"أطالب
بأنسنة فيها عودة الى
الصوفية، بلا كنيسة أو راهب!". هذا ما يقوله المخرج الفرنسي الصادم برونو
دومون (1958)،
الهادئ دائماً في أحاديثه والغاضب أبداً في أفلامه، خلال لقاء له مع "النهار"،
تطرقنا فيه حصرياً الى علاقته بالله والايمان والروحانيات، أي كل تلك
العناصر التي تجتاز أفلامه الستة، وقد نال عن ثلاثة منها، جوائز رفيعة في
كانّ،
علماً ان مشاركته في الدورة الأخيرة اقتصرت على "خارج الشيطان"
المعروض في قسم "نظرة
ما".
·
أفلامك تولد من الصراع بين
عنصرين، عنصر مرئي وعنصر غائب!
-
أنا أبحث عن هذا الشيء باستمرار. الجميل في الحبّ انه مرتبط
بالغياب. تولد الرغبة
في داخلنا لأن الشخص الذي نحبّه غير موجود بقربنا. انها مسألة انسانية
معقدة جداً
تستحق التأمل. وكي نتأمل، علينا أن نحكي قصة، لأنها لا تزال الطريقة
الوحيدة التي
تجعلنا نفكر في قضية ما. في أفلامي لقاء مستمر بين الله والحبّ. اي اللقاء
بين شيء
مرئي يتغلغل في نفوسنا ويجعلنا نشعر بالألم، وشيء غائب. الله
بالنسبة إليَّ بمنزلة
مسرح. وعندما تفضي عملية حبّ الله الى نوع من فنّ مسرحي، فهذا جيد، لأنها
قد تجسد
اسمى ما في المشاعر الانسانية. الله عندي وهمٌ بوهم. لذا، اذا اقتصر حبّ
الله على
نوع من تمثيلية، فلا بأس، أما اذا كنت فعلاً مؤمناً بملكوته، فهذا شيء يثير
قلقي.
أفلامي تدين مَن يؤمن فعلاً بالله. في الحبّ الذي يكنّه بعض الأشخاص لله،
نرى عظمة
هذا الشعور. لكن، في الوقت نفسه نرى ان هذا الحبّ قادر على فعل عكس ما
يدعيه. الحبّ
المطلق خطر. كل شيء مطلق خطر.
·
مع كل جديد لك، تواصل التطرق الى
موضوع
الايمان. لماذا هذا الهاجس بالايمان اذا كان شيئاً لا يعنيك؟
-
اذا كان صحيحاً
أن اشكال التجسيد الايماني بعيدة مني، ففي المقابل أنا معني بمشاعر الحبّ.
أعتقد
انه يجب أن ندين اشكال الايمان التقليدية باعتبار انها متخلفة وقديمة. هذا
التطير
يجب ان يتبلور اليوم في اشكال أكثر انسانية. يجب ان نواصل
ايماننا بالحبّ، لكن
بعيداً من كنف الدين وسطوته. أكرر أن الناس الذين يؤمنون يرعبونني.
·
ألا تخاف
أن تنتقل الى المقلب الآخر من التعصب؟ فالالحاد المتزمت يعادل
الايمان
الاعمى...
-
لستُ متعصباً، بل على العكس، أنا أرفض التعصب تحت شعار حبّ
الله. لا
أفهم لماذا ادانة التعصب يمكن أن تتحول تعصباً؟ المتعصبون هم أولئك الذين
يعتقدون
انهم يمتلكون الحقيقة. لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة. أدعو الى التسامح
والى
الأنسنة والى وضع حدّ للخرافات. هذه الخرافات التي تجعل بعضهم،
وباسم الله، يخلطون
بين الحبّ والعنف. وهؤلاء كثر، على ما أرى من حولي...
·
بالفعل! هل تخيفك
الأصولية الدينية التي تلمّح إليها في الكثير من أفلامك؟
-
بالتأكيد. المثقفون
المتعصبون ينجحون في اعطاء تعصبهم دلالات ثقافية وسلسة، لكن
أكثر ما يثير خوفي هو
تزمت الطبقات الفقيرة والمهمشة والبسطاء من الناس الذين يمكن التلاعب
بعقولهم
بسهولة. الدين اختراع شعبوي. والسياسة اليوم متيقنة من هذا الواقع. في
أيامنا هذه،
يتكلمون كثيراً عن الاسلام، لكن المسيحية لم
تكن أفضل حالاً في تاريخها. هما سيان،
لذلك لا اضع الاثنين، أحدهما في مواجهة الآخر. فلنتذكر جان دارك وسان
بارتيليمي.
الايرلنديون الكاثوليك لا ينتمون الى مرحلة
بعيدة من تاريخ المسيحية. اما الحبر
الأعظم فهو بذاته وخطابه خطرٌ على المجتمع. لا يستطيع
المسيحيون ان يعطوا دروساً
للمسلمين. بالنسبة الى الانسان، التاريخ له معنى. فالذكاء الانساني يقتصر
على اعادة
تقويم الحدث على مستوى التاريخ واستنتاج الدروس منه.
·
أنت تدعو الى تحرير
العقل من الايمان الأعمى، والايمان الاعمى من المؤسسة الدينية...
-
بالضبط.
علينا فصل الايمان عن الكنيسة واستعادته في اطار انساني وروحاني. كل فرد
بحاجة الى
نعمة، لكن النعمة انسانية. المسألة ليست معقدة، النعمة موجودة في العلاقة
الغرامية
مثلاً.
·
تقول ان القداسة موجودة في كل
انسان. ماذا تعني بذلك؟
-
القدسية
موجودة في الانسان نفسه. يعتقد الناس ان كلمة قدسية مرتبطة بالدين، لكن هذا
غير
صحيح. القدسية هي الكمال المعنوي للانسان. هذه مصطلحات حرصت الأديان
المنظمة على
امتلاكها، والآن حان الوقت كي نسترجعها من جديد. يجب أن نكون
قادرين على استعمال
كلمة روح من دون ذكر كلمة الله من بعدها. طبعاً، لا أنكر ان الالحاد ليس
بالحلّ
الانسب امام سطوة الدين. فالملحد لا بدّ أن يشعر بالتعاسة، لأن حياته
الروحانية
معدومة. فنحن في حاجة الى الروحانيات. لكن الحياة الروحية يمكن
أن تتبلور في الاطار
الفكري أو الثقافي أو الفني. النعمة يمكن العثور عليها في السينما والأدب
والشعر.
الروحانية هي محرك الانسان. كل نشاط لنا هو
روحاني. والسينما أيضاً مكان ينبغي أن
نفكر فيه بحياتنا الروحية.
·
عموماً، كيف يولد الفيلم في
مخيلتك؟ ما هو العنصر
الذي يسبق الآخر في عملية المخاض؟
-
قد تكون قصة وقد يكون ديكوراً. أو حتى
رغبة. المناظر الطبيعية مثلاً تشجعي كثيراً على التصوير.
افلامي تنطلق دائماً من
مكان ما. انا في حاجة الى قوة الطبيعة كي أمنح المشاهد العادية عزماً
وبلاغة. من
برنانوس تعلمتُ أنه اذا نظرنا جيداً في العادي، فلا بدّ أن نرى سطوع الفوق
طبيعي.
نقد
نوري بيلغي جيلان يزور البوادي ولياليها الحالكة ويكلّل
بالجائزة الكبرى
لقاء في الأناضول حول سؤال واحد: ما هو الموت؟
الى البوادي ولياليها الحالكة يذهب نوري بيلغي جيلان لإنجاز جديده
الذي كان
منتظراً على أحرّ من الجمر قبل أن يُعرَض في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ
السينمائي حيث استحق الجائزة الكبرى مناصفة مع "الصبي ذو الدراجة" للأخوين
داردين. "ذات
يوم في الاناضول" يقدّم، مرة أخرى، مخرجه التركي باعتباره واحداً من "ذئاب"
الفنّ السابع وخليفةً لتاركوفسكي.
لجيلان ادراك وفهم خاصان بالزمن السينمائي،
وهو بذلك يقترب كثيراً من العباقرة الروس مثلاً، مع انه يتحلى
ايضاً بدقة النظر
وبالعين التي يمتاز بهما فنان من قماشة كيارستمي. هو الآتي من التصوير
اصلاً، حيث
تؤدي الكيفية التي تلتقط بها المساحات والكادر وانبعاث الضوء وتحريك
الأشياء في
الظلال والعتمة، دوراً مهماً في تشكيل الاطر البصرية لأعماله
التي لم ترض البتة
بالتنازل عن المستوى الذي انطلقت فيه منذ بداية تجربة، أقل ما يمكن القول
فيها انها
تخرج من الدرب الاعتيادي للسينما التركية في العقدين الأخيرين.
والحقّ ان جيلان
تركي الولادة والاقامة والمشغل والهمّ، لكن سينماه تنحو الى جعل الموضوعات
والشخوص
المختارة تبدو أكثر قرباً الى "العالمية" منها الى التأصل في بيئة تركية
بعيدة من
كل انفتاح على العالم. لكن، بسحر ساحر، يعرف السينمائي الكبير كيف يجعل كل
ما يصوره
ذا جذور وامتدادات في الأرض التي يغرس فيها كاميراه. ملحمته
هذه التي تمتد على
ساعتين وثماني وثلاثين دقيقة، تضعنا في قلب فيلم يحمل في أول مشاهده
التشويق الخاص
بالفيلم البوليسي. لكن ما نعتقده اجراء بوليسياً وتحقيقات وحبكة، سيتبين
انه حجة
لأخذنا عبر دروب الأناضول المتعرجة واجراء رصد نفسي لشخوص
ترتسم من خلالهم ملامح
بلاد بأكملها.
يقحمنا جيلان في رحلة يصورها كأمير عاشق، عاملاً بمنطق المعالجة
البطيئة التي تثمر منها سينما ذات عمق انساني: لقطات طويلة ومدروسة لجانب
الخطوط
التي تسلكها الكاميرا؛ كادرات ذات جمال سخي تنم عن حسّ بصري
عال جداً حيث تحار
العين أين ينظر. يغرقنا الفيلم طوال نصفه الأول، في ظلام شبه دامس، في
مطاردة لموت
لا يحتاج الى أن يكون كي يفرض علينا رائحته. ولا نرى حقل الصورة الا من
خلال ما
يتيحه لنا الضوء المنبعث من السيارات. فكرة سيناريستية تتحول
عند السينمائي العاشق
استعارة بديعة لصراع النور والظلمة. يعمل النص على تهذيب التضاريس
الدرامية، فيهمس
الفيلم كلامه همساً، علماً ان الحورات هنا أكثر مما هي عادة في أفلام
جيلان. لكن
السكون يحتل حيزاً لا بأس به في الفيلم الذي يذهب، في بعض
فصوله، الى نوع من
شاعرية، وحده جيلان قادر على اعطاء معنى لها في سياق الحوادث التي يريدنا
أن
ندخلها. وهاجس البحث يطول الى أن يتحول هاجساً للمشاهد نفسه!
بعد فترة معينة من
بداية الفيلم، نعلم أن كل ما يريده رجال الشرطة الذين يصطحبون معهم رجلين
يعتقلانهما، هو معرفة المكان الذي دفن فيه المجرم جثة الشخص الذي قتله. من
خلال هذه
الحجة الروائية التي تشغل (على رغم كونها حجة) المخرج طولاً وعرضاً وكذلك
المشاهدين، نتعرف الى شخصيتين أساسيتين: الموكل العام الذي
يقوم بعمله من دون أن
يطرح على نفسه تساؤلات كبيرة، والطبيب الشرعي الذي يرافقه، وهو الشخص
الوحيد ضمن
المجموعة تعتمل في نفسه الشكوك. الاثنان سيلتقيان عند سؤال واحد: ما هو
الموت؟
بيد انه، ينبغي عدم الاعتماد على الفيلم ونمطه المينيماليّ ليأتينا
بأجوبة عن
القلق الكبير الذي يعبر العمل منذ تلك اللقطة الجامدة لزجاجة متسخة وصولاً
الى تلك
النافذة التي ينظر عبرها الطبيب الى أطفال يلعبون في باحة المستشفى. وبين
اللقطتين،
صعود الى القمر من خلال غنائية سينمائية مصيرها مجهول على طرق
الأناضول النائية.
شاعر السينما التركية المعاصرة، يضع كاميراه أمام قساة حرقت المهنة
ضمائرهم، لكن
عظمة السينمائي الفذ هي انه سينتظر تلك اللحظة حيث ستصبح أرواحهم شفافة
ونفوسهم
مستعدة لتلقي لعنة الشكّ ووجوهم ملطخة بقطرات دمّ.
وككل سينمائي كبير يدرك ما
هو عليه، يبتكر جيلان مناخات تلتحق بالسينما الكبيرة، في منتصف
الطريق بين
أنطونيوني وانغلوبولوس، ولا مبالغة في المقارنة! عالم يتحكم بكل تفاصيله
البعيدة
والقريبة. لا أحد مثله يعرف كيف يبدع المشاهد بهدير محرك في وسط فراغ مرعب،
او كيف
يثير الهلع بدويّ رعد وهطول مطر ونباح كلب. يلتقط جيلان مرور
الزمن، منوعاً في
الأساليب. حيناً ينغمس في واقعية نجد جذورها في بعض الأفلام الايطالية
القديمة،
وحيناً آخر في سينما رومنطيقية لا تنفك تتحول تراجيدية. وسرعان ما يغلب
الطابع
الوثائقي على الفيلم، لا سيما ان المخرج لا يتوانى عن اللجوء
الى مفرداته، ايقاعاً
وحس مراقبة ودقة. لكن، هناك دوماً حضور طاغ لعظمة البصيرة والتشكيل الذي
تنتج منه
لقيات سينمائية مثل لحظة انقطاع الكهرباء ووصول الفتاة بفناجين الشاي الى
الرجال
المتعبين.
واذا كان الفيلم يلعب على أنواع سينمائية عدة، فالنوع الذي يغدو
استراحة محببة بعد أن يكون قد حبس أنفاسنا، هو ذلك الذي يأتي بعد العثور
على الجثة
وكتابة التقرير ومحاولة ادخالها الى صندوق السيارة. هنا سيخطر
في بال الموكل العام،
وهو يملي التقرير على المفوض، أن يشبّه نفسه بكلارك غايبل. الطرافة، عند
جيلان، قد
تكون ايضاً موجهة الى الذات، الى ذات المخرج، في محاولة للنيل من هيبتها،
لا بل
ربما الى تدمير تلك الهيبة، كما هي الحال مثلاً في الطرافة
التي تنتج من الحوار بين
الشرطيين. يقول الأول بعدما سئم من البحث عن الجثة: "هيا بنا لنعطي معنى
لهذا كله".
يأتي الردّ على النحو الآتي: "نحن هنا نموت من الضجر!". ليست مصادفة اذا
كانت
الرحلة بأكملها، حيث المسكوت عنه أكثر من الكلام المباح، تنتهي في مشرحة
احد
المستشفيات حيث طبيب (الشخصية الأقرب الى وجهة نظر المخرج)
يتولى "انهاء" الفيلم.
احذروا التفاصيل، فما يخفيه جيلان يعادل ما يريه.
(
hauvick.habechian@annahar.com.lb)
خارج الكادر
لارس والمطرقة!
في هذه الأيام، بات لارس
فون ترير أمام موقفين لا ثالث لهما: إما انه يبتهج، وهو في
منزله الدانماركي،
باعتبار ان كرة النار التي رماها في كانّ لا تزال تتدحرج ويحرق لهيبها
حيثما يحلّ،
وإما انه يهيئ نفسه لأجل التواصل مع نائب وزير الثقافة الايراني الذي اعلن
دعمه
المطلق له. ذلك أن آخر حصن للثقافة والفكر والفنّ في أوروبا،
أي محطة "آرتي"
الفرنسية الألمانية، أعلنت، بعد 15 عاماً من التعاون بينهما، انها لن تشارك
بعد
الآن في تمويل أفلام مخرج "راقصة في الظلام" ("سعفة" 2000)، بعد كلامه عن
"تفهمه
لهتلر" الصادر منه في مؤتمره الصحافي في كانّ. في حرب المواقف هذه، ثمة
عبثية من
النوع الذي يحرّك التماسيح النائمة: في حين يساند نظام كالنظام الايراني
مخرجاً
أجنبياً ويمنع سينمائيين ايرانيين من العمل لأسباب وحده أحمدي نجاد يستطيع
تبريرها،
تسقط محطة عظيمة ينطوي خطابها الثقافي على قيم التسامح
والحرية، في امتحان التهمة
الجاهزة باللاسامية التي بات الكثيرون يتضايقون منها، لكن "على السكت"، في
بلدان
ترتفع فيها جدران للفصل العنصري بين ما يُقال وما لا يُقال!
لا شكّ في أن فون
ترير اساء الى نفسه من خلال اثارة قضية كان في غنى عنها، ثم اعتذر وتراجع
عن تلك
الزلة اللعينة التي كانت في نهاية الجولة نابعة من سوء استخدام لسلطة
الكلمة في
مكان عام. فون ترير اطلق نكتة، مازح مزاحاً ثقيلاً، في قضية لا
يزال التطرق اليها
يحتاج الى قفازات من مخمل، هذا كله في قارة تريد طرد أشباح الماضي التي
تثقل على
ذاكرتها وضميرها. بالنسبة الى الغرب، هذه قضية مبدئية لا يجوز المساس بها.
كل
محاولة لتفكيكها وتحجيمها تشكل خطراً على ديمومة القضية وتزعزع
ماهيتها أمام
الأجيال المقبلة. لكن الفنّ لا يكتفي بالمعطيات الجاهزة، فهو يريد ان يسأل
ويبحث
ويعيد النظر. فما بالك اذا كان الباحث مستفزاً من طراز فون ترير؟
أهان فون ترير
نفسه أكثر مما أهان ضحايا المحرقة. فلو بقي مصراً على ما قاله عن تفهمه
لهتلر وكونه
نازياً، واعتبر انه ليس على المرء أن يعتذر عن نكتة خرقاء جاءت في غير
محلها، لأنها
ليست سوى نكتة، لكان ربما خسر العالم السينمائي من حوله (مخرج
مثله أنجز الروائع
عليه ان يقول لهذا الوسط في هذه الحالة: "الى الجحيم!")، لكن كان ربح نفسه.
بيد
انه، في لحظة، وفي لحظة سريعة وخائبة، عاد فيها كبير المستفزين الى المنطق
والحسابات، وفضّل مستقبله المهني على كل شيء آخر، فكان
الاعتذار الذي لم يلق آذاناً
صاغية، وكانت الاهانة الكبرى والخسارة التي لا تعوض بألف فيلم. هنا يجب
ربما أن
نذكر أن اتهام فون ترير بالنازية والعنصرية، ظالم، لأن الرجل كان يدين في
عام 2005
تولي اليمين المتطرف والنازيين الجدد السلطة في بلاده
الدانمارك.
أمام هذه
الحادثة التي كانت أسعدت كانّ، لو لم تُلفظ فيها كلمتا "يهود وهتلر" ضمن
جملة
واحدة، أخفقت ادارة المهرجان في الامتحان الأصعب، لأنها لم تجد المَخرج
المناسب
لعدم شرشحة سينمائي حل ضيفاً على المهرجان وله فيلم في
المسابقة. تصرفها بدا أقرب
الى العدوانية والقصاص المدرسي منه الى تصحيح مهانة وُجهت من على منصة ثاني
أكثر
حدث يُغطى اعلامياً بعد كأس العالم.
بدا واضحاً ان هذا التصرف النابع من ارتباك،
ينم عن ضغط معين مورس على المسؤولين في كانّ. ولو لم يكن كذلك، فهو يوحي
بذلك. فما
يميز المهرجان كونه منبراً لمناقشة كل الأفكار، من أكثرها بلادة الى أكثرها
تضمناً
لايديولوجيات مشبوهة. وهذا هو العنف بذاته: أن تصادر الكلمة، مهما بلغت من
الانحطاط، بلكمة في الوجه!
بعض الأقلام أصرّت على أن فون ترير يتلقى عقابه
لتعرضه لاسرائيل التي وصفها بالبلية. لكن، ينسى المصرون على
هذه النظرية ان مخرجين
كثراً أعلنوا مواقفهم الصريحة من اسرائيل (كين لوتش، مثلاً) وعلى الرغم من
ذلك،
عادت أفلامهم لتسلك درب المسابقة. ناهيك بأفلام أسرائيلية لم تكن تريد
دوماً الخير
لصورة اسرائيل ولجيشها ومنظومتها السياسية. وماذا لو كانت
المسألة في مكان آخر؟
ماذا لو كان المحرّم يتجسد في كل محاولة لاعطاء هتلر انسنة ما، وهذا ما كان
يجرب
فون ترير فعله، عندما تمتم كلمات تذهب الى هذا الاتجاه في مؤتمره الشهير؟
فعلى
الفوهرر أن يبقى وحشاً كاسراً، وليس غير ذلك، في المخيلة
الأوروبية! لكن الأفظع انه
فيما طُرد فون ترير من الكروازيت، كانت السجادة الحمراء تُفرَش أمام
الكاثوليكي
المتعصب ميل غيبسون، الذي ينام على تاريخ من معاداة السامية والعنصرية
البدائية.
اعتدنا فون ترير صاحب لسان سليط يسبق تفكيره أحياناً. لكن أمام عبثية
هذه
المهزلة التي فلتت من يد الجميع، بعد سبعة عقود من انتهاء الحرب في أوروبا،
لا يبقى
له الا أكثر الحلول راديكالية، وهو أن يستل المطرقة وينهال بها
على رأس الصحافة،
مثلما فعل ذات يوم في فيلمه القصير ضمن مجموعة "لكل سينماه"، التي عرضت،
ويا
للغرابة، في أرض لم تعد تراه حليفاً، بل عدواً.
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
02/06/2011 |