سئل الشيخ حسن البنا أن يعرف نفسه للناس فأجاب بقوله: أنا سائح يطلب
الحقيقة وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس ومواطن ينشد لوطنه
الكرامة والحرية والاستقرار والحياة الطيبة في ظل الإسلام الحنيف، وأنا
متجرد أدرك سر وجوده فنادي: «إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب
العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين».. هذا هو حسن البنا
«الشيخ» الذي استطاع أن يصل إلي الإسلام بصورته الواسعة وبعمقه الكبير،
واستطاع أن يصنع تنظيما عاش معه21 عاما وعاش بعد 61 عاما ومازال يعيش بيننا
بفضل نظام وضعه البنا وإن لم يدركه أصحابه ومريدوه بالشكل الذي كان يريده.
فقد كان حسن البنا دائما يستنكر سؤال لماذا تأخر المسلمون وتقدم
غيرهم؟ وكان يري أنه ينبغي أن نطرح سؤالا آخر هو: لماذا نهض المسلمون
وازدهرت حضارتهم وسادت الدنيا أول مرة؟ والجواب من وجهة نظره «المسلمون يوم
تمسكوا بتعاليم الإسلام سادوا وشادوا وعمروا الأرض وأناروا الإنسانية
وأسعدوا الدنيا بحضارة لم تزل وستظل بهجة الحياة وعنوان الفضيلة، وعندما
تنكروا لدينهم وجهلوه وأهملوه ولبسوه كما يلبس الفرو مقلوبا فوصلوا إلي ما
هم فيه وسيظلون كذلك حتي يعودوا إلي دينهم».
إن القضية في نظر البنا لا تخرج عن كونها سنة من سنن الله في حياة
الأمم، فهو يري أن كل أمة بين طورين لا ثالث لهما يخلف كل منهما الآخر متي
توافرت دواعيه وأسبابه، هذان الطوران هما طور القوة وطور الضعف فالأمة تقوي
إذا حددت غايتها وعرفت مثلها الأعلي ورسمت منهاجا وصممت علي الوصول إلي
الغاية وتنفيذ المنهاج ومحاكاة المثل الأعلي مهما كلفها ذلك من تضحيات
وعندما تنسي الغاية وتجهل المثل وتؤثر المنفعة والمتعة علي الجهاد وتنحل
الأخلاق ويكون مظهر ذلك الإغراق في الترف والقعود عن الواجب حينئذ تأخذ
الأمة في الضعف.
ونذهب للسؤال الأهم هو: ماذا كان يريد حسن البنا؟
المفكر جمال البنا يجيب عنه قائلا: كان حسن البنا رجلا تربويا بفطرته
وطبيعته وقد أراد الله له أن يدخل دار العلوم ليكون معلما وعبر عن أمله
عندما طلب إليه مع بقية الطلبة أن يكتب موضوعا عن أمله بعد التخرج فقال إن
أمله أن يكون مرشدا معلما يقضي سحابة اليوم في تعليم الأبناء ويقضي الليل
في تعليم الآباء هدف دينهم ومنابع سعادتهم، وكان هدفه أن يكون الإسلام منهج
حياة وكان عليه لكي يحقق هذا أن يقدم الإسلام مبلورا مبسطا مركزا وهو ما
فعله في عدد من الرسائل الصغيرة أو المقالات، وأضرب مثلا برسالة التعاليم
التي أعتبره قائما علي الفهم وعرض الفهم في صورة للسلفية المبسطة مع
استبعاد ما أقحم علي هذه الأصول من غشاوات: فقال إنما أريد بالفهم أن نوقن
بأن فكرتنا إسلامية صميمة وأن تفهم الإسلام كما نفهمه في حدود الأصول
العشرين الموجزة:
1-الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعها فهو دولة ووطن أو
حكومة أو أمة وهو خلق وقوة ورحمة وعدالة وهو ثقافة وعلم وقضاء.
2- القرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام
ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف.
3- الإيمان الصادق والعبادة الصحيحة والمجاهدة نور وحلاوة يقذفهما
الله في قلب من يشاء من عباده.
4-الرقي والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب وكل ما
كان من هذا الباب منكر يجب محاربته إلا إذا كان آية من قرآن كريم أو رقية
مأثورة.
5-رأي الإمام ونائبه فيما لا نص فيه وفيما يحتمل وجوها عدة وفي
المصالح المرسلة معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية.
6-كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم «صلي الله عليه وسلم» وكل
ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقا للكتاب والسنة.
7-لكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما
من أئمة الدين ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته.
8- الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين.
9- كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه
شرعا.
10- معرفة الله تبارك وتعالي وتوحيده وتنزيهه أسمي عقائد الإسلام
وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة.
11- كل بدعة في دين الله لا أصل لها وضلالة تجب محاربتها والقضاء
عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلي ما هو شر منها.
12- محبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم
قربة إلي الله تعالي.
13- زيارة القبور أيا كانت سنة مشروعة بالكيفية المأثورة ولكن
الاستعانة بالموتي أيا كانوا وطلب قضاء الحاجات منهم كبائر تجب محاربتها.
14- البدعة الإضافية والتركية والالتزام في العبادات المطلقة خلاف
فقهي لكل فيه رأيه.
15-الدعاء إذا قورن بالتوسل إلي الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية
الدعاء وليس من مسائل العقيدة.
16- العرف الخاطئ لا يغير حقائق الألفاظ الشرعية بل يجب التأكد من
حدود المعاني المقصود بها والوقوف عندها.
17-العقيدة أساس العمل وعمل القلب أهم من عمل الجارحة.
18- الإسلام يحرر العقل ويحث علي النظر في الكون ويرفع العلم والعلماء
ويرحب بالصلح والنافع من كل شئ.
19- قد يتناول كل من النظر الشرعي والنظر العقلي ما لا يدخل في دائرة
الآخر.
20- لا تكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاها وأدي الفرائض إلا إن
أقر بكلمة الكفر.
الإمام حسن البنا احتفظ بالسلفية بكل معالمها تقريبا وإن استبعد منها
الشوائب والغشاوات وهو أمر إن كان يحمد له في قضية الالتزام فلا جدال أنه
كان قيدا علي حرية التجديد كما نراها اليوم وأن مقارنة رسالة التعاليم
بأصول الإسلام كما قدمها الإمام محمد عبده تمثل مدي التزام حسن البنا ومدي
تحرر محمد عبده وإذا كان هناك تبرير فهو أن محمد عبده كان مفكرا حرا ولكن
حسن البنا كان زعيما جماهيريا، والزعيم الجماهيري ملزم باتباع مستوي فهم
جماهيره، فالإمام محمد عبده كان يطلق آراءه وحسن البنا كان يطبق أحكامه
وهناك فرق كبير بين الفكر والتطبيق.
وفي رسالته المهمة عن «مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي»
نظام الحكم يتحدث إلينا كأنه ليبرالي من أبناء ثورة 19 ومن أنصار دستور23.
فهو يشير إلي مسئولية الحكم ووحدة الأمة واحترام إرادة الأمة وهو
يتحدث عن نظام الانتخاب وعيوبه في مصر ويستشهد بكلام لميريت غالي والدكتور
سيد صبري كما ينتقد سياسة الأحزاب وأنه ليس لها مبادئ متميزة وأن رسالتها
الوحيدة هي الحكم، وفي كل ما كتبه البنا ورغم أن هو الذي صك تعبير «دين
ودولة» فلم ترد أبدا كلمة الحاكمية الألهية، وكان أقصي ما وصل إليه الإخوان
- في عهده - هو الترشيح مرتان للمجلس التشريعي، فقد كان حسن البنا بالدرجة
الأولي منظما وهذه هي ميزته بقدر ما كانت هي السبب في ضبط فكرته بما يسمح
به الواقع ومستوي الجماهير العريضة، فإذا كان البنا لم ينجح فيما هدف إليه
من جعل الإسلام منهج حياة فإنه قدم لنا الهيئة الإسلامية القياسية وما
تتعرض له الهيئة من مأزق، وهذا في حد ذاته درس يثري ويعلم الهيئات
الإسلامية. لذلك ليس غريبا أن يكون أول من ذهب إلي اليمن وشارك في ثورتها
وساهم في حرب فلسطين مساهمة لا ينكرها حتي ألد أعدائه.
رؤية حسن البنا كانت أكبر كثيرا مما ظهر منها فلم تكن مصر فقط هي شغله
الشاغل - وإن كانت المنطقة الأهم - لكن العالم الإسلامي كله كان يشغله
ويشغل تفكيره لذلك كان سباقا لفكرة الوحدة العربية بل كان شديد الحماسة لها
فقال في عام 1938: نحن نعلم أن لكل شعب مميزاته وقسطه من الفضيلة والخلق
ونعلم أن الشعوب تتفاوت وتتفاضل ونعتقد أن العروبة لها من ذلك النصيب
الأوفر والأوفي ولكن ليس معني هذا أن تتخذ الشعوب هذه المزايا ذريعة إلي
العدوان بل عليها أن تتخذ ذلك وسيلة إلي النهوض بالإنسانية وأضاف قائلا:
الإسلام نشأ عربيا ووصل إلي الأمم عن طريق العرب وجاء كتابه بلسان عربي
مبين وتوحدت الأمم باسمه علي هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين بحق، وقد
جاء في الأثر إذا ذل العربي ذل الإسلامي وقد تحقق هذا المعني السياسي
وانتقل الأمر من أيديهم إلي غيرهم ثم جاء وأكد في خطاب له عام 1941: أن
العروبة لها في دعوتنا مكانها البارز وحظها الوافر فالعرب هم أمة الإسلام
الأولي ولن ينهض الإسلام بغير اجتماع كلمة الشعوب العربية، فهذه التقسيمات
السياسية لا تمزق في أنفسنا أبدا معني الوحدة العربية الإسلامية التي جمعت
القلوب علي أمل واحد ونحن نعتقد أننا حين نعمل للعروبة نعمل للسلام ولخير
العالم كله.
الدستور المصرية في
01/09/2010
مَنْ قتل حسن البنا؟
محمد توفيق
كان لابد أن يموت!
كل المؤشرات كانت تقول ذلك وهو نفسه كان يعرف أن رأسه أصبحت مطلباً
ملكياً، وأن الملك بنفسه بالتعاون مع الحكومة أرادوا التخلص منه بعد أن
أصبح مؤثراً أكثر من اللازم، وقوياً أكثر مما ينبغي، وقادراً علي إثارة
الجماهير وتعبئة النفوس ومسيطراً علي قلوب مريديه الذين أصبحوا كثيرين
ووصلت أعدادهم قبيل وفاته إلي مليون شخص سواء ممن انضموا إلي الجماعة
بالفعل أو ممن يحبونها ويتضمنون معها ويرون فيها الحل.
ففي مساء الأربعاء 8 ديسمبر 1948م أصدر النقراشي - رئيس الوزراء -
قراره بحل جماعة الإخوان المسلمين، ومصادرة أموالها واعتقال معظم أعضائها،
وفي اليوم التالي بدأت حملة الاعتقالات والمصادرات. ولما همّ الأستاذ حسن
البنا أن يركب سيارة وُضع فيها بعض المعتقلين اعترضه رجال الشرطة قائلين:
«لدينا أمر بعدم القبض علي الشيخ البنا».
هنا أصبح الستار جاهزاً لكي يسدل علي رجل عاش بعد موته مدة أطول من
حياته بكثير، فقد صادَرت الحكومةُ سيارته الخاصّة، واعتقلت سائقه، وسحبت
سلاحه المُرخص به، وقبضت علي شقيقيه اللذين كانا يرافقانه في تحركاته، وقد
كتب إلي المسئولين يطلب إعادة سلاحه إليه، ويُطالب بحارس مسلح يدفع هو
راتبه، وإذا لم يستجيبوا فإنه يُحَمّلهم مسئولية أيّ عدوان عليه.
وفي الساعة الثامنة من مساء السبت 12 فبراير 1949 م كان الأستاذ البنا
يخرج من باب جمعية الشبان المسلمين ويرافقه رئيس الجمعية لوداعه ودقّ جرس
الهاتف داخل الجمعية، فعاد رئيسها ليجيب الهاتف، فسمع إطلاق الرصاص، فخرج
ليري صديقه الأستاذ البنا وقد أصيب بطلقات تحت إبطه وهو يعدو خلف السيارة
التي ركبها القاتل، ويأخذ رقمها وهو رقم «9979» والتي عرفت فيما بعد بأنها
السيارة الرسمية «للأميرالاي» محمود عبد المجيد - المدير العام للمباحث
الجنائية بوزارة الداخلية - كما هو ثابت في مفكرة النيابة العمومية عام
1952.
لم تكن الإصابة خطيرة- لكن الأوامر كانت قد صدرت بتصفيته -، بل بقي
البنا بعدها متماسك القوي كامل الوعي، وقد أبلغ كل من شهدوا الحادث رقم
السيارة، ثم نقل إلي مستشفي قصر العيني فخلع ملابسه بنفسه. لفظ البنا
أنفاسه الأخيرة في الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل، أي بعد
أربع ساعات ونصف الساعة من محاولة الاغتيال، ولم يعلم والده وأهله بالحادث
إلا بعد ساعتين أخريين، وأرادت الحكومة أن تظل الجثة في المستشفي حتي تخرج
إلي الدفن مباشرة، ولكن ثورة والده جعلتها تتنازل فتسمح بحمل الجثة إلي
البيت، مشترطة أن يتم الدفن في الساعة التاسعة صباحاً، وألا يقام عزاء!.
اعتقلت السلطة كل رجل حاول الاقتراب من بيت البنا قبل الدفن فخرجت
الجنازة تحملها النساء، إذ لم يكن هناك رجل غير والده ومكرم عبيد باشا
والذي لم تعتقله السلطة لكونه مسيحيا، وكانت تربطه علاقة صداقة بحسن البنا.
في الأيام الأولي من قيام ثورة 23 يوليو أعادت سلطات الثورة التحقيق
في ملابسات مصرع حسن البنا وتم القبض علي المتهمين باغتياله وتم تقديمهم
أمام محكمة جنايات القاهرة حيث صدرت ضدهم «أحكام ثقيلة» في أغسطس 1954 حيث
قال القاضي في حيثيات الحكم: «إن قرار الاغتيال قد اتخذته الحكومة السعدية
بهدف الانتقام ولم يثبت تواطؤ القصر في ذلك لكن القاضي أشار إلي أن العملية
تمت بمباركة البلاط الملكي، وحكم علي المتهم الأول أحمد حسين جاد بالأشغال
الشاقة المؤبدة والمتهم السابع محمد محفوظ بالأشغال الشاقة خمسة عشر عاماً
والمتهم الثامن الأميرالاي محمود عبد المجيد بالأشغال الشاقة خمسة عشر
عاماً والبكباشي محمد الجزار بسنة مع الشغل قضاها في الحبس الاحتياطي فأفرج
عنه»، إضافة لتعويض مادي كبير تمثل في دفع عشرة آلاف جنيه مصري كتعويض
لأسرة البنا، وبعد حادثة المنشية في ديسمبر 1954 صدرت قرارات بالعفو عن كل
المتهمين في قضية اغتيال حسن البنا، وأُفْرِجَ عن القتلة بعد أشهر قليلة
قضوها داخل السجون.
لكن الحقيقة تؤكد أن حسن البنا لم يمت، فأفكاره عاشت وظلت مؤثرة بعد
وفاته أكثر مما كانت عليه في حياته ومريدوه صاروا أكثر وتعاطف معه البسطاء
من كثرة الهجوم عليه!
الدستور المصرية في
01/09/2010 |