"أرواح صامتة" لألكسي فيدورتشينكو، الذي استعاده
مهرجان أبو ظبي بعد عرضه في مسابقة الدورة الأخيرة من مهرجان
البندقية، من الأعمال
التي يمكن مشاهدتها مرات عدة، وذلك للثراء
الفكري والتقني والمشهدي الذي يجعل العمل
يحلّق عالياً في سماء الفنّ السابع. يمكن مشاهدة الفيلم مرة للاطلاع على
تفاصيل
الحكاية، ومرة ثانية، للاستمتاع بجمالية شكلانية تعيد الى الاذهان لحظات
كبرى من
تراث السينما الروسية، علماً ان الفيلم ابن عصره ولا يلتفت الى الخلف، سوى
في مشهد
واحد، حين تستدير الكاميرا ضمن حركة دائرية، منتقلة من مقدم السيارة الى
خلفها،
عاكسةً العقلية التي شيِّد عليها الفيلم برمته: صعوبة الخروج من الماضي.
هذه
السيارة تتيح لبطلي الفيلم التنقل من مكان
الى آخر، وتجعلنا نجتاز طبيعة روسيا
الخلاّبة في فيلم هو أولاً وأخيراً تمجيد
للحياة من خلال الموت. النصّ براديكاليته
العالية، يقتفي أثر الروح السلافية التي لولاها لما كان من الممكن صناعة
مثل هذا
الفيلم. فيدورتشينكو متيقن من هذه الحقيقة، ذلك ان عمله مشبع بتلك الروح
التي ميزت
مئات الأفلام عن غيرها كانت ولدت في أمكنة متفرقة من العالم. مع ذلك، لا
يمكن احالة
الفيلم على مرجعية معينة، كونه اصيلاً في مفهومه وفكرته، وطريقة طرحهما،
ولا يغمز
من القنوات السينيفيلية المعتادة، الشيء الذي صار الشغل الشاغل للكثير من
السينمائيين الشباب.
انه فيلم طريق اذاً، لكن لا لقاءات على الدرب مع هذا أو
ذاك. لا يحتاج الفيلم الى أكثر من رجلين وجثة أمرأة في المقعد الخلفي
للسيارة كي
نبقى مسمّرين أمام الشاشة. لكن ما نراه هو أشياء بسيطة تجعل الفيلم قصيدة
تتخطى
الزمن الحقيقي للحوادث الى أزمنة أخرى. هكذا يعمل المخرج، بمنطق المحو
التام
للاستعراض البصري المكلف، مطلقاً العنان لمخيلة خصبة ومجنونة يستعين بها
لاختراع
جماعة واطلاق تسمية المرجا عليهم. وفق تقاليد هذه الجماعة غير الموجودة في
الواقع،
سيحرق احد بطلي الفيلم الذي نتعرف اليه في سياق التطور الدرامي، جثة زوجته
المتوفية، بعد أن يعتني بالجثة بحسب الأعراف المتبعة في تلك الجماعة. هذه
المساحة
المتخيلة من الفيلم، تصبح قابلة للفهم ما ان نتذكر أن فيدورتشينكو سبق أن
أنجز
وثائقياً كاذباً عام 2005، عنوانه "أوائل على القمر" يروي فيه، من خلال
شهادات
زائفة، أن الروس كانوا الاوائل في الذهاب الى القمر، عام 1930. هذا الميل
عند
مخرجنا الروسي الشاب في الوصول الى حقيقة ما من خلال الكذب (ألم يقل جان
كوكتو إن
السينما كذبة تقول الحقيقة؟) لا يوازيه الإ العبور الذي يقوم به الفيلم من
الجسد
الى الجثة، ذهاباً واياباً، لتخليد الحياة.
هذا التناقض الخلاّق تقابله صرامة
روسية عتيقة في طرح الحوادث القليلة. هنا لا مزاح ممكناً، الوجوه تقول ما
تقوله عن
مأساتها وفراغها، ولا يفعل المخرج الا فلسفة هذه الوجوه ضمن تقنية تصويرية
ترتكز
على اللقطات الطويلة والثابتة. يحاول فيدورتشينكو الامتثال الى عبثية ما،
قفشة من
هنا، ومحاولة للخروج على الحبكة من هناك، لكن راديكاليته تعيده الى الطريق
المستقيمة. حتى العصفوران اللذان يرافقان الرجلين الحزينين في جولتهما
التلقينية
والروحانية لا يستطيعان اضفاء روح الدعابة التي يكاد ينزلق فيها الفيلم،
لكنه يعود
عنها في اللحظة الأخيرة.
تانيا، المرأة المتوفية، هي القاسم المشترك في الفيلم
بين رجلين ينظران الى الماضي بخفي حنين. وهي المرأة الجثة التي تنكأ الجراح
وتضع
كلاماً كثيراً في الأفواه، بغية "معانقة" حقبة من تاريخ روسيا الحديث،
وتعيد
الذكريات الأليمة الى الاذهان، مرة أخيرة قبل اندثارها، في محيط النسيان
الاولي،
شأنها شأن الرماد الذي تصيره تانيا. وهي خاصة وخصوصاً، المرأة التي ستجبر
الرجلين
على العودة الى الطبيعة التي سيعبرانها بلامبالاة تامة.
على صعيد الشكل، يأتي
الفيلم بمعالجة بصرية تسحق القلب. كل لقطة
اشبه بلوحة معلّم، مع التذكير بأن هذه
الجمالية لم تكن هدفاً بذاتها، أي انها لا
تجرؤ في اي لحظة من اللحظات، على الخيار
الاستعرائي. عوضاً من الاتيان بمعلومات عن البيئة المرصودة، يفضّل المخرج
أن يقدم
فيلماً تأملياً اداته الأساسية الصورة. لم يخطئ رئيس تحكيم مهرجان البندقية
كوانتين
تارانتينو وزملاؤه في اللجنة عندما منحوا هذا الفيلم جائزة أفضل مساهمة
تقنية لمدير
التصوير ميخاييل كريشمان (حاز ايضاً جائزة "فيبريسي")، فأسلوبية التصوير
التي، وإن
كانت لا تختلف كثيراً عن "مرآة" تاركوفسكي، تتناغم مع التعليق
الصوتي العاطفي الذي
يصاحب الشريط. باختصار، فيدورتشينكو موهبة
كبيرة نأمل ان تتوافر له الظروف
الابداعية والتمويلية للصعود نحو قمم
سينمائية عالية.
"سند"
جديد للسينما العربية
لا يكتفي مهرجان أبو ظبي
بعرض الأفلام والتحول "فيترينة" لها، بل
يدخل مجال الوقوف خلف السينما من خلال
تخصيص صندوق دعم يساعد السينمائيين الشباب في إنجاز أعمالهم واصطياد ما
يعتقد انه
مستجد ومثير من تجاربهم. هذا الصندوق الذي بات يُعرف اليوم باسم "سند"، وضع
في تصرف
السينمائيين العرب، بدءاً من هذه الدورة، نصف مليون دولار في
خدمة مشاريع مختلفة،
شرط أن يأتي من واحد من البلدان العربية
الإثنين والعشرين. أما الشرط الآخر، فهو أن
تشارك في الاستثمار شركة انتاج من داخل البلد المعني بالمشروع. يصل الدعم
المالي
الى عشرين ألف دولار لفئة "بلورة فيلم"، والى ستين ألف دولار لإتمام عملية
التوليف
والميكساج، أي كل ما يتعلق بمرحلة ما بعد التصوير.
تحت الخيمة المنصوبة في
محاذاة قصر الامارات، يجتمع طالبو الدعم
والمال، الذي تراوح أعمارهم بين منتصف
العشرينات والخمسينات، على مدار الساعة،
ويلتقي بعضهم البعض الآخر، والحديث يدور
غالباً حول الأحلام السينمائية المعلّقة، التي باتت اليوم رهينة هذا الجزء
من
العالم، الخليج، حيث ارادة غريبة وناشئة في حمل راية السينما. فالمهرجانات
الخليجية، من دبي الى الدوحة مروراً بأبو ظبي، بعدما كثرت واحتدمت المنافسة
المعلنة
وغير المعلنة بينها، باتت في حاجة الى أفلام عربية تعرضها، والحلّ الوحيد
هو مرافقة
مشاريع فتية، لا تجد سبيلاً متوافراً امامها، دعماً وتمويلاً. طبعاً، هؤلاء
الأطراف
يضربون عصفورين بحجر واحد؛ من جانب "يخطفون" الجزء الأكبر من السينما
العربية
ويضعونه تحت رعايتهم، ومن جانب آخر، "يتملكون" أهم ما في السوق.
نحو 28 مشروعاً
سينمائياً في جعبة "سند"، بعضها لمخرجين
مكرّسين (محمد ملص) وبعضها الآخر لمبتدئين
يقومون بخطوتهم الأولى خلف الكاميرا، علماً ان التجارب الأخيرة أثبتت، أن
جزءاً
كبيراً من جيل السبعينات، سواء في سوريا أو لبنان أو مصر أو الجزائر أو
المغرب، سقط
أمام نظرة الشباب الأكثر نضارة وحداثة للسينما. من الأفلام التي ستحظى
بالدعم وباتت
في المرحلة النهائية، هناك ثلاثة من اخراج المغاربة فوزي بن سعيدي وليلي
كيلاني
وكمال الماهوتي. بالاضافة الى المصريين تامر السعيد وصفاء فتحي.
بعد فيلمين
أثبت من خلالهما انه واحد من الآمال
الكبيرة للسينما المغربية، يموضوع بن سعيدي في "موت
للبيع" حوادث فيلمه الجديد في مدينة تطوان المغربية، ملاحقاً يوميات ثلاثة
فتيان يتعاطون السرقات الصغيرة، الى أن يأتي يوم يضيقون فيه ذرعاً، فيقررون
سلب
أكبر محل للمجوهرات في المدينة. لكن، لكل واحد سبب للسرقة يختلف عن سبب
الآخر، وغني
عن القول، انه في مثل هذه الظروف، لا تنفك تبدأ الصراعات وتتناقض المصالح.
شمال
المغرب، هو أيضاً المنطقة التي تضع فيها
كيلاني، من خلال شخصية باديا، المرأة
الطموحة الحالمة. مدينة طنجة حيث الأحداث
بالغة الأهمية بالنسبة الى النص، اذ تقول
المخرجة: "المنطقة الحرة الواقعة على ساحل المحيط الأطلسي جنوب طنجة بمنزلة
رمز
لسوء التعامل العالمي. انها أوروبا على الأرض المغربية، على الأرض
الأفريقية.
المنطقة الحرة مقفلة، موجودة لكن لا يستطيع دخولها سوى من يملك اجازة عمل.
أما
المغربي الثالث في اطار المستفيدين من "سند"، كمال الماهوتي، ففيلمه "عن
الصراعات
الداخلية والصعوبة في أن يكون المرء فرنسياً، عربياً ومسلماً
في آن واحد، في أيامنا
هذه". في مقابل هذه الشكوك المزمنة حيال
الهويات في منطقة المغرب العربي، يبدو
المخرج المصري الشاب تامر السعيد منتمياً الى مدينته القاهرة اذ يهدي اليها
باكورته
الروائية الأولى. "أنجزتُ "في آخر أيام المدينة" حباً لمدينتي لكنه أيضاً
لأظهر
تناقضاتها: عنفها المتصاعد وسحرها المراوغ، وأيضاً حكاية صمتنا
تجاه مشهد مدننا
المستعمرة على يد القمع والجهل والتطرف. في
القاهرة، شأنها شأن كل المدن الشرق
أوسطية، نعرف انه لا يمكن ان تستمر الحال
على ما هي عليه، وان النهاية قريبة وقد
تكون عنيفة". دائماً من مصر، لكن في فئة
الوثائقي، هناك فيلم لصفاء فتحي عن أخيها
المصاب بداء.
(
hauvick.habechian@annahar.com.lb)
إيليا سليمان رئيس لجنة وسينمائي مستعاد
فكرة الظلم
وحدها أرض خصبة لإيليا سليمان، رئيس لجنة
تحكيم مسابقة "آفاق جديدة" في الدورة
الحالية من مهرجان أبو ظبي الذي يستعيد أيضاً افلام هذا المخرج الفلسطيني،
ذلك
القليل الذي أنجزه في العقدين الأخيرين. سليمان يتنقل دائماً بتكثيف خلاّق
بين
الشخصي والجماعي، ويسعى الى خلق إمكانات توصل المساحة الشعرية الى نوع من
دمقرطة،
يستطيع المشاهد من خلالها ان يتشارك عملية انجاز الفيلم على النحو الذي
يراه، وليس
فقط بالشكل الذي يريده المخرج. "السينمائي يخطئ بالاعتقاد انه يلتقط ما
يدور امامه
من حقائق، لسبب انه يصوّب الكاميرا الى مكان، بينما تكون
الحقيقة احياناً على بعد
سنتيمترات من ذلك المكان"، كان يقول لنا
بعد لقائنا به للحديث عن "يد إلهية"، عام 2002.
مع "الزمن الباقي"، فيلمه الثالث، الأنضج لكن ليس الأكثر أهمية، يواصل
سليمان
هذا الهم، وإن بوحي أقل (الأم بدلاً من الأب)، مصرّاً على
سينما ذات وظيفة أخلاقية،
دافعاً بالعدو التقليدي الى خارج الكادر،
كاشفاً عن صورة أخرى له أقل ارتباطاً
بالذاكرة الجماعية العربية.
يتيح سليمان في سينماه مجالاً لأسئلة كثيرة: ما مدى
إمكان تصوير شريط سينمائي في ظل الاحتلال؟ ما صعوبة تسجيل واقع معقد على
مادة تلتقط
تفاصيل الحياة بأشكالها وألوانها؟ كيف يمكن ان تتحول هذه المادة "وثيقة
سينمائية"
ما دام صاحب النظرة أو العين اختار مسبقاً معسكره؟ ما احتمالات النجاح
الجماهيري
عندما يأتي العمل الخلاّق معاكساً للتيارات السائدة والمتمثلة في شعارات
فارغة
وبلهاء لا تؤخر ولا تقدم؟ أيّ من الكتابات السينمائية والخيارات الجمالية
هي
الحريصة على نقل "الحقيقة" من خلال يوميات تؤكد ان الحياة مستمرة على رغم
كل
شيء؟... لن يجيب سليمان، هذا الجندي الصامت، عن هذه الأسئلة، الا ايماء
وايحاء،
عملاً بمقولة "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب"، وعلى غرار ممثل من
زمن
السينما الصامتة، سيغوص أكثر وأكثر في جذور الفن السينمائي خالقاً مساحة
شعرية بينه
وبين المشاهد، ومستخدماً عوامل الضحك والفكاهة والسخرية والكوميديا السوداء
اللاذعة
كحزام أمان يخوّله عبور الحواجز الابداعية بكل اطمئنان. معه، لدينا دائماً
الاحساس
بأننا لا نعرف أين يبدأ الواقع وأين ينتهي الخيال. ثم نتذكر هذه المقولة
الشهيرة
لغودار: الواقع الفلسطيني وثائقي والواقع الاسرائيلي روائي. "انطلاقة
الروائي عندي
هي الواقع في أغلب الاحيان. استنبط دائماً من قصص وأحياناً من قصص لا
اعيشها بل
تروى لي، لكني اتبنّاها على اثر تعاطفي معها. أبني على اساس هذا المعطى. لم
يكن
الخيال يوماً مطابقاً للواقع، لأن هناك ما يسمّى البُعد السينمائي، ونشكر
الله على
ذلك، لأنه لا حاجة أن نصنع سينما اذا كان الهدف الذهاب من واقع الى واقع.
وعلى
المشاهد أن يقرر اذا كان ما يشاهده لحظة حقيقية أم لا. هنا تتدخل قدرتك
كفنان في
التعبير عن نفسك استناداً الى البُعد السينمائي. أنا لي طريقتي، ولا ألغي
أحتمال أن
يكون هناك طرق أخرى".
داوود عبد السيد: بتعمل ده ليه؟
ضمن مسابقة "آفاق جديدة"، عرض المخرج المصري
داوود عبد السيد، فيلمه الجديد "رسائل البحر". هنا بعض من خواطره عن
السينما ومصر
والذوق العام:
"تخرجت من معهد السينما في قسم الإخراج، وليس في
قسم السيناريو.
لكن كنا ندرس معالجة السيناريو. بعد تخرجي بشهرين، بدأت
بالكتابة لمجرد انني كنت
أنوي القيام بعمل ما. في تلك الأيام لم تكن
الكاميرات الرقمية الصغيرة متوافرة بعد،
لذا لم تكن هناك وسيلة لعمل شيء سوى الكتابة. خلال عشر سنين كتبت من أجل
متعة
الكتابة، وكانت قناعتي الشخصية انني إذا لم استطع القيام بشيء مختلف عن
المتوافر،
فلا داعي لوجودي في السينما. لذا، كان ذلك نوعاً من التحدي والاختبار إزاء
نفسي.
ففن الرواية مرتبط بتقاليد السينما المصرية، بمعنى ان السينما المصرية هي
سينما
تجارية، وتصنع الأفلام طمعاً في الحصول على مردود، تالياً يجدر بها ان تجذب
المشاهد
من خلال القصة. المشكلة في المجتمع المصري انه دولة مركزية قديمة، نتيجة
وجود نهر
النيل. بلدنا زراعي، ولأجل التحكم بمياه النيل، يجب ان توجد مركزية في
الحكم، وكون
مصر دولة مركزية منذ آلاف السنوات، فإن السلطة فيها قوية جداً. وهذا ليس
بأمر سيئ
لأن السلطة والدولة أمران مهمان. لكن عندما تجد نفسك في ظل أنظمة غير
ديموقراطية،
فإن السلطة تصبح متهمة، بأي شيء، وفي بعض الأحيان متهمة بالفساد. بالإضافة
الى انه
في كل أفلامي هناك رفض للسلطة او تمرد عليها. ويجب ان نعترف في النهاية
بأنه يجب
على السلطة ان تكون قوية ولكن عادلة. في مصر مجتمع مدني ومجتمع ريفي. في
المدينة
فسحة أكبر للحرية، اذ انك تستطيع التسكع في شوارعها كيفما يحلو لك. في
المدينة
تتصرف، تحب، وتصادق كيفما تريد، على عكس الريف حيث مفهوم القبيلة، والكل
مسؤول عن
الكل. لهذا الأمر جانب ايجابي وجانب سلبي. الإيجابي أنك في الريف لا تجوع
حتى ولو
لم يكن لديك المال. والسلبي ان تأثير الريف على المدينة لا يزال موجوداً.
في
الأماكن المحافظة على سبيل المثال، لا يسمح للفتاة بأن تزور أصدقاءها
ليلاً. وهذا
شيء ضد العصر وضد التطور، وضد المدنية. انا ضد هذا التدخل. هذه التصرفات
ممكنة في
المجتمع القروي، لكن في المدينة لا تستطيع ان تأتي وتقول: "بتعمل ده ليه؟".
انا
أرغب في مجتمع مدني يصل الى التقدم، يكون المرء فيه مسؤولاً عن نفسه، حيث
علاقته
بالآخرين علاقة قانون لا علاقة وصاية.
في مصر حصل انهيار للطبقة الوسطى
المحافظة على الثقافة، والفن، والتقاليد، والأخلاق. وضربها يعني ضرب
الطبقات كافة.
ما حصل في مصر هو ان الطبقة الوسطى أفسدت، اذ انها أصبحت غير قادرة مادياً
بسبب
الإعلام والتلفزيون. هناك انهيار ثقافي في مصر وأيضاً في المجتمع العربي.
يقال ان
على الفن ان يكون أخلاقياً. ليس للفن علاقة بالأخلاق! والأخلاق أمر يخضع
للتعديل
باستمرار. عندما نضع الفن في قوالب كهذه، فذلك يعني اننا نرغب في قتله. انا
لست ضد
اي ذوق، ولكن ضد ان يكون هناك فقط ذوق واحد، وان تختصر السينما في أفلام
كوميديا،
وان تنحصر الأغاني بأغاني عمرو دياب. اما المسرح التجاري فأصبح للعرب الذين
يأتون
لتمضية عطلة الصيف.
سينما المؤلف تعبّر عن رؤيتك للعالم والحياة. في ما يخصني،
إذا كان أمامي احتمالان: الأول ان يعرض فيلمي في صالة فارغة، والثاني ان
يعرض في
صالة مليئة، أختار الاحتمال الثاني. لذا، رغبت ان أنجز فيلماً ليعبّر عن
رؤيتي ويتم
عرضه في صالة مليئة. دائماً أسعى الى فيلم جذاب، ممتع، من دون ابتذال على
الإطلاق،
ولا يكون فيه تنازلات فنية".
خارج الكادر
عودة الى راحلين
أدار شابرول في
أفلامه ممثلات عديدات، تبقى أهمهن ستيفان
أودران المثيرة للريبة. صوّر معها 25
فيلماً بين عامي 1964 و1980! كانت ملهمته
على الشاشة وزوجته في الحياة. لكن تعاونه
مع ايزابيل أوبير أقحمه في مجالات سينمائية جديدة غير مظنونة. بعد اطلاقها
في "فيوليت نوزيير" وحصولها على جائزة التمثيل في مهرجان كانّ عام 1978،
لم تلتق
طريقهما عقداً من الزمن، قبل أن تتحول أوبير لتصير الرمز
النسائي الجديد لسينماه مع
"قضية امرأة" (1988)، اذ كان يصوّرها بعطف كثير،
معتبراً اياها كإبنته، لكن من دون
الاذعان الى منطق نسوي بليد (على رغم ما اتهم به). سبعة أفلام هي في
المحصلة ما
سينجزانه معاً، في إنتاج يتسم دوماً بالقسوة ويغلب عليه طابع لئيم الى ابعد
حّد. ما
السر الذي يجعل عملية حسابية مثل شابرول + هوبير = فيلم شرير؟
شرح شابرول:
"تعجبني لدى ايزابيل، قدرتها على لعب شخصيات متطرفة
في لؤمها، لكن من دون ان تغفل
جانبها الانساني. كثر هم الممثلون يستطيعون
ذلك، لكن هي تفعله بأسلوب جاف، اي اننا
نجهل من اين تخرج النزعة الانسانية لدى الشخصية، لكنها تظهر للعلن. لا ارى
من كان
يمكنه تقمص هذه الطراوة الصلبة التي تتسم بها. هي التي حضّتني على انجاز
"مدام
بوفاري" الذي كنت اطمح الى انجازه منذ سنوات، لكني كنت خائفاً. فجأةً، قلت
لنفسي: "هيا، صرت في الستين، اذا لم تنجزه الآن، فلن تنجزه ابداً". غير اني
نقيض برغمان:
لست في حاجة الى ان اطارح ممثلاتي الغرام. لا أحب الصخب على
البلاتوه!". أما المخرج
الأميركي الكبير جيمس غراي ففي مقابلة
جمعته مع شابرول نُشرت في مجلة "بروميير"،
حزيران الماضي، قال عن الفنان الراحل: بالنسبة اليَّ، هناك شابرول، فيلليني،
كوروساوا، فيسكونتي، جون فورد. في كاليفورنيا، كان لي استاذ يحب أفلامه.
عرض علينا
مرة "النساء الجيدات" الذي يتضمن أجمل نهاية لفيلم في تاريخ السينما. كان
يذكرني
بـ"ليالي كابيريا" لفيلليني، لكنه أكثر سواداً منه. أما
"الجزّار" ففيه أروع مشاهد
الدفن. استلهمت من الموسيقى في أفلامه، أو بالاحرى من غياب الموسيقى، اذ
كان يستعمل
القليل منها، وهذا ما يصنع الفرق بينه وبين غودار.
• • •
جان لوفيفر يعيدني الى طفولتي من خلال دور فوغاس
الذي كرّسه الى جانب الممثل الهزلي الاول في فرنسا لوي دو فونيس، والسلسلة
الكوميدية "الفرقة السابعة" مع بيار موندي وهنري غوبي. على رغم انه لم يؤدّ
يوماً
دور البطولة المطلقة في هذه الاعمال الهابطة على كل حال، لا تزال تعابير
وجهه عند
تلقيه رد فعل زميل له في معظم ادواره، ماركة مسجلة خاصة بالممثل الذي ساند،
في مسار
فني امتد 50 عاماً، كبار اسماء الشاشة الفرنسية، وعمل في ادارة مخرجين
مكرّسين لا
يقلون اهمية عن ايف اليغري، جوليان دوفيفيه وهنري جورج كلوزو الذي اطلقه في
فيلمه
الشهير Les Diaboliques
في العام 1954. وعلى غرار معظم الممثلين في اوروبا الذين
تخصصوا في فن الكوميديا، لم يبرز لوفيفر في ادوار مهمة، وظل اسمه مرتبطاً
بالاعمال
المتواضعة فنياً وبكوميديات من الدرجة العاشرة، اصحابها جان جيرو او جاك
بينار او
ماكس بيكاس، وفي افضل الحالات جورج لوثنر الذي اعطاه احد اهم ادواره.
في أيامه
الأخيرة، عاش في مراكش حيث كان يمارس
نشاطاته اليومية على نحو طبيعي في المنزل الذي
انتقل اليه قبل 3 سنوات بعد وقوعه تحت سحر المغرب حيث كان يعيش برفقة
شريكته،
وكلابه، وببغائه. كان يقول: "اغرمت بالمغرب، بضوئه ولطف سكانه". هناك افتتح
مطعماً
سمّاه "لا بوهيم"، تكريما لصديقه شارل ازنافور. ومن الادوار
التي التصقت بلوفيفر،
شخصية بول فولفيني، شقيق رجل العصابات
راوول فولفيني، التي تقمصها برنار بلييه،
ومعاً شكّلا ثنائياً في منتهى الطرافة، على غرار لوريل وهاردي في مجال
الفيلم
الفرنسي الاسود. ومن المشاهد التي لا تزال ماثلة في الذاكرة، ذلك الذي كان
يجري في
المطبخ، وفيه قدّم لوفيفر حوارات ممتعة يصعب نسيانها، بعدما شرب احد أنواع
الكحول
المكسيكية. والى اليوم لا تزال هذه اللقطة راسخة في اذهان السينيفيليين.
"اجد فيه
طعم تفاح"، كان جان يقول وفي يده كأس الفيتريول. لاحقا حين لاحظ ان رفاقه
جميعهم
انبطحوا ارضاً بعدما لعبت الخمرة في رؤوسهم، اضاف: "ليس طعم التفاح فحسب...
هذا
المشروب مكون من شيء آخر، الشمندر ربما؟".
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
21/10/2010 |