صفحات ذات صلة

كتبوا في السينما

 

الذين رفضوا الهزيمة هم جيل الستينيات والسبعينيات. الجيل الذي تفتح وعيه علي مجتمع يلتف حول برنامج حياة: تنمية اقتصادية، تخطيط، تنمية ثقافية، السعي إلي الاكتفاء الذاتي، إعادة تشكيل الوجدان المصري ليصل إلي ديالتيك الوحدة في قلب الاختلاف، أي: «الحداثة».

والحداثة تبدأ، في تاريخ الفكر الإنساني، بتحطيم النظرة الثنائية للواقع، للإنسان، للطبيعة، النظرة الثنائية التي ورثها المفكرون من أرسطو، حيث الكون يقابل الفساد، والخير يقابله الشر، وكل عنصر في الطبيعة كما في نفس البشرية، قام علي صراع ضدين كلاهما علي نقيض الآخر. هذا هو فكر العصور الوسطي.

وفي الدراما، ترجمته هي: «النمطية». أي رسم شخصيات أي عمل مسرحي (ثم سينمائي بعد ذلك، وتليفزيوني، أخيرا) علي أساس أحادي: هذا هو الشرير (Vilain) وهذا هو الخير، وهذه هي العاطفية، وتلك هي ذات النزعات الحادة التي تصل إلي قمة الشبق.. إلخ.. إلخ.

وفي تاريخ المعرفة الإنسانية، لا يبدأ الوعي بهذه الصراعات إلا عندما حل مجتمع «الأفراد المتعاقدة» (وفق أفكار روسو) محل مجتمع الأرض ومن عليها ملك السيد الإقطاعي، وهي ملكية وراثية، لأنها هبة من المولي سبحانه وتعالي.

الوعي بذاتية الفرد هو بداية عصر النهضة الأدبية من القرن 12 إلي القرن 16، وفي الدراما، اتخذ ذلك شكل بؤرة هي خشبة المسرح «العلبة» أو ما يسمي «علي الطريقة الإيطالية»، وقبل ذلك كان المسرح أحد أنشطة الكنائس، عبارة عن ستائر يتحرك فيها القديسون والملائكة بالعرض، ويوصلون الأشرار إلي الجحيم، والأخيار إلي جنة عدن، بينما الرابطة بين هؤلاء وهؤلاء هي الطاعة للسيد الإقطاعي، وإخلاص فرسانه له، ومن هنا عبارات: «له مسلك الفرسان» و«سلوكه نبيل».. إلخ.

ومع عصر الأفراد المترابطون في وحدة، هي «الدستور» مع احترام الاختلاف، كان علي كتاب الدراما أن يعيدوا اختبار القيم السالفة علي خشبة المسرح: كل شخصية تحلل نفسها، فيدرا عن چون راسين أحبت ابن زوجها ثيسيوس وأصبحت عشيقة ايبوليت في غياب والده. يا للجرم الذي ارتكتبه؟

وهكذا تصبح فيدرا، ابنة الإله زيوس، ولا تجد حلا إلا بالانتحار، وتتأوه ألما: «ما الذي يمكن أن تقوله، يا ابت، إزاء هذا المشهد البشع؟» وقبلها. في 1601، صاح هاملت ـ شكسبير: «الإنسان، أجمل ما فيه هو عقله»، وفي عام 1660 ترجم الفيلسوف الفرنسي ديكارت صيحة هاملت في كتابه الذي يفتح الطريق أمام منهج تحليل جزئيات الظاهرة، أي ظاهرة، للوصول إلي تركيبتها النهائية، وأعني به: «المقال في المنهج».

كل هذا المقدمة ضرورية لتحديد أين نقف، نحن، الآن، وبعقلية أي مرحلة من مراحل المعرفة الإنسانية نعبر عن واقعنا. إذا كنا لانزال نتصور الكون، والحياة، والإنسان، إنماطا متباينة، فنحن لم نخرج من العصور الوسطي بعد، ومازلنا في حيرة بداية عصر النهضة. أما إذا أدركنا أن الخير والشر وجهين لظاهرة واحدة، فنحن نعبر عن واقعنا من خلال منظور ديالكتيكي.

وفي تاريخ السينما المصرية، كانت بداية الخروج من الثنائية إلي الديالكتيك هي حركة جماعة السينما الجديدة، التي كان لي شرف صياغة بيانها الأول في 1968. كانت الحركة معاصرة للتحولات السياسية ـ الاجتماعية ـ النفسية التي طرأت علي مجتمعات العالم في ذلك الوقت: رفض شباب أمريكا النظام القائم علي الحروب، الصغيرة، كوريا، فيتنام، الجزائر.. إلخ، ثم الدعوة إلي نظام يقوم علي تفتيح ملكات الفرد، وتضييق الهوة بين الثري والفقير، بين ثقافة العامة وثقافة الخاصة، وإعادة تكوين نسيج الحياة اليومية علي أسس جدلية.

في مصر، لم يبدأ هذا التحول الجذري في السينما، بل في مجال الإبداع الروائي، سواء في القصة القصيرة أو الرواية. بدأ بقصة قصيرة لبهاء طاهر بعنوان «الحفلة»، كما بدأ برواية ذات بناء سيمفوني، هي: «دوائر عدم الإسكان» لـ «مجيد طوبيا»، وكذلك في «الزحام» لـ «يوسف الشاروني»، وفي كثير من أعمال إدوار الخراط، لينتهي إلي صُنع الله إبراهيم والجيل التالي.

وفي السينما، كانت نقطة البداية هي: «الظلال في الجانب الآخر» لـ«غالب شعث». وهي أول إنتاج «جماعة السينما الجديدة»، ثم بعد ذلك «أبناء الصمت» سيناريو مجيد طوبيا وإخراج محمد راضي. وفي الوقت نفسه «زائر الفجر» لـ «ممدوح شكري».

وأذكر أن مجيد جاء إلي بيتي ذات ليلة، وعندي كنا نلتقي باستمرار، محمد راضي، مجيد، عمر خورشيد، مجدي الحسيني، ممدوح شكري، خيري بشارة مع أسرته.

وقال لي مجيد وهو يتقد حماسا، علي غير عادته، فهو من النوع الذي «لا يعجبه العجب لا والصيام في رجب».

قال مجيد: «لقد وجدنا الممثل الذي يجسد تصوارتنا لما ينبغي أن يكون عليه الممثل». ويعني مجيد بذلك الخروج من النمطية (شرير علي طول الخط، مصاب بالانفصام علي طول الخط... إلخ.. إلخ)، ثم تجسيد كيفية الحياة (لا التراكم الكمي) وكيفية الحياة في السينما، هي أن تكشف لنا عن كيف يحدث هذا الحدث، وهذه هي الحداثة، أما أن تبني الفيلم علي أساس: وبعدين، وبعدين، فهذا هو عصر الحواديت، عصر اعتبار وجودنا حكاية مسلية.

وأضاف مجيد:

«له سمرة الفراعنة، وله القدرة علي أن يسرد ما في داخله بالإيماءة، وبالنظرة». كان ذلك الشاب هو أحمد زكي.

عرفت أنه من أبناء الشرقية، تعلم في الزقازيق، وفي الثانوية الصناعية شاء حظه أن يكون مدير المدرسة من مهندسي الديكور، وقد شيد مسرحا متكاملا في نفس المدرسة، وفي هذا المسرح خاض أحمد زكي تجاربه الأولي: كممثل، ثم كمخرج، وربما كان أول مخرج شاب يحقق مفهوم المسرح الشعبي (مسرح فيلا في فرنسا، وبريشت في ألمانيا) أقول ـ بلا أدني مبالغة ـ ربما يكون أول من حقق مفهوم المسرح الشعبي، لأنه عندما أخرج مسرحية «اللحظة الحرجة» لـ «يوسف إدريس»، انتقل الخبر إلي المدن الصغيرة والقري المجاورة لـ «الزقازيق»، وطلبت منه فاقوس أن يعرض العمل بمسرح متنقل، ومن فاقوس إلي باقي مدن وقري محيط الزقازيق.

ولم يكتف أحمد زكي بالممارسة العملية، بل عكف علي قراءة كل ما كتب عن المسرح، حتي التحق بمعهد الفنون المسرحية. وعندما «خيشت» الفكرة في ذهن مجيد طوبيا، ازداد حماس محمد راضي لها، وإذا بنا نجد عند عرض «أبناء الصمت» نبض الإنسان المصري الذي ينحدر من جذور التربة المصرية، جندي بسيط، إلا أنه يعكس روح جيل بأكمله: يرفض القمع ويرفض الهزيمة.

وبعد محمد راضي، وجد جيل الستينيات، ابتداء من خيري بشارة حتي عاطف الطيب ومحمد خان ومجدي محمد علي وغيرهم وغيرهم. أقول وجدوا في «أحمد زكي» إنسان مصر الرافضة للهزيمة.

وإذا كان أحمد زكي يجسد من هم في القاع الذي تحتدم فيه صراعات كل يوم، كما في «حواء علي الطريق»، السائق الميكانيكي، أو في «عيون لا تنام»، ثم وقع في يد أبي السينما التجريبية المعاصرة «خيري بشارة»، فانتزع أحمد زكي من وضعه وهو يئن تحت وطأة الصراعات الاجتماعية ليعطيه الكاميرا كي يري من أي زاوية يجيء الفساد، وإلي أي زاوية علينا أن نتجه.

ثم ها هو الفنان المبدع محمد فاضل يضع أحمد زكي في مركز برنامج الحياة المصرية منذ 1954 حي 1956، فإذا بـ «أحمد زكي» يصبح صاحب كل ما اتخذ من قرارات حتي يونيو 1956، يصبح «جمال عبدالناصر».

ولو وضعنا «أبناء الصمت» بعد ذلك لرأينا أحمد زكي يخرجنا جميعا من الصمت، يدفعنا إلي أن نصرخ: «كفي!»، ولكي يخرجنا من الصمت استنفد كل طاقته، وهكذا مصير الشهداء.

عزائي لـ «هيثم».

وعزائي لكل أبناء الصمت.

جريدة القاهرة بتاريخ 5 أبريل 2005

 

ملف أحمد زكي

أحمد زكي يعود إلى القاهرة لاستكمال علاجه فيها

أحمد زكي أستاذ يحلم النجوم بالوقوف أمامه

حكاية صراع الامبراطور مع الالام في الغربة

الفنانون العرب والمصريون يلتفون حول أحمد زكي

محمد هنيدي:أحمد زكي مقاتل مملوء بالإيمان والتفاؤل

تصوير الضربة الجوية بعد الشفاء مباشرة

مديرة منزل احمد زكي تبحث له عن زوجة

ملف أحمد زكي

د. صبحي شفيق يكتب عن «ابن الصمت»:

عندما أشار مجيد طوبيا علي أحمد زكي وصرخ في شلة السينما الجديدة: وجدتها وجدتها

ماجدة خيرالله تكتب:

البحث عن فضيحة فى حياة أحمد زكى

ماذا يفيد الناس من الحديث عن أم النجم الأسمر وتواضع عائلته؟!

هل إذا توفى واحد من كبار الصحفيين أو حتى صغارهم سيفكر أحد فى البحث عن حقيقة علاقته بأمه؟ أحيانا يعطى أهل الصحافة لأنفسهم الحق فى الخوض فى الحياة الخاصة جدا للفنان بحيث يتحول الأمر إلى موقف غير أخلاقى وغير إنسانى فى الصراع المحموم الذى كان دائرا بين الجرائد والصحف على تغطية الحالة الصحية للفنان الراحل أحمد زكى، سمح البعض لنفسه بأن يتجه نحو منطقة أراها شديدة الخصوصية وهى علاقة أحمد زكى بأمه؟ هل كان يحبها؟ هل كان يصرف عليها؟ هل زارته؟ هل.. هل؟ عشرات الأسئلة الغريبة والسخيفة.. أحمد زكى الفنان الكبير المتميز لم نجد شيئا فى حياته وإنجازاته نتحدث عنه... إلا علاقته بأمه. أحمد زكى مثل الملايين من أبناء الريف البسطاء كان من الممكن أن يعيش ويموت دون أن يدرى به أحد... إلا أن موهبته الفذة، وكفاحه وعمله الدؤوب ارتفع به من قائمة الحالات العامة إلى أن أصبح واحدا من الحالات شديدة التفرد والخصوصية ومع ذلك ترك المتاجرين بآلامه وحياته كل التفاصيل المهمة وتصوروا أنهم يقدمون إنجازا صحفيا عندما ينشرون صورة لأم أحمد زكى!! وهى امرأة شديدة البساطة أغلب الظن أنها لم تكن تستوعب قبل وفاة ابنها أن له كل هذه القيمة، ومعها حق فهى لم تغادر قريتها إلا مرات قليلة وإذا فكرت أن تعيش فى القاهرة سوف تتوه وتدوخ.. وحياتها آمنة ومستقرة فى بلدتها وسط أبنائها وأحفادها، لا شك أنها كانت تشعر أن أحمد زكى الذى ولدته ليس نفس الشخص الذى أقام الدنيا ولم يقعدها عندما أعلن الأطباء عن حقيقة مرضه.. لماذا تترك الصحافة كل المحطات المهمة فى حياة الرجل وتبدأ فى إثارة الغبار حول حياته للبحث عن فضيحة هنا أو هناك... أحمد زكى ترك لنا أكثر من خمسين فيلما قدم خلالها خمسين دورا وخمسين شخصية تصلح كل منها للتحليل والبحث، حياته كانت زاخرة بالإنجازات الحقيقية فلماذا لا يغرينا كل هذا بالحديث؟ لماذا نحاول الآن أن نضرب علاقته بأقرب الأصدقاء ونلوث المعانى الجميلة بحثا عن سبق أو إنجاز؟ لقد بدأت نغمة تسرى بين بعض من يبحثون عن أى أزمة مفتعلة، ليلقوا بوابل من الاتهامات على رأس عماد الدين أديب متهمين إياه باستغلال مرض صديقه ليحقق نجاحا تجاريا لفيلم «حليم» شوف إزاى؟ هل كان من الأفضل أن يقضى أحمد زكى عامه الأخير لا يفعل شيئا سوى انتظار الموت الوشيك؟ هل خسرت السينما المصرية أم كسبت فيلما سوف يضاف إلى قائمة أعمال هذا المبدع المتفرد... الكثير من الفنانين ماتوا قبل الانتهاء من تصوير أحد الأعمال الفنية، ولم يغير ذلك من الأمر شيئا لأن هناك دائما حلولا لكل أزمة مهما كانت فداحتها ولا أرى شيئا معيبا فى أن يضع فريق العمل لفيلم «حليم» خطة بديلة تنفذ فى حالة وفاة أحمد زكى! فهذا ما تفعله شركات الإنتاج فى هوليوود حيث تقوم بالتأمين على بطل الفيلم أو بطلته تحسبا لأى مفاجآت غير محسوبة وتقليلا للخسائر المتوقعة، عندما توفيت الفنانة أسمهان فى حادث سيارة قبل أن تصور المشاهد الأخيرة فى فيلم «غرام وانتقام» قام مخرج الفيلم ومؤلفه بتغيير النهاية بما يتفق مع ما استجد من أحداث وخرج لنا فيلم من أهم أفلام الأربعينيات. والممثل العالمى جيمس دين عندما مات فى حادث سيارة قبل أن ينهى تصوير آخر أفلامه تحول حادث وفاته إلى نهاية جديدة للفيلم الذى نال شهرة واسعة وحول جيمس دين إلى أسطورة لا تنسى... سواء كان القائمون على إنتاج فيلم «حليم» لديهم يقين كامل بأنه سوف يرحل قبل إتمام الفيلم أو لديهم مجرد احتمال فأعتقد أن من حقهم عمل خطة بديلة لتكملة الفيلم ليس فقط لإنقاذ الملايين التى تكلفها إنتاج الفيلم، ولكن لإنقاذ آخر عمل فنى كان يمثل الحلم الأخير لفنان عظيم... افتقدناه جميعا ولكن عزاءنا أنه لم يغادر الدنيا قبل أن يقدم لنا قطعة من إبداعه فى فيلم «حليم».

جريدة القاهرة بتاريخ 5 أبريل 2005

 

صور لأحمد زكي

كل شيء عن أحمد زكي

شعار الموقع (Our Logo)