اليوم: الأحد 14 من أكتوبر 1906
مصر ثائرة، والناس تغلي وكأنه خريف الغضب!
حادثة دنشواي ما زالت تلقي بظلالها رغم مرور أربعة شهور علي الحكم
بإعدام أربعة من الأبرياء هم: علي حسن محفوظ ويوسف حسن سليم والسيد عيسي
ومحمد درويش، والحكم علي اثنين بالأشغال الشقة المؤبدة وعلي خمسة رجال
بالجلد 50 جلدة، وكانت كل هذه الأحكام الظالمة بسبب ضابط إنجليزي ثبت في
تقرير الطبيب الإنجليزي أنه مات متأثرا بضربة شمس! بعدما أصاب سيدة مصرية
وفر هارباً.
والزعيم مصطفي كامل يصل إلي الإسكندرية والجماهير تخرج لاستقباله بعد
تنديده بجرائم الاحتلال البريطاني في أغلب دول أوروبا.
والزعيم سعد زغلول يعلن البيان التأسيسي للجامعة المصرية في منزله،
وتم انتخاب اللجنة التحضيرية التي كانت تضم سعد باشا وقاسم أمين وعضوية
ثمانية آخرين.
في هذا اليوم، وفي بؤرة هذه الأحداث، وقبل خمسة أيام فقط من بداية شهر
«رمضان» عام 1324 هـ، في مركز المحمودية بمحافظة البحيرة، أنجبت زوجة الشيخ
أحمد عبدالرحمن البنا - المأذون وإمام المسجد - ولدًا يدعي «حسن» هو الابن
البكر لأبيه لكنه لن يكون ابنا عاديا.
إنه «حسن البنا» الرجل الذي رحل في 12 فبراير 1949م لكنه ما زال حيا -
بعد رحيله بأكثر من 60 عاماً - وحاضرًا ومؤثراً وبقوة وله مؤيدوه الذين
يعشقونه ويرون أنه أعظم رجل في القرن العشرين، وله أعداء يظنون أنه سبب كل
الكوارث التي حدثت لمصر في المائة عام الأخيرة.
«حسن أحمد عبد الرحمن محمد البنا» هو الاسم الكامل المسجل في شهادة
ميلاد الإمام حسن البنا - مؤسس جماعة الإخوان المسلمين - الذي ولد في مركز
المحمودية التابع لمحافظة البحيرة في 14 أكتوبر عام 1906م، لأسرة بسيطة،
فوالده هو الشيخ أحمد عبد الرحمن ولد ونشأ في أسرة ريفية، تحترف الزراعة
بقرية «شمشيرة»، مركز «فوه»، بالقرب من «رشيد» بدلتا النيل محافظة «كفر
الشيخ» حاليا، لكنه سلك طريق التعليم الديني بناء علي رغبة والدته، بدلاً
من فلاحة الأرض، فحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بجامع إبراهيم باشا
بالإسكندرية فدرس فيه منهاج التعليم الأزهري، ثم امتهن مهنة إصلاح الساعات،
في محل الحاج محمد سلطان، الذي كان عضواً «بجمعية العروة الوثقي» التي كان
جمال الدين الأفغاني رئيساً لها، والشيخ محمد عبده نائب رئيسها، ولذلك كان
محل إصلاح الساعات ملتقي عدد كبير من العلماء والوجهاء، الذين عايشهم وسمع
منهم، وتأثر بهم.
وبعد تحصيل العلم، وإتقان صنعة إصلاح الساعات عاد الشيخ أحمد إلي
قريته «شمشيرة» فتزوج، ثم انتقل بزوجته إلي مدينة المحمودية «بمحافظة
البحيرة» مشتغلاً بصنعة إصلاح الساعات.. ومواصلاً الاشتغال بالعلم، وخاصة
علم الحديث النبوي الشريف.. كما عمل مأذوناً شرعياً، ومارس الخطابة في
مساجد المحمودية، وفي عام انتقال الشيخ أحمد إلي مدينة المحمودية، ولد له
ابنه البكر حسن الذي حرص علي أن يذهب إلي «كتاب القرية»، حيث تتلمذ علي يد
أزهري شديد التدين هو محمد زهران.
ومن الكتاب إلي المدرسة الابتدائية في سن الثانية عشرة وهناك التقي
بمدرس متدين آخر ضمه إلي جماعة بالمدرسة اسمها «جماعة السلوك الاجتماعي»
وهي جماعة هدفها ترويض نفوس أعضائها من التلاميذ بالتحلي بالأخلاق الحميدة
في سلوكهم اليومي والتعفف عن الشتائم أو مخالفة تعاليم الدين وكانت
الغرامات المالية هي العقاب للمخالفين، وسرعان ما أصبح الفتي المتدين رئيسا
للجماعة بل إنها لم تلب طموحاته، فاتجه إلي تأسيس جماعة أخري هي «جماعة
النهي عن المنكر» وكان هدفها فرض الالتزام بتعليم الدين من خلال إرسال
خطابات تهديد إلي من تري أنهم لا يلتزمون بهذه التعاليم من بين سكان
«المحمودية».
لكنه لم يلبث طويلاً فقدراته وطموحاته كانت دائماً أكبر مما يصل إليه،
ففي مدرسة الرشاد الإعدادية كان متميزًا بين زملائه، ومرشحًا لمناصب
القيادة بينهم، حتي أنه عندما تألفت «جمعية الأخلاق الأدبية» وقع اختيار
زملائه عليه ليكون رئيسًا لمجلس إدارة هذه الجمعية، ثم تطورت الفكرة في
رأسه بعد أن التحق بمدرسة المعلمين بدمنهور، فألف «الجمعية الحصافية
الخيرية» التي زاولت عملها في حقلين مهمين هما: الأول: نشر الدعوة إلي
الأخلاق الفاضلة، ومقاومة المنكرات والمحرمات المنتشرة. الثاني: مقاومة
الحملات التبشيرية التي اتخذت من مصر موطناً لها.
بعد انتهائه من الدراسة في مدرسة «المعلمين»، انتقل إلي القاهرة،
وانتسب إلي مدرسة دار العلوم العليا، ولا ملاذ لريفي شديد التدين يشعر
بالغربة القاتلة في القاهرة سوي «الصوفية»، ومن جديد يعود «حسن» للاتصال
بجمعية الحصافية وإلي جوارها ينضم إلي جمعية أخري تنظم المحاضرات الإسلامية
وهي جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية، وكانت الجمعية الوحيدة الموجودة
بالقاهرة في ذلك الوقت، وكان يواظب علي سماع محاضراتها، كما كان يتتبع
المواعظ الدينية التي كان يلقيها في المساجد «حينذاك» نخبة من العلماء.
هنا تكونت القناعة الأساسية التي حركت وجدان البنا طوال ما بقي له من
حياته «المسجد وحده لا يكفي» فلابد من رجال يهبون حياتهم للأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، ومنه ومن عدد من أصدقائه الطلاب في دار العلوم والأزهر
تكونت مجموعات للوعظ والإرشاد في المساجد والمقاهي وغيرها من التجمعات
الشعبية، وكان هدف البنا هو سد الهوة بين الحياة الفعلية للإنسان المسلم
وبين التعاليم الإسلامية لجعل الإسلام منهج حياة، ومن القاهرة إلي الريف
انطلق الشبان الذين أصبح من الممكن اعتبارهم النواة الأولي لجماعة الإخوان
المسلمين.
في هذه الأثناء كان البنا حائراً يبحث عن مشورة لدي الجيل الأكبر سنا
من رجال الدين، فتعرف في المكتبة السلفية علي مديرها محيي الدين الخطيب ثم
تعرف علي الشيخ رشيد رضا وأحمد تيمور باشا وفريد وجدي حتي يستلهم من خبرات
هؤلاء طريقا جديداً للعمل من أجل الإسلام.
وفي السنة النهائية بدار العلوم طلب منه كتابة موضوع تعبير يتحدث عن
«الآمال الكبيرة التي تراوده بعد إتمام دراسته وكيف سيستطيع تحقيقها» وعبر
الشاب حسن البنا عن طموحه ومشاعره بقوله: «إن أفضل الناس هم أولئك الذين
يحققون سعادتهم بتوفير سبل السعادة للآخرين وبإعطاء المشورة لهم وتحقيق ذلك
يكون بأحد طريقين» طريقة الصوفية الحق والتفاني بالعمل الصادق في خدمة
الإنسانية أو طريق التعليم وإعطاء النصح ويكمل الشاب «الذي يعرف طريقه
جيدا» كلامه قائلا: أنني اعتقد أن شعبي قد ابتعد عن أهداف إيمانه نتيجة
للمراحل السياسية التي مر بها والتأثيرات الاجتماعية التي تعرض لها تحت
تأثير الحضارة الغربية والفلسفة المادية والتقاليد الإفرنجية، وهكذا فقد
أصبح إيمان الشباب إيماناً فاسداً وسادت بينهم مشاعر الشك والحيرة وبدلا من
الإيمان تفشي الإلحاد بهذه المشاعر ويتخرج الشيخ حسن البنا في كلية دار
العلوم عام 1927 بعد أن حدد خطواته ورتب أفكاره وقرأ المجتمع جيدا وعرف أن
التغيير لن يأتي إلا بالتنظيم والنزول إلي البسطاء والاقتراب من آمالهم
وأحلامهم وإعطاء النصح لهم، فأغلب المصريين بحاجة إلي «مرشد» يدلهم علي
طريق الخير ويأخذ بأيديهم ويكون رمزاً لهم يسيرون خلفه!
كانت الصورة أمام حسن البنا مدرس اللغة العربية -والأول علي دفعته-
كاملة قبل أن يتجه إلي مدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية، ليضع أولي
خطواته علي الطريق الذي بدأت تظهر معالمه طوال السنوات الماضية من خلال من
عرفوه عن قرب ورأوا فيه علامات النبوغ المبكر واستشعروا في طريقته سمات
القائد والمعلم الذي يمكن أن يطمئنوا له.
في 19 سبتمبر 1927 بدأ العام الدراسي، وكان علي المدرس الشاب أن يرحل
إلي مدينة جديدة تماما لا يعرف عنها شيئا سوي أنها ترتبط بقناة السويس وأن
فيها معسكرات للمحتلين الإنجليز.
في هذا المكان وجد الإمام حسن البنا التربة الخصبة لتنفيذ فكرته التي
آمن بها، فقد كان يعلم الأطفال نهارا وآباءهم ليلا ومعظم الآباء عمال
وموظفون صغار وتجار بسطاء، وكان يذهب من المدرسة إلي المسجد ليلقي خطبا
ومواعظ ومن المسجد للمقهي يتحدث ويخطب ويناقش، ومن خلال ذلك كله كان ينتقي
أكثر الناس اهتماما ليكون منهم مجموعات خاصة يمنحها المزيد من وقته، وقد
فعل ما أراد.
ويصف الدكتور محمد عمارة هذه المرحلة في حياة حسن البنا قائلا: مدينة
الإسماعيلية كانت تعاني السيطرة الأجنبية الكاملة عليها، كل شيء للاحتلال
ولشركة قناة السويس حتي لافتات الشوارع مكتوبة بالإنجليزية، أما المصريون
فلا يخصهم في هذه المدينة سوي البؤس لذلك كانت دعوة حسن البنا موجهة إلي
الفقراء من العمال والفلاحين الذين عاشوا الحرمان في مواجهة الامتيازات
الصارخة للمجتمع الأوروبي في المدينة، وبالتالي كانوا علي أتم استعداد
لقبول أفكار المدرس الشاب المتدين.
استمر الشيخ حسن البنا يطبق أفكاره علي أرض الواقع من خلال مجتمع يبحث
عن قدوة ورمز فاتي له مرشدا! يدرك ما يفكرون فيه ولديه إجابات صادقة عن
أسئلتهم بل إنه سعي للاقتراب منهم وساهم في حل مشاكلهم ليثبت أن الإسلام
دين عملي يمكن تطبيق أفكاره بين الناس علي المقاهي وفي المنازل وفي
الدواوين الحكومية و وداخل المدارس التي كان يعرف البنا قدرها وأهميتها
كخطوة أولي لتنفيذ ما يريده من خلال عقول التلاميذ الذين لا يحتاجون إلي
مجهود كبير لإقناعهم حتي اقتربت ساعة الصفر والتي رأي فيها أن فكرته
الأساسية انتشرت والناس أصبحت جاهزة للمرحلة التالية.
فقرر تأسيس جماعة «الإخوان المسلمين».. وتوجه بدعوته إلي مختلف شرائح
المجتمع: إلي العلماء وشيوخ الطرق، والأعيان، والأندية، وكان أول
المستجيبين لدعوته ستة رجال جميعهم من العمال والحرفيين.. فأسس بهم الجماعة
في مايو 1928م. ويتطرق الدكتور عمارة إلي الحديث عن الثقافة التي صنعت عقل
حسن البنا.. وصاغت هذا المشروع الإصلاحي بقوله: إنها كانت مزيجاً من فقه
القرآن الكريم وفقه الهدي النبوي الشريف حديثاً وسيرة وخلقاً..وفقه الواقع
المعاصر والمعيش مصرياً.. وعربياً وإسلامياً.. وعالمياً...والتصوف الشرعي،
البريء من البدع والخرافات.. والذي أخذه عن الطريقة الحصافية التي تأثر
بشيخها السيد حسنين الحصافي، وقال عنه: وكان أعظم ما أخذ بمجامع قلبي وملك
عليَّ لبي من سيرة الشيخ الحصافي - رضي الله عنه - شدته في الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وأنه كان لا يخشي في الله لومة لائم، ولا يدع الأمر
والنهي مهما كان في حضرة كبير أو عظيم .. والسلفية التجديدية الواعية التي
أخذها عن الأستاذ محب الدين الخطيب.. والعقلانية المؤمنة التي تشبع بها من
المدرسة الإحيائية الإصلاحية لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.. ورشيد
رضا.. والمعارف العامة والإنسانية التي رآها «حكمة»، هي ضالة المؤمن، أني
وجدها فهو أحق الناس بها..
ولكن قبل أن يبدأ حسن البنا رحلته في تأسيس جماعة الإخوان المسلمين
كان قد استفاد من كل ما مر به في حياته، ويتضح ذلك مما قاله أخيه الأصغر
جمال البنا في كتابه «تجديد الإسلام» بقوله: آل تراث الأفغاني ومحمد عبده
ورشيد رضا إلي حسن البنا الذي ألم به إلماما حسنا، أخذ عن الأفغاني «القسمة
الجهادية» إن لم تكن الثورية في الإسلام وهي أنسيت طوال سنوات الإصلاح
والاضطرار للمهادنة التي أملتها الظروف علي محمد عبده ورشيد رضا فأعادها
حسن البنا إلي الفكر الإسلامي وجعل الجهاد في سبيل الله أسمي أمانينا كما
استفاد من عقلانية محمد عبده، وإن لم يصل علي مداه، وكان مهيئا لتقبل قدر
كبير من العقلانية والليبرالية بحكم نشأته المدنية، فحسن البنا لم يتعلم في
الأزهر ولم يضع علي رأسه العمامة الأزهرية، وقد كان في الحقيقة ابناً لثورة
19، وغني أناشيدها مراهقا ثم دخل دار العلوم التي أراد الذين أنشأوها أان
يخلصوا الثقافة الإسلامية من تحكمات المذهبيين وكان واسع الاطلاع علي
الثقافة العربية والإسلامية، وأذكر أنني قرأت في مكتبته في مستهل شبابي
تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ورسائل «إخوان الصفا» و«تلبيس إبليس» و«العقد
الفريد» لإبن عبد ربه و«الأغاني للأصفهاني» و«الفهرست» لابن النديم. وكان
من حسن حظه أن مهد له السيد رشيد رضا بتقديمه «السلفية الميسرة» فوفر عليه
ثلاثين عاماً، وبدأ منها وسار بها إلي درجة التبسيط وابتعد عن كل المسائل
الجدلية الشائكة، واستفاد حسن البنا من التجربة الصوفية التي مارسها بعمق
في مراهقته لكنه خلصها من أوزارها.إن العمل العظيم لحسن البنا هو محاولته
أن يقدم الإسلام كمنهج حياة وأنه دون غيره من قادة الفكر الإسلامي استطاع
بعبقريته في التنظيم تأسيس «الهيئة الإسلامية الأم» الهيئة القياسية التي
استلهمتها ونسجت علي منوالها كل الهيئات الأخري، وبهذا نقل الفكر الإسلامي
من ميدان الكتابة - التي لا تمارس إلا بين الأكاديميين والفقهاء - إلي مجال
الجماهير العريضة، وإلي المجتمع بحيث يصبح الإسلام قوة فاعلة بين قوي
المجتمع ولم يقتصر هذا علي مصر بل انتقل إلي بقية دول العالم ولا ينقص من
قدرها أن انشقت منها بعض الفئات، وليس أدل علي عبقرية التنظيم أنه خلال
عشرين عاما فحسب نقل الإخوان المسلمين من جماعة صوفية صغيرة في إحدي مدن
القنال إلي هيئة عالمية تقدم الإسلام كمنهج حياة ولو قدر له البقاء لأجري
من التجديد فيها مثلما أجراه في العشرين سنة الأولي.
الدستور المصرية في
01/09/2010 |