"أم غايب"، "ذيب" و"ليفياثان"...
ثلاث جواهر سينمائية من مهرجان أبي ظبي
عصام زكريا
ثمانية أيام من العمر وسط الأفلام، ترى وتسمع وتتنفس وتحلم خلالها
أفلاما في أفلام. هكذا هي المهرجانات السينمائية لعشاقها، بديل عن
الحياة يفوق الحياة نفسها حيوية ومعنى ومتعة.
عقد مهرجان أبوظبي الدولي من 23 أكتوبر إلى 1 نوفمبر، وضم عشرات
الأفلام من أحدث وأرقى انتاجات السينما العالمية واختتم فعالياته
مساء الجمعة الماضية بحفل توزيع الجوائز. ولأن الأفلام كثيرة
ومعظمها يستحق الكتابة عنه، فسوف أكتفي هنا بالحديث عن بعض الأعمال
الفائزة.
"أم غايب" تنقذ "أم الدنيا"
لم تشارك مصر، أم الدنيا، وأم السينما العربية، سوى بثلاثة أفلام
في كل مسابقات المهرجان المختلفة لم يرق منها للمنافسة على الجوائز
وإعجاب الجمهور، سوى الفيلم الوثائقي الطويل
"أم غايب"، أول أعمال المخرجة الشابة نادين صليب.
"أم غايب" فاز بجائزة إتحاد النقاد الدوليين، الفيبريسي، التي
تمنح لأفضل فيلم عربي روائي وأفضل فيلم عربي وثائقي.
يصور الفيلم جانبا من حياة سيدة شابة من الصعيد الجواني، اسمها
حنان، لا نعلم كيف وصل إليها صناع الفيلم، ولا كيف وقع اختيارهم
عليها. حنان، مثل ملايين غيرها في مصر، إمرأة بسيطة فقيرة غير
متعلمة، محاصرة بالتقاليد والأعراف والمعتقدات البالية.
مشكلة حنان الإضافية أنها لا تنجب. ولكن هذا أيضا لا يجعل منها
حالة استثنائية، فهناك كثيرات غيرها، مثلها، يعانين من عدم الإنجاب
بما يحمله ذلك من معاناة نفسية وعائلية واجتماعية في ثقافة تعتبر
أن الانجاب هو الوظيفة الوحيدة، أو الأولى، للمرأة.
ما يجعل حنان حالة خاصة، حالة تصلح لعمل فيلم عنها، هو شخصيتها
المذهلة. هي تتمتع بحضور جميل على الشاشة، وبالرغم من أنها لم
تتعلم إلا أن لديها عقلا كبيرا وقدرة على التعبير عما يدور في
نفسها من أفكار ومشاعر معقدة.
يبدأ فيلم "أم غايب" بلقطة لطفل في حوالي السادسة من العمر يقف في
حقل على الطريق وينظر نحو الكاميرا، يناديه أبوه ليرتدي ملابسه
ولكن الطفل يرفض بشدة وبلكنة من "الصعيد الجواني"، أي أقاصي
الجنوب. بعدها تهبط الكاميرا إلى أعماق نهر أخضر غير صاف وجسم بشري
غير واضح يتحرك كما لو كان يقاوم الغرق. مشهد يتكرر عبر الفيلم
وسوف نعرف معناه لاحقا.
ننتقل بعدها للتعرف على الشخصية الرئيسية في الفيلم، حنان،
وأقاربها وجيرانها ومعارفها. حنان يطلقون عليها في القرية "أم
غايب" لأنها لم تنجب بعد، وتدور أحاديث النساء حول الانجاب وأهميته
للمرأة، وشوق حنان للأمومة، ويتطرق الحديث إلى قصص أخرى عن الحب
والزواج في مجتمع محافظ، ونعرف أن حنان كانت "مخطوبة" لزوجها عربي
منذ طفولتها، ولكن أخيه الأصغر أحبها وبادلته الحب، وذات يوم عندما
كان الأخ في الجيش، أتى عربي ووالده وطلبا يدها، وتم الزواج دون
علم الأخ الأصغر.
تصل "داية" القرية وتنضم لاجتماعات النساء أمام الكاميرا، وهي سيدة
جذابة الحديث لديها مخزون من الحكايات الشعبية وقادرة على تحويل
حياة أهل القرية إلى قصص شعبية تشبه حكايات "ألف ليلة وليلة".
من هذه الحكايات تبدأ قصة درامية تشبه حكايات "الداية"، بطلاتها
حنان وجاراتها والداية نفسها التي تتوفى في مرحلة أخرى من الفيلم.
أهم شيء هنا أن فريق عمل الفيلم لم يكتف، مثلما يفعل كثير من مخرجي
الأفلام الوثائقية في مصر، بتصوير العمل خلال أيام معدودة والتركيز
على ما تقوله الشخصيات وليس ما تفعله. هذا الفيلم تم تصويره على
مدار حوالي عامين من الزيارات المتتالية للقرية.
خلال هذين العامين نرى محاولات حنان التي لا تيأس للانجاب، من
عمليات جراحية عند أطباء في المدينة إلى زيارات للشيوخ والعرافين
والمشعوذين، ومن ممارسات لأغرب أنواع الطقوس "السحرية"، مثلما فعلت
أمام الكاميرا وهي تتمرغ في التراب والصخر عدة مرات.
وخلال هذه الرحلة الطويلة تبدأ حنان تدريجيا في فتح قلبها وتكشف عن
ذكرياتها ومشاعرها. تتذكر اليوم الذي كادت أن تغرق فيه في النهر،
والمرأة التي أنقذها في آخر لحظة. عندما تعود إلى بيتها في ذلك
اليوم تعرف أن المراة التي أنقذتها غرقت وماتت. تتساءل حنان ألم
يكن الأفضل أن أموت يومها، وتكشف أنها حاولت الانتحار أكثر من مرة.
تتذكر شقيق زوجها وتتساءل هل ما يحدث لها بسبب تخليها عنه؟ ولكنها
لم تكن تستطيع أن تفعل شيئا.
فالمرأة في هذه المنطقة من العالم لا كلمة ولا رأي لها، حتى في
زواجها. لكنها تكشف أيضا أنها الآن تكره هذا الشقيق كراهية شديدة،
بعد أن سخر من عدم إنجابها واقترح أن يطلقها زوجها.
نتعرف أيضا على زوجها، عربي، ذلك العامل البسيط المجتهد، الذي
يحبها ويتمسك بها للنهاية. إحدى جارات حنان تتزوج وتحمل، ثم تعرف
لاحقا أن طفلها توفي في المهد.
تتوالى ضربات القدر، وحنان لا تفهم شيئا مما يجرى لها ولا لغيرها.
تسأل الله في أحد المشاهد في لوعة، ثم تستغفره. تفكر، ربما، أن
الله حرمها من الانجاب حتى لا تتعذب من فقدان طفلها.
تمر الشهور، ويبدو أن القدر قد استجاب لدعواتها التي لا تنقطع.
تحمل حنان ويذهب فريق العمل لزيارتها، وبدلا من الفرحة يبدو القلق
الشديد عليها، وتقول أنها لا تعرف هل هي سعيدة أم لا.
بعد شهور أخرى، نعلم أنها أجهضت...لكننا لا نراها هذه المرة. يبدو
أنها لم تستطع أو ترغب في التصوير. نرى القرية في لقطات عامة،
غارقة في التراب والبؤس، تشرق الشمس وتغرب، وعلى حدود القرية تطل
المقابر، التي اعتادت حنان على زيارتها والتأمل وسط أضرحتها، كما
لو
أنها المعنى الوحيد الحقيقي لتلك الحياة، وعلى الحدود شريط النهر
الذي لا يزال يتخبط في مياهه العميقة نفس الشخص المجهول.
استطاعت نادين صليب وشريكتها في السيناريو مارجي أندرس وبقية فريق
الفيلم أن يحولوا عملا وثائقيا تقليديا إلى فيلم يمتلئ بالدراما
والتشويق، محرك للمشاعر ومثير للتفكير، وكانت وسيلتهم لذلك في غاية
السهولة. لقد سلموا أدواتهم وأنفسهم لعالم الفيلم الذي راح يتكشف
أمامهم ويدلهم بنفسه على الطريق.
"ذيب" يضع الأردن على خريطة السينما العالمية
حصل فيلم "ذيب" الأردني أول أفلام المخرج ناجي أبو نوار على جائزة
أفضل فيلم عربي روائي في مسابقة "آفاق" للعمل الأول، والفيلم يستحق
هذه الجائزة عن جدارة، بل وأكثر منها أيضا، وهو في تصوري أفضل فيلم
عربي شاهدته منذ سنوات طويلة.
خلال السنوات العشر الأخيرة اهتمت الحكومة الأردنية بالسينما
اهتماما ملحوظا من خلال تأسيس "الهيئة الملكية للأفلام" وارسال عدد
كبير من الشباب للتعلم في الخارج ودعوة كبار السينمائيين إلى
الأردن، وتقديم تسهيلات كبيرة للسينمائيين عبر العالم ودعوتهم
لتصوير أفلامهم في الأردن. وهاهي النتيجة تظهر من خلال مخرجين شبان
موهوبين كان منهم أمين مطالقة مخرج فيلم "كابتن أبو رائد" الذي لفت
انتباه العالم عام 2008، وأحدثهم ناجي أبو نوار وفيلمه "ذيب" الذي
أتوقع له أن يشق طريقه في المهرجانات الدولية خلال الفترة القادمة.
"ذيب" فيلم مصنوع بحرفية هائلة ومدهشة وفي الوقت نفسه يعتمد على
قصة من البيئة البدوية الصحراوية وممثلين هم من أهالي هذه البيئة
بالفعل نجح أن يصنع منهم ممثلين على أعلى مستوى...ليس فقط على أعلى
مستوى، ولكنه تمثيل مختلف تماما عن السينما التقليدية. الأمر نفسه
ينطبق على السيناريو المكتوب بحرفية شديدة ولكنه أيضا غير تقليدي
وغير متوقع، يمتلئ بالإثارة ويحمل المفاجآت كل بضعة دقائق.
يدور الفيلم عام 1916 أثناء الصراع بين الاحتلالين الانجليزي
والتركي على البلاد العربية، من خلال قصة صبي اسمه "ذيب"، يشبه اسم
"ديب" المصري، ينتمي لإحدى القبائل البدوية التي تسكن عمق الصحراء.
يتسلل "ذيب" ذات يوم للحاق بأخيه الأكبر الذي ذهب ليعمل كمرشد
لضابط إنجليزي متعجرف، في صحراء فسيحة ومخيفة يسكنها قطاع الطرق
والأتراك والثوار ضد الأتراك والانجليز والثوار ضد الانجليز، وهي
رحلة طويلة وعنيفة يتعلم من خلالها الولد أن يكون رجلا وأن يميز
بين أعداءه وحلفاءه.
ليفياثان، أو "حوت" الدولة
فاز فيلم "ليفياثان" للمخرج الروسي أندريه زفياجنتسيف بجائزة أفضل
فيلم روائي طويل في المهرجان، كما فاز بطله ألكسي سيريبرباكوف
بجائزة أفضل ممثل، وكان الفيلم قد حصل على جائزة مهرجان "لندن"
الأخير، كما فاز في مايو الماضي بجائزة أفضل سيناريو من مهرجان
"كان".
"ليفياثان" كلمة وردت في الكتاب المقدس سفر أيوب النبي، ويقصد بها
وحش مائي حقيقي أو أسطوري، ربما كان يقصد به التمساح، أو نوع من
الحيتان، ويضرب به المثل على كائنات الطبيعة الخارقة التي لايستطيع
الانسان ترويضها أو مواجهتها. لكن الكلمة أيضا هي عنوان واحد من
أهم الكتب السياسية التي ظهرت في القرن السابع عشر، وكتبه الفيلسوف
الانجليزي توماس هوبز. وهو مثل كتاب "الأمير" للايطالي ميكافيللي،
يتناول كيفية حكم الشعوب، ويرى فيه هوبز أن "الدولة" هي تلك
الحيوان الخرافي الذي لا يستطيع الأفراد أن يقاوموه...يعني كتاب في
فنون الديكتاتورية.
وقد استعان مخرج ومؤلف الفيلم بهذه الفكرة ليرصد الانهيار الذي
تتعرض له حياة أسرة بسيطة بسبب تصدي الأب لسياسي فاسد يريد
الاستيلاء على بيتهم. ويرصد الفيلم الكيفية التي تتحالف بها قوى
الدولة ممثلة في السياسيين ورجال القانون ورجال الدين لتحطيم أي
فرد يفكر في تحديها.
مع ذلك فهذا التلخيص يظلم الفيلم كثيرا لأنه يحوله إلى فكرة مجردة،
بينما الفيلم يعرض شخصيات وعلاقات وحبكة بارعة، يتم تجسيدها عبر
التمثيل والتصوير والمونتاج وسائر العناصر الفنية السينمائية بتمكن
مخرج كبير صنع أربعة أفلام حتى الآن وكل منها تحفة فنية خالدة. |