس المؤرقة. اما فلمه الأخير "حليم"، فقد أصبح إشارة الى تصادم التراجيديات الشخصية لفنانين عربيين كبيرين، ونقصد حليم وزكي، اللذين كان القدر بالمرصاد لهما وهما في أوج عظمتهما وعطائهما الفني.

لقد آلمني شخصياً ان لا تلتفت الصحافة والميديا العالمية الى وفاة فناننا الكبير،.بينما كنت أبحث عن الأخبار والأحداث السينمائية البارزة في المواقع الالكترونية المهمة. نحن الذين نكتب في السينما في العالم العربي، قلّما يفوتنا أي حدث سينمائي عالمي بارز. أحمد زكي، لم يكن فنانا مصريا او عربيا فحسب، انه مُلْكٌ للفن السينمائي في العالم أجمع، وعلينا ان نعرّف العالم بهذا الفنان وأعماله وموهبته الفذّة، والظروف الصعبة التي واجهها وهو يشقّ طريقه في السينما العربية. ان ظهوره ونجاحه في السينما المصرية، قد يكون معادلاً لظهور ونجاح الفنان "سيدني بواتييه" في السينما الأمريكية أواسط الخمسينات من القرن الماضي.      

 

صور لأحمد زكي

كل شيء عن أحمد زكي

شعار الموقع (Our Logo)