في الحلقة الأولى من سلسلة (حوارات دراما رمضان) التي تستضيف
فيها 'القدس العربي' شخصيات من داخل الوسط الفني السوري لتلقي
نظرة نقدية شاملة
ومتفحصة على ما يقدم في الموسم الرمضاني من أعمال، وما يفرزه من
ظواهر...يقدم لنا
المخرج السينمائي المخضرم نبيل المالح، قراءة شديدة العمق والجرأة في حال
الدراما
السورية خصوصاً، والعربية بشقيها المصري والخليجي عموماً، وهو
من موقعه كفنان ريادي
مجرّب، يوجه رسائله إلى المخرجين الشباب الذين يوقعون معظم ما يعرض من
مسلسلات
سورية هذا العام، مطالباً إياهم بمزيد من الجرأة والمغامرة، وواصفاً الكثير
مما
قدموه بأنه أسير حالة الاستنساخ البصري والتعبيري وحتى اللغوي...كما يطالب
صناع
مسلسلات البيئية الدمشقية بإعادة اكتشاف دمشق باعتبارها مكانا
لمخاض اجتماعي، وليست
حكاية من الماضي وحسب...وهنا نص الحوار:
·
كيف ترى الملامح الأساسية للموسم
الرمضاني في 2010؟
-
نحن لا نزال في النصف الأول من الموسم...ولا يستطيع أي
متابع أن يقيم المنتوج الدرامي الحالي كقيمة فكرية...أي كحكايا
وموضوعات وأفكار
مطروحة، حتى يكتمل ويكون التقييم عادلاً. ولكن هناك أحكاما تتضح للعيان من
قبيل أن (الابن يشبه أباه) فكما حصل في السينما
المصرية، حيث كل الجيل الجديد في الخمسة عشر
أو العشرين عاماً الماضية، فيما عدا بعض الاستثناءات، خرج من
جعبة مخرجين متوسطين
لديهم معادلات محددة للعمل السينمائي، لكنهم افتقدوا البساطة والبراءة التي
امتلكها
الآباء...نجد في الدراما التلفزيونية السورية أن معظم الجيل الجديد خارج من
جلباب
جيل المخرجين الذين عملوا لديهم كمساعدين، ثم تمكنوا بشطارتهم
وعلاقاتهم أن يصلوا
إلى مقعد الإخراج...وهذا خلق سمة عامة لمختلف الأعمال التي
نشاهدها...فأولاً من
الناحية السردية هنالك شبه اتفاق على تركيبة أو معادلة يتبعها جميع
الكتّاب، وليس
فيها أي ابتكارات جديدة أو أصيلة في سرد الحكاية.ثانياً: وبسبب
من تقليدية السرد،
نتجت عنه بالضرورة تقليدية التنفيذ، أي أنه باختصار ليست هناك أية إضافات
في الشكل
الفني...وهذا ما يحزنني، لأنني أتوقع من الجيل الجديد الذي يتسيّد المشهد
الآن، أن
يملك حس المغامرة والاكتشاف والابتكار...ولكنه وقع في مطب حالة
الحكواتي الذي يملك
كاميرا تساعده على سرد حكايته.
·
بعيداً عن حالة الحكواتية لدى
المخرجين الشباب
كما أسميتها...كيف ترى مستوى الموضوعات المطروحة في الدراما السورية لهذا
العام!
-
من دون تعميم يجب أن ننتبه أولاً للنوع الفني عند نقد وتحليل الموضوعات
المطروحة.. يجب مثلاً أن نفصل الكوميديا عن الدراما الاجتماعية
عن دراما البحث
الإنساني عن البيئة... كل نوع من هذه الأنواع له خصائصه في السرد
والمعالجة. فمثلا
كان مما لفت الأنظار في السنوات الماضية، مسلسل (بقعة ضوء) الذي أثار
إعجابي إلى حد
كبير في الكثير من تفاصيله، بسبب لعبة البحث والتركيز والكثافة
والمغامرة الإخراجية
نفسها، بحيث أصبح له في بعض الأجزاء وجود فني مختلف، وإلى حد ما أصيل عن كل
الأعمال
السائدة. وبالعودة إلى النوع الفني، لا أستطيع أن ألوم بعض الأعمال
الكوميدية التي
شاهدتها في هذا الموسم، لعدم قدرتها على الغوص عميقاً مثل
المسلسل الاجتماعي..
لكنني أعيب عليها أنها الآن استخدمت نفس أدوات الأنواع الأخرى ولم تأخذ
خصوصيتها..
فظهرت بهذا البناء المتداعي الذي رأيناه.
إنني أتحدث بالذات عن الأشكال الفنية،
ولعل الرابط الذي يجمع كل ما نراه هو متوسطية التعبير الفني.. وفي هذه
الحال يقع
العبء الحقيقي على الممثل الذي يجب أن يكون في الحالات الطبيعية واحداً من
أدوات
التعبير، فإذا به يصبح أداة التعبير الرئيسية والأولى في يد المخرجين.
·
هل لك
أن تعطينا أمثلة على هذه الحال؟!
-
عندما أرى بسام كوسا في مشاهد من مسلسل (وراء
الشمس) أكتشف أنه كان الرأسمال الرئيسي في يد مخرج العمل... وهذا يعني أن
المخرج لم
يستعمل أدواته كلغة في بنية إخراجية. وعندما أرى نجوماً مثل منى واصف
وسلافة معمار
أكتشف أيضاً نفس الحالة. باختصار ليس المهم ما نقوله فقط،
وإنما كيف نقوله...فالفن
هو أسلوب، ولم أرَ حتى الآن عملاً خلق لنفسه خصوصية أسلوبية، وهو ما دفع
الكثير من
الأصدقاء للتعليق على محتويات الشاشة في هذا الشهر، بأنني لا أدري هل هذا
المسلسل
الذي أشاهده، هو متابعة واستمرار لما كنتُ أشاهده من قبل أم
مسلسل جديد؟ هناك نوع
من الاستنساخ البصري والتعبيري بل وحتى اللغوي...وأنا حقاً أتمنى أن يستطيع
هؤلاء
الشباب من مخرجي هذه المسلسلات، امتلاك الشجاعة لاكتشاف مفاتيح جديدة
وأساليب
مبتكرة، تميزهم بعضهم عن بعض!
·
ثمة انطباع أولي يفيد بأن
الدراما المصرية تحاول
الارتقاء في هذا الموسم، واستعادة موقعها وسمعتها التي تراجعت في السنوات
الأخيرة... كيف ترى حال الدراما المصرية اليوم؟
-
لا أزال أدور في فلك الشكل
الفني...وأعتقد أن الدراما السورية قد ارتقت كثيراً بسبب دور مدراء التصوير
والإضاءة في تشكيل صورة تعبيرية، بحيث امتدت العدوى إلى
الدراما المصرية التي كانت
تفتقد جذرياً لعنصر تعبيرية الصورة والمكان، والسبب في تخلف الدراما
المصرية لسنوات
طويلة، هو الكارثة التي حلت بها نتيجة لوجود مدينة الإنتاج الإعلامي، حيث
كان كل
شيء مسبق الصنع: الديكورات والألوان والحارات وأماكن عيش
البشر... وانعكس ذلك على
كل مفردات العمل الفني، بحيث أصبح كل شيء مسبق الصنع، مدهوناً وملوناً مع
تغيير بعض
الإكسسوارات. وقد انعكس ذلك الزيف على الكلمة المنطوقة والأداء، بل وحتى
النص...
وكثيراً ما أتذكر أعمالاً كتبت بحرفية بالغة، ثم فقدت نكهتها عند وصولها
إلى
الأستوديو. يجب ألا ننكر أن الصورة التلفزيونية هي تجميع لمنظومة متكاملة
تبدأ من
النص، وتمر عبر العدسة وحتى ضوء الشمعة. وعلى الرغم من وجود
كتاب عظماء في تاريخ
الدراما المصرية كأسامة أنور عكاشة ووحيد حامد ومحفوظ عبد الرحمن، فإن
هؤلاء
افتقدوا إلى المُنتَج الفني بحالاته المتقدمة...وأنا متأكد ومن دون أي
إحساس شوفيني
بأنه كان للدراما السورية تأثيرها الكبير على محاولة ارتقاء الدراما
المصرية اليوم،
فغياب الأستوديو بمفهومه التقليدي، والوجود في أماكن ومفاصل وأجواء الحياة
الحقيقية
للبشر، صنع للدراما السورية خصوصيتها وجماليتها الخاصة... ولا
يستطيع الكاتب هنا أن
يكتب بمعزل عن مشاهداته اليومية بدءاً من الحارة إلى الباعة إلى الوسخ الذي
في
الطريق، إلى تفاصيل الحياة اليومية. هنا أعتقد أن الدراما المصرية اكتشفت
مأزق
الأستوديو وتأثيراتها الجانبية المضرة، وهو الأمر الذي يدمر
مصداقية الدراما
الخليجية بشكلها الحالي.
·
على ذكر الدراما الخليجية...ما
هي أسباب النمطية
الصارخة التي تعانيها برأيك؟
-
الدراما الخليجية لا تزال تدور في فلك القيم
المعاصرة لمجتمع ما زال ضائعاً بين تقاليد لا يستطيع الفكاك منها، ومستجدات
مادية
سريعة ومفاجئة..الأمر الذي صنع نوعاً من الدراما التي ترتكز على سلم قيم
مختلف
تماماً عن ذاك الذي في سورية ومصر وبلدان عربية أخرى. مفهوم
الفقر والحب والصراع له
مفردات مختلفة تماماً في الدراما الخليجية...وأنا شخصياً عرض علي أكثر من
مرة أن
أقوم بإعداد أعمال سينمائية وتلفزيونية لصالح الخليج واعتذرت؛ ليس ترفعاً
وإنما
بسبب إحساسي بان هناك سلماً مختلفاً للقيم يجب أن أفهمه
وأتعايش معه. واحدة من تلك
القيم: الأنثى. فوضعها الدرامي لم يُحسم بعد، على الرغم من أن وضعها
الاجتماعي
محسوم في الكثير من دول الخليج، والمضحك أنه يؤثر على منهجية ومدرسة
التمثيل
والأداء والنص... فالأنثى هناك ليست منتجة اجتماعياً، ولا هي
شخصية تصنع الأحداث،
إلا عبر ثرثرة بصرية وكلامية....ولم يتحدد حتى الآن شكلها كنوع إنساني
وكمفردة
قائمة بحد ذاتها، وهذا ما أشكر في كثير من الأحيان الدراما السورية التي
ارتقت إلى
حد كبير في تكريس صورة متقدمة للمرأة، رغم الاتكاء على تكرار
تعابير دينية فيها
الكثير من الاتكالية، وسحب البساط من تحت القرار الإنساني الحر.
·
هل تغمز من
الإرث الديني الذي تبرزه دراما البيئة الدمشقية؟
-
كل أنواع الدراما زادت فيها
الجرعة الدينية، وأنا ليس لدي من اعتراض على ما يسمى دراما البيئة الشامية،
ولكنني
أعتقد انه آن الأوان لإعادة اكتشاف دمشق من جديد على اعتبار أنها مكان
لمخاض
اجتماعي. وهي سواء أردنا أم لم نرد، ورغم الظروف المادية
الكثيرة فهناك متغيرات
أساسية يجب أن نساهم في تفسيرها، فهمها، تطويرها، وإسباغ نوع من الرؤى على
سؤال إلى
أين...وكيف!
·
بين الجزء الخامس من (باب
الحارة) والجزء الثاني من (أهل الراية)
ومسلسل (الدبور) أي من أعمال البيئة الشامية هذه أثار اهتمامك في هذا
الموسم؟
-
لا أستطيع أن أحكم بدقة الآن، ولكني أعتقد إنه إذا كانت هناك رغبة في
ملامسة موضوع
البيئة، فيجب أن نتعامل معه على أساس تحليلي كقناعة راهنة، وليس كحكاية من
الماضي
فقط...وأنا أعتقد أن دمشق بالذات وبسبب تناقضاتها العجيبة،
والمساحات المتباعدة بين
الحلم والواقع، والنمو ضمن عالم معاصر متجدد فيه الكثير مما نحاول اللحاق
به، وفيه
الكثير مما تخلفنا عنه، مع الإحساس بالذنب لأننا نسير غالباً حاملين إرثاً
من القهر
الذي يثقل خطواتنا، سواء أكان هذا القهر اجتماعياً أو دينياً
أو سلطوياً، هي مجتمع
يمثل بشكل أو بآخر حالة عربية بامتياز، نحاول أن نصنع أجنحة نطير بها، وليس
هناك من
عضلات أو ريش...هكذا أرى دمشق، ولا أراها مجموعة قيم كتلك التي تقدمها معظم
المسلسلات عنها...قيم تحملها ولا تحملني! إن سورية لحسن الحظ،
هي منطقة كيمياء
لتشكيل معادلات مستقبل عربي ما، غامض...ولكنه متحرك!
·
أي من مسلسلات هذا الموسم
شجعك على متابعته بعد مشاهدة بعض مشاهد منه؟
-
ولا عمل...لم يحدث حتى الآن!
·
أي الأعمال رأيت أنه مليء بالفرص
الضائعة التي لم تتحقق؟
-
الجزء السابع من (بقعة
ضوء)
·
في هذه الحال...أي الأعمال شعرت
أنه واعد نسبياً؟
-
مسلسل (ما
وراء الشمس) ومسلسل (أسعد الوراق)
·
ما الذي أعجبك في أسعد الوراق
الجديد؟!
-
العمل فيه رؤية بصرية متميزة، وفيه تعامل مع المشهدية بمفهومها الدرامي
والبصري،
ولكن الديكور المصنع طاغ لسوء الحظ.
·
وما رأيك به من الناحية
الدرامية...بالمقارنة مع كثافة العمل القديم؟
-
لا أستطيع أن أحكم...قبل أن أرى
باقي حلقات العمل.
·
إلى أي حد ترى انه من المجدي أن
تضيع الدراما السورية
طاقاتها في عمل بدوي مثل (أبواب الغيم)؟
-
لا أعتقد أن مثل هذه الأعمال فيها هدر
للطاقة...فهو تنويع، والتنويع مهم جداً، وتبقى عناصر ومكونات الدراما
السورية نبع
متجدد يستفيد كثيراً من هذا التلاقح، والأهم من ذلك كله أن هناك ثقة عربية
وشوقاً
إلى الدراما السورية...فالدراما السورية هي منجز أصيل، وهي
حقاً صناعة وطنية
بامتياز...وبعكس صناعات كثيرة أخرى في بلدنا هي إما صناعات تحويلية أو
موادها
الأولية مستوردة، فصناعة الدراما هي الصناعة الوحيدة المتكاملة
محلياً، وهذا ما
أفخر به.
·
هل ستدخل الدراما السورية في
النفق الذي دخلت فيه الدراما المصرية،
من حيث تفصيل الأعمال على مقاس النجوم، وسيطرتهم على مقدرات وطموحات العمل
الفني؟
-
أعتقد أننا في بداية ذلك النفق وللأسف...ولكن ما قد ينقذنا منه وجود عدد
قليل
من الكتاب الذين يملكون موهبة متميزة وفهماً عميقاً للعالم المحيط.
·
ولكن يا
أستاذ نبيل الكاتب هو الحلقة الأضعف في صناعة الدراما...
وعندما يتبنى نجم ما نصاً
ويبحث عن جهة إنتاجية له، يجعل من الكاتب تابعاً له ومن نصه رهينة بيده؟
-
طبعاً
من المهم أن نخرج من بنية صناعة النجوم، إلى بنية صناعة العمل الفني
المتكامل...
ومن المهم في الوقت نفسه أن نفخر بنجوم يساعدون على فتح أسواق لمنتج فني
سوري، على
ألا يكونوا هم (دلال) أو (سمسار) الصفقة، وإنما جزء من هموم العمل نفسه.
·
أخيراً...هل ترى أمراً صحياً أن
يكون المشهد الدرامي كله من صناعة مخرجين شباب كما
نرى في هذا الموسم، وموسم العام الماضي عموماً؟
-
لا أعتقد أن ذلك أمر صحي، إلا
إذا كانت هناك استثناءات في محاولة تقديم ابتكارات، وهذا يتطلب شجاعة
وثقافة معاً.
ولكن حتى المخرجون المخضرمون نادراً ما
قدموا تجديداً...وأقصد بذلك أنهم كانوا قراء
ممتازين لنصوص ممتازة، ولكن ليسوا بالضرورة أن يكونوا قد قدموا
إضافات على مستوى
الشكل الفني باستمرار.
القدس العربي في
21/08/2010 |