ضع نفسك بداية في عوالم كتاب توفيق الحكيم «يوميات نائب في الأرياف»ن
ثم أضف
شيئاً من حوارات تشيكوف التي قد تبدو عند البداية مجرد ثرثرة، والى هذا
تذكّر بعض
نهايات قصص سامرست موم. والنتيجة: جزء من روح فيلم التركي نوري بلغي جيلان
الجديد
«ذات
يوم في الأناضول» والذي نال جائزة لجنة التحكيم الكبرى في الدورة الأخيرة
لمهرجان «كان» السينمائي. والآن إذا كانت هذه المرجعية الأدبية لا تكفي، خذ
بعضاً
من اسلوب اندريه تاركوفسكي الشاعري البطيء، ومساعي انغمار برغمان الدائبة
للغوص في
ارواح شخصيات افلامه من طريق اللقطات المقرّبة وكذلك الجمل الحوارية التي،
بعد
غموض، تتخذ دلالاتها لاحقاً في مجرى الفيلم – شرط ان يكون لدى
المتفرج صبر مكّنه من
التنبه اليها منذ البداية -، وزد بعد هذا ملامح من بعض اجمل لقطات صوّرها
الإيراني
عباس كياروستامي، ولا سيما اللقطة الافتتاحية لفيلم جيلان الذي نحن في صدده
هنا...
والآن إن فعلت هذا كله ستجد المعنى العميق والجمال الاستثنائي لفيلم لن
يأتلف
متفرجه معه إلا بعد حين. والحال أن «بعد حين» هذه ليس من الضروري ان تكون
بعد زمن
من انتهاء عرض الفيلم. يمكنها ان تكون، مثلاً، خلال ساعته
الأخيرة، أي حين يكون بعض
ما بدا غامضاً خلال الساعة والنصف الساعة الأوليين من زمن الفيلم قد بات
أكثر
وضوحاً.
حكاية جريمة وجثة
فيلم «ذات يوم في الأناضول» الذي يبلغ زمن عرضه أكثر من ساعتين ونصف
الساعة (257
دقيقة تحديداً) كان الفيلم الأطول في عروض «كان» لهذا العام. ومع هذا، على
رغم
بطئه، لم يفكر احد في مغادرة الصالة قبل انتهاء العرض... وذلك أن الفيلم
التقط
متفرجه وحبس عليه أنفاسه منذ لقطته الأولى. منذ تلك اللقطة
التي صوّرت مشهداً
طبيعياً في الظلام تتوسطه طريق جرداء نصف ريفية، احس المتفرج وقد بدأت
سيارات غامضة
تتقدم وسط المشهد آتية من اللامكان في عتمة الليل وهدوئه، ان عليه ان يتوقع
حدوث
شيء ما. ولكن في الحقيقة لن يحدث ايّ شيء – تقريباً - طوال ما
يقرب من ساعة ونصف
الساعة. ثم ان ما سيحدث بعد ذلك لن يكون كثيراً على اية حال. في فيلم نوري
بلغي
جيلان الجديد هذا ليس ثمة احداث، ولا مفاجآت ولا – بالتالي - خبطات مسرحية.
وليس
هناك علاقات تنبني او اخرى تنفرط. هناك فقط بضعة رجال من بينهم
محقق عدلي وطبيب
شرعي وضابط شرطة وعاملان وبضعة جنود ومتهمان بالقتل. وهناك لاحقاً جثة
مطمورة في
مكان ما يتم اكتشافها وسحبها. والساعة ونصف الساعة الأوليان من الفيلم
يستغرقهما
البحث عن الجثة في تجوال ليليّ تقوم به السيارات التي اشرنا
اليها، طوال ليلة هي من
العتمة بحيث ان القاتل (كنعان) وشريكه المفترض في الجريمة (أخاه رمضان)
يعجزان طوال
تجوال ساعات عن تحديد المكان الذي كانا قد دفنا فيه جثة القتيل قبل أيام.
وسيبدو
لنا انهما في الحقيقة لا يخادعان ولا يكذبان. لقد سبق ان
اعترفا بما اقترفاه،
ويبدوان الآن صادقين في مسعاهما لمساعدة السلطات في العثور على جثة لا يمكن
ان يكون
تحقيق من دون العثور عليها.
اذاً في هذا السياق لهذا المقال، وبتشابه مع سياق مجرى «احداث»
الفيلم، بات
لدينا من العناصر ما يمكّننا من فهم ما يدور حولنا (نعني على الشاشة ولكن
حولنا
ايضاً كمشاركين مفترضين طالما ان اسلوب جيلان وبطء حركة الفيلم يجعلان من
المتفرج
نوعاً من متلصص «متورط» يخيّل اليه انه انتقل من خارج الشاشة
الى داخلها في قلبة
مدهشة نابعة من تأمل ومشاركة للشخصيات في تعبها وهمومها التي توفر الحديث
عنها
عبارات قصيرة متبادلة، على الأقل، بين ارستقراطيي التحقيق: المحقق، الطبيب،
ضابط
الشرطة، مقابل نظرات من بعض الآخرين ذات دلالة ساخرة حيناً،
معبّرة حيناً آخر، ضجرة
في معظم الأحيان). وما يدور حولنا، اذاً، هو بحث ليلي عن جثة مطمورة
وبالتالي
مستتبعات جريمة. وسنستغرق بعض الوقت قبل ان ندرك اننا هنا إزاء جريمة
عاطفية. وذلك
حتى قبل ان تطنّ في آذاننا عبارة غامضة يتمتم بها احد الأشخاص: فتش عن
المرأة!
في فيلم كهذا لا نشاهد في نصفه الأول سوى رجال ضجرين متعبين لا يحلم
كل منهم إلا
بأن يكون في فراشه في تلك اللحظة، لن يكون ظهور للمرأة إلا مرتين: مرة في
شكل عابر
حين يستضاف هذا الرهط من الناس في قرية ريفية صغيرة كنوع من الاستراحة،
فتقوم على
خدمتهم لدقائق ابنة عمدة القرية،
الحسناء الملائكية، مثيرة اهتمامهم جميعاً مخرجة
اياهم من روتين المهمة وقسوتها، ومرة ثانية – وهذه اهم بكثير - قرب نهاية
الفيلم
حين تظهر ارملة القتيل مع ابنه اليتيم بعد ساعات من العثور على
الجثة، وإذ كان
الفريق قد انتقل عند الصباح الى مستشفى البلدة الريفية لإجراء التشريح
واستكمال
الإجراءات الروتينية في مثل هذه الحالات.
سينما الإنسان الكبيرة
اننا هنا في خضم الساعة الأخيرة من الفيلم. ومن الواضح اننا بتنا نملك
معلومات
كثيرة عما حدث سواء في شكل مباشر او من طريق نظرات الطبيب الذي إنما تتسلل
اهميته
الى صلب الفيلم وأحداثه بصورة تدريجية – تماماً كما في نصّ لتشيكوف -. هو
الآن
عيننا ووعينا وربما - الى حد ما - شراكة مع المحقّق الآتي من
اسطنبول، والذي كان
خلال أحاديثه السابقة مع الطبيب كشف – وفي شكل تدريجيّ تصاعدي هو الآخر -،
عن
الإنسان ذي المأساة الخاصة في داخله بدوره. والذي نكتشفه هنا انما كنا ولا
نزال
نعرفه بإشارات عابرة من ذلك النوع الذي ميّز سينما جيلان في
أفلامه السابقة، ولا
سيما في فيلمه السابق مباشرة «ثلاثة قرود» الذي دار في معظمه حول جريمة
عاطفية
وحبكة بوليسية وشخصيات يتكشف – ايضاً كما الحال في «ذات مرة في الأناضول» -
تأزمها
من خلال زوال الأقنعة ذات لحظة في الفيلم. غير ان «زوال
الأقنعة» هنا ليس واضحاً
ولا صريحاً. إنه في نظرات متبادلة مثلاً بين أرملة القتيل والطبيب، في حيرة
تعتري «القاتل» امام مدخل المستشفى حين يشاهد
الأرملة وابنها، فيما الابن يضرب قاتل ابيه
بالحجارة غاضباً ونحن نأمل ألا يفعل. ثم بعد ذلك كله عندما
يملي الطبيب على الموظف
البيروقراطي تقريره فيما الجرّاح يشرّح الجثة ويخرج الأحشاء - فيما يشكو في
الوقت
نفسه من البيروقراطية الإدارية التي كان سبق لنا ان سمعنا حديثاً عنها في
حلسة
القرية الريفية في دارة العمدة - واصفاً مفسراً: ان الطبيب هنا
يفضّل – كما يبدو -
السكوت على بعض التفاصيل التي سرعان ما سندرك انها هي الأكثر أهمية بالنسبة
الى
الجريمة الأصلية، وسندرك لماذا السكوت وسنكون متواطئين معه(!). اذاً، نحن
نساند
الطبيب الرأي لأننا قبل ذلك كنا قد فهمنا كل شيء وأدركنا – كما
كان يقول لنا سامرست
موم في بعض نصوصه - ان هناك دائماً حقائق من الأفضل انسانياً ألا تقال.
وعند تلك
النقطة من الفيلم تظهر متعته المعرفية والجمالية الكبرى، إذ نتيقّن مما كنا
أدركناه
سابقاً وبالتدريج من خلال تلك العبارات والمواقف والتفاصيل
التي زرعها نوري بلغي
جيلان منذ أولى لحظات فيلمه - ولكن في رسم الذين باتوا منذ زمن يعرفون
اسلوبه
واشتغاله المدهش على التفاصيل وكذلك مزجه الخلاق بين أشكال سينمائية تعتمد
اللقطات
التأملية الطويلة بالتناوب مع الحفر عميقاً في وجوه شخصياته وتصرفاتها
وعباراتها
التي تبدو عابرة لنكتشف انها ليست مجانية في نهاية الأمر، وليبدو فيلم
جيلان حاملاً
ليس فقط موضوعاً بل كذلك اطلالات على واقع اجتماعي ومعاناة
شخصية وتشققات أرواح
وتعقّد علاقات بين البشر، وبخاصة الشرخ العنيف بين الظاهر والباطن وما
يخلقه هذا من
سوء فهم وضروب سوء تفاهم لا ينجو منها - فيكيّف نفسه مع ذاته - سوى المراقب
النبيه
والشاهد المتورط الذي تريد هذه السينما الكبيرة ان تحوّلنا
اليه. وفي مثل هذا
المعنى، لا يعود من المبالغة القول ان نوري بلغي جيلان امعن في فيلمه
السادس هذا («بعد القصبة» و «غيوم
ايار» و «اوزاك» و «المناخات»
و «ثلاثة قرود» ومعظمها فاز
بجوائز كبرى في مهرجانات مثل «كان» حيث نال جيلان مرة جائزة
المحكّمين الكبرى ومرة
جائزة افضل اخراج)، امعن في التسلل الى روح شخصياته ومتفرجيه - إن صبر
هؤلاء وفهموا
لعبته السينمائية الإبداعية الحاذقة وانما السائرة على حبل مشدود - محققاً
سينما
كبيرة بل كبيرة بأكثر مما نعتقد.
الحياة اللندنية في
03/06/2011
«الصبي
ذو الدراجة» ...
نفحة خير دينية في
عالم أناني
إبراهيم العريس
منذ ما قبل العرض الأول للفيلم البلجيكي «الصبي ذو الدراجة» في
المسابقة الرسمية
للدورة الأخيرة لمهرجان «كان»، ارتفعت اصوات عدة تتوقع – او حتى تطالب -
بأن تكون
السعفة الذهبية، أعلى جوائز المهرجان، من نصيب هذا الفيلم. وذلك بالقياس،
حتى قبل
مشاهدة الفيلم، على ان الأخوين داردين، مؤلفي الفيلم ومخرجيه،
جرت عادتهما على
تقديم افلام ناجحة ومستحبة، وأن أقلاماً كثيرة تحدثت عن الفيلم مسبقاً
بكونه واحداً
من افضل ما حقق المخرجان البلجيكيان اللذان سبق لهما ان فازا بالسعفة نفسها
مرتين
من قبل، واحدة عن فيلمهما «روزيتا» اواسط تسعينات القرن الفائت
والثانية عن «الطفل»
قبل اعوام قليلة. كان المطلوب اذاً رقماً قياسياً يجعل صاحبي «الصبي ذو
الدراجة» من
اصحاب ثلاث سعفات وهو ما لم يتحقق بعد لأيّ كان في تاريخ المهرجان. اما
السؤال هنا
فهو، وفي بساطة، الآتي: هل يستحق فيلم الأخوين الجديد هذا سعفة
ذهبية؟ ومنه يتفرّع
بالتالي سؤال اكثر اهمية: هل كان فيلما داردين الفائزان في الماضي يستحقان،
أصلاً،
هذه الجائزة الأعلى؟
من الناحية الإنسانية أجل بالتأكيد، فسينما الأخوين ومنذ اول فيلم
كبير عرّف
العالم بهما وهو «الوعد» بدا واضحا انهما يحققان سينما يمكن وصفها بسينما
النوايا
الطيبة والإحسان والنزعة الاجتماعية، ناهيك بأنها سينما واقعية بل متطرفة
في
واقعيتها ومسيحية اصيلة في مجال بعدها الأخلاقي والإنساني. بيد
اننا إن تخطينا هذه
الأطر – التي نعرف جيداً انها ليست شيئاً يسيراً وسط الفوضى الأخلاقية التي
تعمّ
عالم القيم والأنانيات والعصبيات المستشرية - قد يحق لنا ان نتساءل عما هو
جديد
سينمائياً حقاً في سينما تكاد تكون ابنة شرعية لواقعية
الخمسينات الإيطالية؟ وفي
مقابل المبررات الأخلاقية، الدينية تقريباً، التي تضع السينما الداردينية
في مقام
سامي، هل هناك مبررات سينمائية حقيقية من النوع التجديدي مفاجئة ومدهشة
تعبر هذه
السينما جاعلة منها، كما يليق بكل عمل فني كبير ان يكون، بداية
جديدة لفن كبير؟
نزاهة كلاسيكية
إن غلاة مناصري هذه السينما يصفونها عادة بأنها كلاسيكية نزيهة، بل إن
الذين
تحدثوا بإعجاب عن «الصبي ذو الدراجة» استفاضوا في التوقف المندهش امام «تجديدين
كبيرين» بديا في هذا الفيلم: اولهما استخدام ولو مقتصد للموسيقى، وثانيهما
استخدام
ولو معكوس لنجمة معروفة هي سيسيل دي فرانس التي – ويا للمفاجأة في رأيهم! -
نطقت
باللهجة البلجيكية الأم متخلية عن اللهجة الفرنسية المستعارة!
ترى، هل علينا هنا ان
نصدق ان تجديدين من هذا النوع يعطيان الفيلم قيمة اضافية تبرر فوزه بجائزة
لجنة
التحكيم الكبرى – شراكة مع تحفة التركي جيلان «حدث ذات مرة في الأناضول»
-»؟
طبعاً، نحن لا نريد ان نقول هنا ان «الصبي ذو الدراجة» لا يستحق
إعجابا او
تقديراً، غير ان الإفراط البادي فيهما وغالباً في أحكام مسبقة تقيس ما يجب
ان يكون
على ما كان، يضع هاوي السينما الحقيقي في حيرة وحتى بعدما يعيد مشاهدة
الفيلم على
ضوء فوزه الكبير بل على ضوء احتجاجات طلعت من هنا وهناك لعدم
فوز الفيلم بالسعفة
متغلباً على تحف مثل «شجرة الحياة» لتيرنس ماليك (الذي فاز عن جدارة مطلقة
بالسعفة
الذهبية) أو «ميلانكوليا» للارس فون ترير (الذي كان عليه ان يكتفي بجائزة
افضل
ممثلة نالتها كرستن دانست مع انه كان على الأقل جديراً بتقاسم
السعفة مع فيلم
ماليك، بيد ان هذه حكاية أخرى). ففيلم الأخوين داردين الجديد عمل متقن طيّب
يغوص
عميقاً في شخصيتي بطليه (الصبي ابن الحادية عشرة والفتاة الناضجة) انما من
دون اية
ادعاءات سيكولوجية او حتى محاولات لتفسير دوافعهما التي جعلت
لقاءهما ممكناً ثم
دائماً وطبيعياً. الصبي يقدم الينا منذ البداية حائراً غاضباً يريد العودة
الى ابيه
اذ وجد نفسه في مأوى للصغار وحيداً وقد تخلى عنه ابوه ورحل. كما اننا سندرك
بعد حين
ان الصبي، بقدر ما يريد استعادة ابيه، يريد أيضاً استعادة دراجته التي
سنعرف لاحقاً
ان الأب باعها لتسديد ديونه. لا يصدق الصبي سيريل ان اباه تخلى
عنه حقاً. فيطارده
في كل مكان يحتمل ان يكون موجوداً فيه. يهرب من المأوى ليبحث في الشقة ولا
يجده
طبعاً كما انه لا يجد الدراجة. عند تلك اللحظة يصطدم بالفتاة وهي حلاقة في
الحي
نفسه. تحاول الفتاة تهدئته وينتهي بها الأمر الى ان تشتري له
دراجته نفسها، ما يعيد
اليه شيئاً من هدوئه على متن الدراجة التي ستصبح مذّاك اهله وأسرته ولو الى
حين.
نحو النهاية السعيدة
ذات لحظة يطلب سيريل من الفتاة ان تستقبله في شقتها ايام العطل، فتقبل
لتبدأ
بينهما شبه علاقة امومية غير معلنة. اما الباقي من الفيلم فيدور حول تلك
العلاقة
التي اذ تضحّي هي من اجلها بصديقها الشاب الذي لم يعد قادراً على احتمال
ديناميكية
الصبي الغاضبة ونزواته وهوسه يخيرها بينهما فتختار الصبي(!). غير ان هذا لا
يبادلها
التضحية، فهو يتصرف وكأنه لا يزال يبحث عن ابيه او عن رجولة
ما. وهذا ما يوصله ذات
لحظة الى تاجر مخدرات شاب يحاول تحويله الى بائع مثله والى سارق. يندمج
الصبي في
هذه اللعبة لنكتشف انه اذ يحقق ربحاً من سرقة يقوم بها يذهب الى حيث يعمل
ابوه
ليعطيه المال املاً باستعادته لكن الأب يرفض الابن والمال معاً.
مهما يكن، فإن هذا كله سينتهي على خير. وحتى لئن كان الصبي قبل نهاية
الفيلم قد
سقط بالمعنيين الجسدي والأخلاقي معاً، فإنه سينهض من سقطته تحت رعاية معجزة
صغيرة
من ناحية، ورعاية الفتاة/الأم من ناحية ثانية. وتنتهي الأمور على ما يرام
في احسن
العوالم الممكنة.
تلكم هي في اختصار حكاية هذا الفيلم الذي يعدنا بعالم افضل كما الحال
في افلام
صاحبيه السابقة. غير انه في المقابل، وهذا امر لا بد من التركيز عليه من
جديد، لا
يستطيع ان يضعنا امام سينما جديدة حتى وإن كان متقن التصوير بديع الأداء
(ولا سيما
من ناحية بطله الصغير الذي قام بدور بالغ الصعوبة في ابداع
نادر) ما سيؤمّن له
بالتأكيد نجاحاً تجارياً كبيراً وربما مرفقاً ببعض الدموع - قلقاً في اول
الفيلم ثم
تأثراً وفرحاً عند نهايته -، وهذا ايضا دأب معتاد في افلام الشقيقين
البلجيكيين
الطيبين.
الحياة اللندنية في
03/06/2011
لو كنت في «كان»!
باريس – ندى الأزهري
كمن انقلب رأساً على عقب، يخرج المرء من القاعة المظلمة وتلزمه برهة
قبل أن
يستعيد أنفاسه. ينظر حوله ويتساءل على أي أرض وقع؟ يسير كما العابرين بصمت
في
المشهد ما قبل الأخير محلقاً فوق الغيوم، يرى مخلوقات لا صوت لها تتحرك في
كل صوب
وتطل عليه السماء بزرقتها الصافية من خلال أوراق الأغصان
الخضراء وتعود إليه مشاهد
لم تبرحه في الأصل.
«شجرة الحياة» رسمها تيرنس ماليك بعد انتظار طال، ليس مهماً إن كانت
حياته أو
طفولته، هي في مجملها أو في أجزاء منها صالحة لكثيرين، رواها لهم عنهم
بأسلوب قل
مثيله في عمقه وشاعريته. سيكون باهتا وصف هذا الفيلم كأي فيلم، حكاية
الحكاية،
القول أنه عن أسرة وعن علاقات أفرادها بعضهم ببعض، الأب الشديد
الحزم والأم الشديدة
الحنان والصبيان الثلاثة الأول والثاني على الأخص. سيكون عادياً وصف مشاعر
أم فقدت
ولدها... بيد أنه مع تيرنس ماليك لا شيء يعبر عادياً، سيناريو غير تقليدي
وإخراج
ملحمي وفيلم قصيدة تسمو بمعانيها على المتداول.
نواة الفيلم الحميمية، هذه المشاعر المعقدة لطفل تجاه والده، تجاه
أخيه... صاغها
ماليك وقدمها كما لم يقدمها أحد من قبل. في لقطة واحدة كان في وسع هذا
المخرج أن
يشحن في عيني الصبي بطله الصغير كل الرغبات الشريرة، الحيرة، الحب، والندم.
هذه
العلاقة الأبعد ما تكون عن البساطة التي تربط أب بأولاده،
تراوحها بين القسوة
والحنان، لم تفت ماليك شاردة فيها، لم يغفل إحساساً، كيف يمكن أن نحب ونكره
نفس
الشخص؟ ليس بالكلمات وحدها بل بمواقف لا يمكن أن ينتبه لها، يخطها، سوى
فنان
بعبقريته.
حكاية لم يحكها تيرنس ماليك متسلسلة، تنقل بين العصور ووصل بنا إلى
عصر الزواحف،
إلى تشكل الكون، إلى بدء الخليقة، سرح في طبيعة لا حدود لجمالها، لقسوتها
وجبروتها،
كالإنسان؟ كانت تعاليم الأب لابنه البكر المشجعة على التحلي بالقسوة للنجاح
في
الحياة، تقابلها تعاليم الأم بالحب والتسامح. والشعور المتردد
بكره الأب يقابله
شعور ثابت بحب الأم ومشاعر متناقضة تجاه الأخ الأصغر. لم يتوقف المخرج عند
قصته
العائلية فهي اندرجت ضمن مسألة لا تقل عنها تعقيداً، العلاقة مع الخالق،
ومع هذا
الموت الذي يفرضه على كائناته، فما هو الإيمان؟ رؤية ملحمية
للإنسان وللوجود
صاحبتها موسيقى تصويرية أضفت مزيداً من القلق، من الاضطراب.
لو كنت في كان... لكان من المحال بالتأكيد الكتابة في الحال عما
شاهدت، لهربت
الكلمة، لوقعت في حيرة أمام احترام ضرورات النشر، لوجدت صعوبة في رمي هذا
الثقل
الذي عبأ رأسي, هذه البلبلة التي عصفت بروحي.
لحسن الحظ لم أكن في كان، لكن في باريس، حيث عرض الفيلم أيضاً، وفي
الزمان نفسه
فكان استمتاعاً خالصاً بعيداً عن ضرورات النشر!
الحياة اللندنية في
03/06/2011 |